
الراصد : من أخطر ما يهدد الأوطان، إلى جانب أزماتها الحاضرة، أن تبقى أسيرة ماضيها المؤلم، فتستمر في إشعال نيرانه وتغذيتها بوقود الغل وزرع بذور الانقسام.
وفي موريتانيا، تحولت بعض الجراح القديمة إلى أدوات غير مشروعة لصراع سياسي خطير، بدل أن تكون دروسا لبناء المستقبل.
إن التاريخ، مهما كان قاسيا، يمكن اتخاذه مدرسة للتعلم بدل أن يكون ساحة للمزايدة.
ومع ذلك، وفي تأبيد لمشهد الشحن والتوتر، تتواصل محاولات توظيف أحداث 1987 التي راح ضحيتها بعض أشقائنا "لكور"، فضلا عن استغلال إرث العبودية المرير؛ كل ذلك ليس بحثا عن عدالة منصفة بل في مسعى لمكاسب سياسية آنية على حساب السلم الاجتماعي ومستقبل الأجيال.
فإلى متى نظل ندور في فلك المآسي القديمة، نمنحها عمرًا أطول مما تستحق؟ وإلى متى تُستخدم جراح الأمس لابتزاز الحاضر وتعطيل مسيرة البناء من أجل وطن عادل يتسع للجميع؟
على أن تحويل الجراح القديمة إلى أدوات للابتزاز السياسي ليس ظاهرة موريتانية خالصة، بل هو سلوك "بشري" معروف، استخدمته جماعات مختلفة - منها الحركة الصهيونية - لتحقيق مكاسب سياسية ومادية عبر زرع عُقد الذنب في المجتمعات المستهدفة ولاستدرار العطف عبر العالم.
غير أن استمرار هذا النمط في الحالة الموريتانية يهدد بإبقاء البلاد رهينة استقطابات لا تنتهي تمنعها من التقدم إلى الأمام ولن تؤدي قطعا إلى جلب مصلحة أو دفع مضرة وقد تكون لها نتائج مدمرة.
مأساة 1987 واستغلالها
في عام 1987، عاشت موريتانيا أحداثا مأساوية تمثلت في إعدامات طالت ضباطا من قومية "لكور" على خلفية انقلاب عسكري تورط فيه عسكريون على قائد عسكري.
ولا جدال في أن أحداث 87 شكّلت صفحة أليمة من تاريخ البلاد، تستحق الحزن والمعالجة. وقد اعترفت الدولة رسميا بهذه المأساة، فأعاد الرئيس الراحل سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله آلاف المبعدين وأكرم وفادتهم، وأقام الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز صلاة الغائب على أرواح الضحايا ودفع الديات وحصلت تعويضات ذات بعد رمزي مهم.
وهنا كان يمكن أن تطوى هذه الصفحة إلى غير رجعة لولا أن حركة "فلام" حولت الأمر إلى "رأسمال سياسي"، فأحالت المأساة إلى "فرصة" للابتزاز.
الاستثمار في العبودية
ومن جهة أخرى، ورغم أن العبودية كانت واقعا مؤلما في تاريخ موريتانيا، ورغم أن الجميع متفق على بقاء بعض آثارها وعلى ضرورة معالجة تلك الآثار، فإنه ما من منصف اليوم يمكنه الادعاء بوجود حالات استعباد حقيقية، وإن وجدت فالقانون لها بالمرصاد.
لقم تم تجريم العبودية قانونيا، وتحريمها شرعيا، وترذيلها اجتماعيا، بحيث أصبحت وصمة عار في الوعي الجمعي الموريتاني.
ومن هنا فإن حركتي "الكادحين" و"الحر" المجيدتين اللتين كان لهما السهم المعلّى في مناهضتها ألقتا الموضوع وراء ظهريهما وانطلقتا في ميادين الإصلاح والعمل العام.
لكن حركة "إيرا"، ستأتي لاحقا في عام 2008 متجردة من أي مشروع سياسي، لتستثمر في هذا المستنقع الآسن لذلك التاريخ الغابر، في معركة شرسة طالت العلماء الأجلاء بالتحقير وتطاير شررها ليصيب أمهات الكتب المالكية التي ظل الموريتانيون، بمختلف أعراقهم وألوانهم، يجلونها على مر الأيام.
الإفلاس
لقد أبانت بعض الأحداث الأخيرة عن إفلاس سياسي للمشروعين، حدا ببرلماني موريتاني للوقوف مع مجرم أجنبي قتل غيلة أحد مواطنيه، فضلا عن مؤازرة حركة "إيرا" ضمنا لموجات المهاجرين الأفارقة، ولا يزال "مسؤول الهجرة" فيها موقوفا لدى الشرطة بتهم الكراهية والتحريض العنصري.
كل ذلك إلى جانب سيل لم يتوقف من التصريحات النابية والموسومة بالعنصرية لقادة بارزين في الحركة ومنها دعوات لزعيمها دعا فيها مرارا إلى وجوب "تفكيك منظومة الهيمنة العرقية التي تسيطر على مقدرات الدولة".
لا أنفي شخصيا أن "إيرا" تشيطَن أحيانا بسبب أجنداتها السياسية، وهي أجندات مشروعة لو أنها اتخذت لها الوسائل المشروعة، غير الشحن العنصري وبث الكراهية، وأدركت التباين الصارخ بين الدعوة إلى العدالة الاجتماعية والوقوع في فخ التعميم العنصري أو الإثني. لكن خطابها العنيف هو ما يمنح تلك الشيطنة أرضيتها الخصبة.
تستثمر "فلام" و"إيرا" في "مظلمة أبدية" لبقاء الدولة والمجتمع تحت تأثير صوتهما الصاخب لتحقيق مآرب سياسية لا علاقة لها بحقوق الإنسان. ونتيجة لذلك يظل المشهد الموريتاني أسير خطابات متجددة تزرع الشك والكراهية بين مكونات المجتمع، وتمنع تركيز الأنظار نحو تحديات التنمية.
شخصيا، لا أقدم نفسي منتميا لأي عرق أو فئة، وإنما أنا حادب على الوطن، غيور على سلمه ومستقبله، مؤمن بأن الطريق الوحيد للنهوض هو بناء وطن جامع لا مكان فيه سياسيا لمن يقتاتون على جراح الماضي.
هل من علاج؟
وفي كل الأحوال، فإنه ما من سبيل لعلاج هذا الموضوع - في نظري - إلا من خلال:
- معالجة المظالم المتعلقة بالمأساتين عبر سبل إنصاف شخصية، لا سياسية ولا دعائية.
- التعامل ببرودة أعصاب إزاء المسيئين والتغاضي عنهم، واستبعاد الملاحقات القضائية ونزعِ الحصانات ممن يتمتعون بها، ولكن مع ضرورة التعامل بحزم مع أي دعوة للعنف.
- التسريع بوتيرة الإصلاحات السياسية والقانونية والإدارية ليحس الجميع بأنه في دولة مواطنة وعدالة.
- توسيع القاعدة الصلبة للفئة الحاكمة (التي لا يمكن بحال أن تحسب على البيظان) بمزيد من المنحدرين من الفئات الهشة، على مستوى المال والجيش، ليروا ذواتهم في الدولة والنظام.
- ترشيح شخصية وطنية جامعة من قيادات لحراطين في انتخابات 2029 الرئاسية واصطفاف الجميع وراءها نظاما ومؤسسة عسكرية وأمنية وأحزابا سياسية، وهو ما من شأنه أن يسحب البساط من تحت أرجل دعاة التفرقة ويخلق شعورا بأن موريتانيا للجميع لا لطائفة أو جماعة.
ختامًا، يفرض سؤال "إلى متى؟" نفسه بإلحاح على الضمير الوطني. إلى متى سيظل البعض يوظّف جراح الماضي أوراق مناورة في الحاضر، يمارس بها الابتزاز السياسي عبر استثمار خطاب الضحية لتحقيق مكاسب فئوية ضيقة؟
إن المآسي التاريخية ينبغي أن تكون موضع عبرة واتعاظ، لا ساحة مزايدة ومساومة؛ فآلام الأمس لا تعالجها صفقات اليوم السياسية، بل لا يعالجها بحق إلا مشروع وطني صادق، للمصالحة والإنصاف من أجل الانطلاق للبناء.
محمد غلام ولد أميا