الراصد : ترفع من حين لآخر جهات مختلفة، شعارات تطالب بإنصاف ضحايا الرق، ووضعهم في ظروف تمكنهم من مواكبة حياة المجتمع، على وجه المساواة؛ بما يضمن العدالة بين الجميع. وهي في ظاهر الأمر شعارات مشروعة، نتيجة لما في غايتها ، إن صدقت ، من شرف المسعى في ظل وجود الممارسة. لكن حقيقة الإخلاص بين من يحملون هذه الشعارات ، وفي ظل غياب الممارسة مع بقاء مخلفاتها، تمايزت مع مرور الوقت، بين من اتخذها مبدأ حقوقيا لا مناص من تحقيقه، على ضوء تحقيق الحياة أو الموت. متجاوزا الحديث عن وجود الممارسة إلى الجزم بوجود المخلفات التي باتت مؤرقه الوحيد ، وبين من اتخذها وسيلة لإيصال مبتغاه الشخصي حيز التطبيق وكلما خوى الجيب طرق بابا من أبواب كنوز تحريك النعرات العالمي، أو الإقليمي أو المحلي، بل إن الكثير من المحللين يرون أن بعض حاملي هذه الشعارات صنع محليا، ضمن استراتيجية عليا للقيادات السامية، لكنه لقى رواجا عالميا أخرجه عن قدرة الاستهلاك المحلي ولم يعد من المحليين بإمكانه استغلاله، إلا المتضخمون في المال، أصحاب المواقف التي تسعى للإثارة وزعزعة الاستقرار، واستغلته بعض القوى العالمية لأنها بطبعها تدعم كل النزاعات، في سبيل خلق جو من التنافس المحموم، يكرس مبدأ الحاجة إليها لحل أي نزاع.
ولتسليط الضوء على عدم واقعية الدعايات الراهنة وخاصة من طرف بعض القنوات التلفزيونية الناطقة بالعربية والأطراف السياسية العربية الشقيقة، التي سعت إلى تعزيز ملف دبلوماسيتها في بلادنا، القائم على التصرف المثير بالوكالة، عوضا عن الدبلوماسية القانونية، بفعل نفس المسعى اللا موضوعي، في وقت بدت رؤية رئيس الجمهورية لحل مشكل مخلفات الرق واضحة ومعاشه على أرض الواقع.
سنتطرق بعجالة إلى أصول الاسترقاق في إقليم غرب الصحراء، الذي تدخل موريتانيا ضمنه، مع الإشارة إلى ما ميز تعامل سكان هذا الإقليم، عن غيرهم من سكان المعمورة مع الأرقاء، مرورا بما دفع به الاستعمار عجلة الاستعباد، وسنذكر أبرز محطات النضال السياسي والحقوقي الذين عرفهما تاريخ الدولة الوطنية بموريتانيا وكيف تعاملت السلط المتعاقبة على حكم الدولة مع الملف؛
أولا: أصول الرق في إقليم غرب الصحراء وأساليب تعامل سكان الإقليم مع الأرقاء
لم تكن حياة المجتمع الصحراوي مناسبة لاستغلال الإنسان نتيجة لديناميكية الانتجاع ومحدودية النشاط، فالحركة هي السمة الأبرز بحثا عما يسد حاجة المواشي من ماء ومرعى، بعيدا عن نشاطي الزراعة والتجارة اللذان يستوجبان توفير اليد العاملة. ومع تطور حياة اهل الصحراء الذي انطلق من ممارسة التجارة المتنقلة (تجارة القوافل عبر الصحراء) واضطرارهم لإنشاء مراكز تبادل تجاري عرفت لاحقا بمدن القوافل ألزمهم ذلك توسيع نطاق العمل، بتكليف أكثر من عنصر بشري مهام تسويق وحراسة البضائع فضلا عن خدمة القافلة وما يرافقها من عمل.
ثم إن استقرار الصحراويين أجبرهم على ممارسة نوع من الزراعة يتناسب مع عقلياتهم وتاريخهم كزراعة الواحات وما يدور في فلكها من ري ورعاية وصيانة وكان ذلك إيذانا بالبحث عن اليد العاملة لتأمين الحاجيات المستجدة على المجتمع، وفي هذه الأثناء كان شبان جيرانهم في الجنوب وخاصة في الأقاليم المتاخمة لجنوب شرق الصحراء الغربية التي تشكل اليوم جغرافية وسكان دول(مالي ـ النيجر ـ بركينا فاسوـ اتشاد)، يعيشون فراغا من العمل بسبب تحكم العقليات الوثنية التي لا تفسح المجال لغير المتنفذين، خاصة إذا تعلق الأمر بعمل قد يخلص صاحبه من التبعية العمياء.
ولأن تجارة القوافل اعتمدت على عنصري الملح الصحراوي والذهب السوداني كأهم عناصر للتبادل، لا يمكن أن تسير قافة من دون الاعتماد على واحد منهما حسب الوجهة، فقد مكن ذلك الصحراويين من اكتشاف البطالة المنتشرة في شباب جيرانهم ، ولكن هؤلاء الشبان مصيرهم مرتبط بإرادة الإمبراطور الوثني، ومن يريد الاستفادة من خدماتهم يلزمه إرضاء الإمبراطور الذي يستغل منهم -فقط- من يستخرجون الذهب ويزرعون المزارع والباقي بلا مردودية؛ ولمجرد أن أبدى الصحراويون رغبتهم في العمال اتخذهم الإمبراطور تجارة يبادلها بالملح كما يفعل بالذهب، وهكذا توافدت أفواج الشبان من السودان مرافقين للتجار الصحراويين في كل رحلة حتى أصبح التجار بدورهم يبيعونهم عبيدا لمن يرغب في استغلالهم كسلعة وليسوا كسبايا (الشرط الأوحد عند المسلمين للاستعباد).
وعلى بشاعة هذا الفعل وابتعاده عن الإنسانية، ظل الصحراويون أرحم بعبيدهم الذين يشترونهم بمالهم من ملوكهم الذين يبيعونهم مقابل {دراهم معدودة}، فهؤلاء العبيد يتلقون من الشفقة عند أهل الصحراء، الذين يوفرون لهم الأكل والشراب والملبس، ويحددون لهم عملا يزاولونه ، ما لا يتلقونه عند ملوك بني جلدتهم، الذين يحرمونهم من كل مقومات الحياة بما فيها الأكل اللذيذ والعمل الشريف، إذكل أعمالهم مسخرة لخدمة الملك وحتى مأكلهم محرومون من طهيه والملبس محرم عليهم؛ فالعبد الصحراوي أعلى قدما في قبيلته من سيد قبيلة أخرى، ليس لكونه مملوكا لهذه القبيلة أو تلك وإنما لمحوريته كعنصر بشري رغم ما يتلقاه من غبن في صنوف الحياة الاجتماعية.
ولم تقتصر شفقة الصحراويين على عبيدهم في تخفيف العمل والمعاملة كبشر بل إن فقهاء غرب الصحراء طرحوا قضية الاستعباد للنقاش، وبحثوا في مشروعيتها وخلصوا إلى أن أغلب تلك الأساليب التي كانت تمارس خالية من المشروعية؛ يتضح ذلك من خلال ردود الفقيه أحمد بابا بن أحمد المسك بن الحاج أحمد بن عمر بن محمد أقيت المعرف ب(أحمد بابا التنبكتي) التي جمعها في كتاب سماه « الكشف والبيان لأصناف مجلوب السودان» رد فيه على فقهاء توات بعد أن استفتوه بشأن العبيد الذين يجلبون من بلاد السودان، وحددوا له الجهات التي يجلبون منها، وكانت أغلب ردوده بعدم مشروعية الجلب؛ لأنه يتنافى مع المبدأ الشرعي عند المسلمين، الذي يشترط للاستعباد المجاهرة بالكفر والتمنع عن الإسلام، فيقول ” … جوابه أن تعلم أن سبب الرق الكفر وكفار السود كغيرهم في ذلك من سائر الكفار نصارى ويهودا والفرس والبربر وغيرهم ممن ثبت بقاؤه على الكفر دون إسلام حتى العرب… فمن سبي في حال كفره صح تملك كائنا ما كان، دون من أسلم منهم طوعا ابتداء من جميع الأصناف كأهل برنو وكنو وسغاي(يعني السنغاي) وكشنووكبرو وملي(يعني مالي) … فهم مسلمون أحرار لا يجوز تملكهم بوجه وكذا فلان…” ويرد على سؤال طرح القضية من باب أنها وجدت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، ردا استوفى فيه مدى رفضه لتطابق المرحلتين، من حيث توفر شروط الاستعباد؛ بما يفهم منه أنه لا يعطي للاستعباد في مرحلته مبررا كبيرا، يقاس بمبررات فجر الإسلام فيقول” إن حال الناس في زمنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، معلوم لغلبة الكفر حينئذ على الناس، فما يملك حينئذ من الرقيق حاله معلوم لكونه من الكفار لأن من أسلم أيضا حينئذ معلوم والحبشة حينئذ كفار إلا من أسلم كالنجاشي …”.
إنه بمجرد التأمل في الاهتمام الذي حظي به الاسترقاق من لدن هؤلاء الفقهاء في عموم غرب الصحراء، والجدل الذي دار بينهم حوله حتى أحالوه إلى من اعتبروه وقتها أعلمهم، ليحسم لهم الموقف، وأفادهم بضعف مبررات الاستعباد، يتوصل إلى أن سكان هذه البلاد على الرغم من ممارستهم للعبودية إلا أنهم لا يقاسون بغيرهم، لا في القارة ولا في العالم؛ وقد تعزز هذا الموقف بملاحظة النخب السياسية للرق في موريتانيا منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين باعتباره عائقا يحول دون التنمية البشرية.
الشيخ ولد محمد الأمين