
الراصد : تمهيد
يلخص هذا المقال ضرورة إحداث إصلاح جذري لقانون الإجراءات الجنائية الموريتاني، الصادر عام 1983، ليتوافق مع التطورات الحقوقية والتقنية المعاصرة.
ويحدد المقال الأهداف الأساسية للإصلاح وهي:
- تحديث المنظومة الإجرائية: عبر دمج التقنيات الحديثة والرقمنة.
- تعزيز الضمانات الحقوقية: بضمان حق المشتبه به في الاستعانة بمحامٍ منذ لحظة التوقيف وتحديد مدد الحراسة النظرية بشكل واضح.
- إصلاح الهياكل القضائية: من خلال إلغاء نظام المحلفين وتكوين محاكم متخصصة، مثل محاكم الجرائم الإلكترونية والاقتصادية.
- تفعيل بدائل الحبس الاحتياطي: وذلك بتطبيق عقوبات بديلة للسجن، مثل المراقبة القضائية والعمل المجتمعي.
- حماية حقوق الضحايا: عبر إشراكهم في إجراءات الوساطة والصلح.
وأخيرًا، يؤكد المقال أن هذا الإصلاح لا يقتصر على مجرد تعديل النصوص القانونية، بل هو مشروع شامل يهدف إلى بناء نظام قضائي حديث وفعال يوازن بين تحقيق العدالة وحماية الحريات الأساسية.
و إليكم نص المقال
مقدمة: الحاجة الماسة إلى إصلاح جذري
يمثل قانون الإجراءات الجنائية الركيزة الأساسية للنظام القضائي، إذ يُحدد الآليات التي تُمكّن الدولة من إنفاذ القانون وضمان تحقيق العدالة بين الأفراد والمجتمع.
ويؤدّي القانون وظيفة مزدوجة تتمثل في احترام القواعد الموضوعية لقانون العقوبات، وفي الوقت ذاته حماية الحقوق والحريات الفردية من التعسف، وضمان التوازن بين سلطة الدولة وحريات الأفراد.
لقد مضى أكثر من أربعة عقود على صدور الأمر القانوني رقم 83/163 بتاريخ 9 يوليو 1983، الذي ينظم هذا المجال. ورغم التعديلات الجزئية التي طرأت عليه في سنوات 2007 و2010 و2020 و2025، فإن هذه التحديثات لم ترتقِ إلى مستوى التطورات الحقوقية والتقنية الهائلة التي شهدها العالم، وظلت عاجزة عن مجابهة التحديات القانونية والاجتماعية المعاصرة.
يقدم هذا التحليل رؤية نقدية شاملة لتطوير قانون الإجراءات الجنائية الموريتاني، قائمًا على تحليل تشريعي عميق ومعايير دولية، مع الحفاظ على الخصوصية القانونية الوطنية.
كما يهدف إلى دمج الأهداف العامة والخاصة، وتقديم مقترحات تطويرية متكاملة، تركز على الجوانب الأكثر تخصصًا ومهنية، للخروج بنموذج إجرائي متوازن يضمن عدالة فعالة ومنصفة.
أولا: السياق القانوني والاجتماعي لتعديل قانون الإجراءات الجنائية
يشكل تعديل قانون الإجراءات الجنائية في موريتانيا استجابةً لبيئة قانونية واجتماعية متغيرة تتطلب تطوير النصوص القانونية وتحديث الآليات القضائية.، وقد صدرالقانون المذكور بموجب الأمر القانوني رقم 83/163 سنة 1983، وتم تعديله في أعوام 2007 و2010 و2020 و2025، لكن هذه التعديلات بقيت سطحية، ولم تستوعب التطورات التشريعية الوطنية والدولية، مما أفضى إلى ظهور قصور في فعالية القضاء، خصوصًا في مواجهة الجرائم الحديثة كالجرائم الإلكترونية، والفساد، وغسل الأموال، إلى جانب تحديات حماية حقوق المتهمين والضحايا.
- يبرز القصور في محدودية الضمانات الحقوقية، خاصة في مراحل التحقيق، حيث يفتقر القانون إلى إطار قانوني صارم يحدد مدد الحراسة النظرية بوضوح ويكفل الحق في الاستعانة بمحامٍ منذ اللحظة الأولى للتوقيف.
- لا ينسجم القانون الحالي بشكل كامل مع الالتزامات الدولية المترتبة على موريتانيا، بما في ذلك اتفاقية مناهضة التعذيب والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
- من الناحية الاجتماعية، يفرض ارتفاع معدلات الجرائم الاقتصادية والمالية، وتزايد العنف المجتمعي، ضرورة وجود إطار قانوني قادر على تحقيق التوازن بين الأمن والحرية، والتعامل الفعال مع قضايا التمييز والإرث القانوني للرق.
جدول: تطور التشريع الجنائي الموريتاني وتحدياته
العام
أهم التعديلات
التحديات المستمرة
1983
صدور القانون الأساسي
جمود في مواجهة الجرائم المستجدة
2007
إدخال المراقبة القضائية
غياب التنظيم التفصيلي للبدائل
2020-2025
تطوير البنية الرقمية
محدودية التأثير على الحبس الاحتياطي وفعالية الإجراءات
ثانيا: الأهداف الاستراتيجية للتطوير
تتعدد الأهداف الاستراتيجية لتطوير القانون لتشمل جوانب عامة وخاصة مترابطة لتحقيق منظومة قضائية أكثر كفاءة وإنسانية.
- تحديث المنظومة الإجرائية عبر دمج التقنية والرقمنة في كافة مراحل الدعوى الجنائية، من التبليغ والإحالة إلى إدارة الملفات والمحاكمات.
- تعزيز الضمانات الحقوقية وإرساء توازن فعال بين كفاءة العدالة وحماية الحريات، بما يتوافق مع المعايير الدولية.
- ترسيخ العدالة التصالحية عبر توسيع نطاق بدائل المتابعة والعقوبات كأدوات لتحقيق العدالة بسرعة وإنسانية أكبر.
- إصلاح الضبطية القضائية بتحديد معايير واضحة لمنح صفة ضابط الشرطة القضائية، وإخضاعها لرقابة مهنية مستمرة تحت إشراف النيابة العامة، وتطوير آليات التحريات الخاصة مع ضمانات رقابية صارمة لمنع التعسف.
- حماية حقوق المشتبه بهم والمتهمين بتقنين الحق في محامٍ منذ لحظة التوقيف، وفقًا للمادة 3 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وتحديد أطر قانونية دقيقة لمدد الحراسة النظرية مع تسجيل إجراءات الاستجواب وتوفير حق الفحص الطبي المستقل.
- إصلاح نظام العقوبات عبر تفعيل بدائل الحبس الاحتياطي كالرّقابة القضائية (السوار الإلكتروني، الإقامة الجبرية)، وتطوير عقوبات بديلة للسجن، مثل العمل المجتمعي والغرامات التناسبية والدورات التأهيلية.
ثالثا: مقترحات تطويرية متكاملةتتطلب تحقيق الأهداف السابقة تنفيذ إصلاحات هيكلية وإجرائية متعددة:
- إلغاء نظام المحلفين والدورات الجنائية واستبداله بهياكل قضائية متخصصة، مثل المحاكم الجنائية الاقتصادية والسيبرانية، لضمان سرعة البت وتعميق التخصص القضائي.
- تنظيم جلسات متنقلة لتقريب العدالة من المواطنين في المناطق النائية، وتنظيم المحاكمات والاستجوابات عن بُعد عبر تقنيات رقمية تضمن حضور المحامي الفعّال، سرية الاتصالات، وتوثيق الجلسات.
- الإشراف القضائي الصارم على الحراسة النظرية مع تحديد أمد التمديد الذي لا يتجاوز 48 ساعة، إلزامية تسجيل إجراءات الاستجواب، وتوفير حق الفحص الطبي المستقل.
- تقنين الحبس الاحتياطي بتحديد مدد واضحة (6 أشهر للجنح وسنة للجنايات)، إلزام القضاء بتسبيب مفصل، وتفعيل بدائل فعالة كالرقابة القضائية، الكفالة المالية، والإقامة الجبرية.
- تعزيز حقوق الضحايا بإشراكهم في إجراءات الوساطة والصلح، وحماية ضحايا العنف، إلى جانب تطوير نظام السجون وفقًا لقواعد نيلسون مانديلا بشأن معاملة السجناء، مع رقابة قضائية على ظروف الاحتجاز.
- توحيد المنظومة الرقمية القضائية بإنشاء سجل عدلي إلكتروني موحد، نظام تبليغ رقمي معتمد، وأرشفة إلكترونية آمنة للملفات القضائية، مع ضمان سرية البيانات وفق القانون رقم 006/2016 المتعلق بمجتمع المعلومات.
-
رابعا: إصلاح التنظيم القضائي المرتبط بقانون الإجراءات الجنائية
يشكل التنظيم القضائي الركيزة الأساسية لنجاح أي نظام قانوني، إذ يحدد سير العدالة ويضمن حسن تطبيق القانون، كما يعكس مدى تطور النظام القضائي في دولة ما. لذلك، يشكل إصلاح التنظيم القضائي ضرورة ملحة لضمان انسجام الأداء القضائي وتحقيق عدالة فعالة وسريعة مع حماية الحقوق والحريات.
- يمتد دور التنظيم القضائي إلى تنظيم هياكل المحاكم والهيئات القضائية، بالإضافة إلى قواعد التنظيم الإداري والتشغيلي التي تنظم تداول القضايا، ضمان استمرارية العدالة، متابعة تنفيذ الأحكام، والتنسيق بين الجهات القضائية والأمنية.
- يؤدي خلل التنظيم إلى تعطيل مسارات التقاضي، تضارب الاختصاصات، ضعف ضمانات المتقاضين، وضعف الرقابة على تنفيذ العقوبات.
- أقترح إلغاء نظام الدورات الجنائية والمحلفين، واستبداله بهياكل قضائية متخصصة تعزز التكوين والتخصص لدى القضاة وتسهم في تسريع الفصل.
- تنظيم إجراءات التداول والبت الجماعي بوضع قواعد واضحة تضمن الشفافية والمسؤولية القانونية.
- إعادة الاختصاص بالمخالفات إلى الغرفة الجزائية أو إنشاء غرف خاصة بالمخالفات لتوحيد الاختصاصات وتقليل التعقيدات الإجرائية.
- السماح بجلسات متنقلة للغرف الجزائية والمحاكم الجنائية لتعزيز وصول العدالة وتخفيف العبء على الأطراف.
- تنظيم محاكمات واستجوابات عن بعد عبر تقنيات رقمية تضمن حقوق الدفاع والعدالة الفعالة.
- تطوير الهياكل الإدارية للمحاكم والنيابات، مع إنشاء وحدات متخصصة لتعزيز التخصصية والكفاءة، وتعزيز التنسيق بين النيابة العامة والضبطية القضائية.
- تعزيز الرقابة القضائية والشفافية عبر اعتماد نظم تقييم موضوعية وأليات لمعالجة شكاوى المتقاضين، مع احترام استقلالية القضاة.
- حماية الحقوق والحريات عبر تكريس مبدأ الفصل بين السلطات القضائية، ضمان مشاركة الضحايا بفعالية، وإدماج الآليات التكنولوجية مع الحفاظ على ضمانات المحاكمة العادلة.
- مواجهة تحديات التحديث التقني والتنظيمي مع ضمان استقلال القضاء، تأهيل الموارد البشرية، توفير البنية التحتية الملائمة، ودعم التشريعات المرافقة لضمان انسجامها مع التعديلات التنظيمية .
-
الخاتمة :ملامح الإصلاح الشامل
يمثل تعديل قانون الإجراءات الجنائية وتطوير التنظيم القضائي المرتبط به ضرورة ملحة لمواكبة التطورات القانونية والاجتماعية في الجمهورية الإسلامية الموريتانية.
فالإصلاح لا يقتصر على تحديث النصوص القانونية فحسب، بل يمتد إلى تطوير آليات العمل القضائي وتحسين أداء الهيئات المختصة، مع تعزيز حماية الحقوق والحريات الأساسية، وضمان سرعة وكفاءة الفصل في القضايا.
وتؤكد الدراسة أن إلغاء الأنظمة القديمة التي تعيق سير العدالة، وتعزيز التخصص القضائي، واعتماد التقنيات الرقمية، وتوحيد الاختصاصات، تشكل محاور أساسية ضمن رؤية شاملة للإصلاح القضائي.
كما أن تقوية البنية الإدارية والرقابة القضائية، مع صيانة استقلال القضاء، تشكل دعائم حيوية لتحقيق عدالة نزيهة وفعالة.
في ضوء ذلك، يجب على المشرّع مراعاة التوازن الدقيق بين تحديث التشريع وتنظيم العمل القضائي من جهة، وبين احترام ضمانات المحاكمة العادلة وحماية الحريات من جهة أخرى.
هذا التوازن هو الضامن الأساسي لنجاح الإصلاح القضائي، وتحقيق سيادة القانون، وبناء ثقة المواطن في منظومة العدالة.
ختامًا، فإن مراجعة قانون الإجراءات الجنائية وتنظيم القضاء الجنائي ليست مجرد عملية تقنية، بل هي فعل سياسي وقانوني عميق يستهدف بناء دولة قانون حديثة تحترم حقوق الإنسان وتعزز الأمن والاستقرار.
المراجع
- الأمر القانوني رقم 83/163 بتاريخ 9 يوليو 1983، قانون الإجراءات الجنائية.
- القانون رقم 037/1993 المتعلق بالمخدرات والمؤثرات العقلية. الجريدة الرسمية.
- القانون رقم 015/2005 المتعلق بالحماية الجنائية للطفل. الجريدة الرسمية.
- القانون رقم 021/2010 المتعلق بالأسلحة النارية والذخائر.
- القانون رقم 006/2016 المتعلق بمجتمع المعلومات. الجريدة الرسمية، العدد 1354.
- القانون رقم 007/2016 المتعلق بالجريمة السبرانية. الجريدة الرسمية، العدد 1354.
- القانون رقم 002/2018 المتعلق بالتلوث. الجريدة الرسمية، العدد 1405.
- القانون رقم 041/2018 المتعلق بحماية الشهود والمبلغين. الجريدة الرسمية.
- القانون رقم 017/2020 المتعلق بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. الجريدة الرسمية.
- القانون رقم 018/2020 المتعلق بالهجرة. الجريدة الرسمية، العدد 1468.
- القانون رقم 021/2025 المتعلق بمكافحة الفساد. الجريدة الرسمية، العدد 1585.
- الأمم المتحدة. (1988). اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية (اتفاقية باليرمو). نيويورك.
- الأمم المتحدة. (1984). اتفاقية مناهضة التعذيب. نيويورك.
- الأمم المتحدة. (1966). العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. نيويورك.
- الأمم المتحدة. (1990). قواعد نيلسون مانديلا بشأن معاملة السجناء. نيويورك.
- المجلس الأعلى للقضاء. (2023). تقرير إصلاح العدالة في الجمهورية الإسلامية الموريتانية. نواكشوط.
- المرابط، عبد الرحمن. (2021). مبادئ قانون الإجراءات الجنائية وتطورها في الأنظمة القضائية المعاصرة. دار الفكر.