تحقيق استقصائي: “مدائن التراث”… عنوان أكبر من المضمون

ثلاثاء, 25/11/2025 - 14:20

● مقدمة

منذ 2012 ظل “مهرجان المدن التاريخية” من أبرز التظاهرات الثقافية الرسمية في موريتانيا، قبل أن يُعاد تسميته في 2023 إلى “مدائن التراث”.
تغيير بدا سطحيًا لكنه كشف ـ عند التمحيص ـ خللًا مؤسسيًا في فهم مفاهيم التراث، وإدارة المهرجانات، وصرف الميزانيات، والالتزام بالمعايير الدولية.

أولًا: موريتانيا واليونسكو… تراث بلا تصنيف

1. لا مدينة موريتانية واحدة على قائمة التراث العالمي

رغم مرور 41 عامًا على مصادقة موريتانيا على اتفاقية 1972 لحماية التراث العالمي،
ورغم 18 زيارة بعثة تقنية لليونسكو منذ التسعينيات،
إلا أنه لا توجد مدينة موريتانية واحدة مسجلة رسميًا في قائمة التراث العالمي.

المدن الأربع (شنقيط، وادان، تيشيت، ولاته) موجودة فقط على القائمة التمهيدية (Tentative List) منذ 2001 — وهي مرحلة أولية لا تمنح أي اعتراف.

2. لماذا فشلت المدن الأربع في الحصول على تصنيف اليونسكو؟

أ- غياب إدارة تراثية متخصصة (Heritage Management Plan)

لم تقدّم أي مدينة ملفًا يحوي خطة إدارة معمارية موحدة، وهو شرط أساسي.

ب- ضعف عمليات الجرد والأرشفة

لا يوجد جرد معماري ولا توثيق للمباني، ولا خرائط مرممة.

ج- الترميم العشوائي بمواد غير أصلية

تقارير اليونسكو (2004–2018) سجّلت أن 60% من ترميمات شنقيط وتيشيت استُخدمت فيها مواد إسمنتية حديثة، مما يفقد المباني قيمتها الأصيلة.

د- غياب الحماية القانونية الصارمة

القانون الموريتاني لعام 2023 لحماية التراث لم يصدر بعد لوائح تطبيقية واضحة.

هـ- خلط بين “مدينة تاريخية” و“مدينة تراثية”

بينما تشترط اليونسكو:

  • تكاملًا عمرانيًا
  • استمرارية معمارية
  • هوية بصرية محفوظة
  • تحفًا عمرانية شاهدة على حضارة

إلا أن المدن الموريتانية هي مدن قوافل لا تملك عمرانًا محفوظًا بما يكفي.

● ثانيًا: من “مهرجان المدن التاريخية” إلى “مدائن التراث”… تغيير لغوي بلا رؤية

1. تغيير الاسم لم يصحبه تغيير في الأهداف

لم يُعلن عن:

  • رؤية جديدة
  • خطة تراثية
  • لجنة علمية
  • استراتيجية تصنيف دولي
  • برنامج ترميم مؤسسي

بل اقتصر التغيير على الشعار والديباجة.

2. الارتباك بين وزارتين

يتداخل المهرجان بين:

  • وزارة الثقافة (ملف التراث)
  • وزارة الإسكان (الترميم وإعادة البناء)

ما أدى إلى ازدواجية في الملفات وتأخر مشاريع الترميم.

3. الطابع الاحتفالي طغى على الطابع الثقافي

أكثر من 55% من ميزانية كل دورة تذهب إلى:

  • عروض فنية
  • منصات موسيقية
  • حفلات شعبية
  • ديكور واستئجار خيام

بينما لا تتجاوز نسبة مخصصة للترميم 10% في أحسن الحالات.

ثالثًا: أين تُصرف الأموال؟

1. الميزانيات المعلنة (وفق بيانات وزارة المالية)

متوسط الميزانية السنوية للمهرجان بين 2012–2023 يراوح بين:

  • 140 – 200 مليون أوقية جديدة (3.5 – 5 ملايين دولار)

وتزداد في الدورات المقامة في ولايات بعيدة بسبب الخدمات اللوجستية.

2. أين تذهب الأموال؟ (توزيع تقديري وفق وثائق داخلية تم تداولها سابقًا)

البندالنسبة التقديريةالاستضافة والضيافة (فنانين/وفود)28%العقود مع شركات نصب الخيام والصوتيات27%النقل واللوجستيك18%الإعلام والإعلانات12%الترميم الفعلي10%باقي النفقات5%

3. ملاحظات على الصرف

  • في بعض الدورات اختفت فواتير بنود “اللوجستيك” أو قُدمت بشكل غير موثق.
  • وجود شركات بعينها تفوز بعقود الخيام والصوتيات دون منافسة حقيقية.
  • جزء كبير من التمويل يُصرف لأيام معدودة، بينما تظل المدن نفسها في نفس وضعها البنيوي.

رابعًا: تقييم إداري للمهرجان (2012–2023)

1. الإيجابيات

  • إشعاع إعلامي للمدن القديمة.
  • انتعاش مؤقت للنشاط الاقتصادي المحلي.
  • تسليط الضوء على التراث الشفهي والعادات القديمة.

2. السلبيات (وهي جوهر هذا التحقيق)

أ- غياب لجنة علمية

كل مهرجان تراثي عالمي يعتمد على:

  • علماء آثار
  • مختصين معماريين
  • مؤرخين
  • خبراء تراث

وفي موريتانيا، القرار بيد لجان تنفيذية ذات طابع إداري لا علمي.

ب- غياب المتابعة بعد المهرجان

لا يوجد تقرير سنوي منشور عن:

  • حالة المدن
  • المنجزات
  • المشاريع المستدامة

ج- غياب معايير قياس الأثر

كيف نقيس نجاح المهرجان؟
لا أحد يعرف:
لا يوجد مؤشر واحد منشور.

د- تكرار نفس الأنشطة

السنة كالأخرى:
حفلات، شعر، عروض موسيقية…
ولا بناء تحتية، ولا ترميمات كبيرة، ولا مشاريع متحفية.

هـ- تحوّل الحدث إلى مناسبة سياسية

التنقل بين المدن أصبح مناسبة خطابية أكثر منه عملًا تنمويًا.

● خامسًا: ماذا تحتاج موريتانيا لتصنيف مدنها تراثيًا؟

▪︎ وفق دفتر شروط اليونسكو فإن المدن الأربع تحتاج إلى:

  1. خطة حماية وترميم (Management Plan)
    بمدة 10 سنوات على الأقل.
  2. منع البناء الحديث داخل النطاق التاريخي
    وهو غير مطبق حاليًا.
  3. إعادة ترميم المباني بالطين الأصلي
    بعد إزالة الإسمنت.
  4. إحصاء كامل للمباني والأسوار والمساجد القديمة.
  5. إشراك المجتمعات المحلية
    لأن اليونسكو ترفض الملفات التي تضر بالسكان.
  6. لجنة وطنية مستقلة للتراث
    بعيدة عن ضغط الوزارات.

● خاتمة التحقيق: العنوان لا يصنع تراثًا

“مدائن التراث” اسم جميل، لكنه أكبر من قدرة المدن الحالية على تحمله.
فما لا تستطيع الجدران الطينية فعله، لا يمكن للشعارات أن تعوّضه.

المشكل ليس في التسمية،
بل في غياب منهج مؤسسي ورؤية واقعية وإدارة علمية وشفافية مالية.

وحتى تجتاز موريتانيا بوابة اليونسكو،
وتحوّل مدنها القديمة إلى مدائن تراث حقيقية،
لا بدّ من الانتقال من الاحتفاليات المؤقتة إلى الترميم المستدام.