
الراصد : في المؤسسات التي يُفترض أن تكون حاضنةً للعقول والكفاءات، نلاحظ ـ مع الأسف ـ تنامي ظاهرة مؤسفة: يُكلّف الخبير بتمثيل المؤسسة في محطات حاسمة، ليجد نفسه بعد ذلك محل تشكيك، ومطالَبًا بتبرير كل كلمة، وكل خطوة، بل وأحيانًا بالرجوع إلى من هم أقل منه خبرة في نفس المجال الذي كُلِّف هو نفسه بخوضه.
هذه التجربة تتكرر كثيرًا في إداراتنا، وتترك أثرًا بالغًا في نفوس الكفاءات الوطنية، التي بدل أن تُحتضن، تُدفع تدريجيًا إلى العزلة، أو الصمت، أو في أسوأ الأحوال إلى المغادرة.
الخبير حين يُكلف بمهمة فنية، إنما يُفترض أن يُمنح الثقة والصلاحية لإنجازها.
فلا معنى لتكليف بلا تمكين، ولا قيمة لتفويض يليه تحجيم.
وإن كان لا يُؤخذ برأيه، فالأجدر ألا يُكلف من البداية.
بل إن الأسوأ حين يُطلب من الخبير، بعد تكليفه الرسمي، أن يعرض مخرجات عمله على زملائه "للتأكد"، أو أن يتراجع عن تقديمها حتى يستشير من "قد يكون أعلم منه"، وكأن التكليف ذاته كان خطأ إداريًا، وكأن الاختصاص لا يُحترم إلا بشرط خارجي دائم!
هذه الممارسات، وإن بدت بسيطة في ظاهرها، إلا أنها تؤدي إلى هدم أركان الثقة داخل المؤسسات، وتُرسل رسالة خطيرة مفادها: "اعمل، لكن لا نثق بك"، أو "مثّل المؤسسة، لكن لا تتحرك وحدك".
إن العديد من الخبراء الذين عاشوا هذه التجربة، يشعرون بأن جهدهم يُفرّغ من مضمونه، وأن دورهم يتحول من فاعل إلى مجرد منفذ يُراقب باستمرار.
المطلوب اليوم ليس فقط تكليف الكفاءات، بل بناء ثقافة مؤسسية تحترم الاختصاص، وتعزز الاستقلالية الفنية، وتُقدّر الكفاءة حين تظهر، لا حين تُطلب رأفةً أو صدفة.
فالخبير لا يحتاج لمن يُلقنه كيف يعمل، بل لمن يمنحه المساحة ليعمل.
وحين يُكلف، يجب أن يُحترم.
وإن لم يكن مؤهلاً، فلا يُحمّل المسؤولية من الأصل.
لقد آن الأوان لنفكر بصوت عالٍ:
هل نُريد فعلاً إدارات منتجة، أم نُريد إدارات خاضعة؟
هل نبحث عن نتائج، أم عن أطراف تُنفذ دون أن تزعجنا بمبادراتها؟
إن صيانة الكفاءات تبدأ من احترامها.
وإن تثمين الخبرات يبدأ من الثقة بها.
وإن أكبر خدمة نقدمها للإدارة اليوم، هي أن نُخبرها بكل وضوح:
إذا كلفتني، فدعني أعمل... وإن لم تثق فيّ، فكلّف غيري.
أحمدو سيدي محمد الكصري
خبير وطني في مجال التوجيه المهني