سجن التقاليد وتنامي الانحراف/الولي سيدي هيبه

جمعة, 21/02/2025 - 23:50

الراصد : في ظل تنامي النزعة الشديدة نحو العودة الى المفهوم القبلي التقليدي، نشهد اليوم ظاهرة مثيرة للقلق، حيث تتفشى سلوكيات البذخ والإسراف بشكل مفرط، متجاوزة القيم الدينية والاجتماعية التي طالما شكلت الركيزة الأساسية للحياة المجتمعية قبل الدولة المركزية. وإذ لم تعد هذه السلوكيات، التي أصبحت حاضرة بقوة في المناسبات والاحتفالات، مقتصرة على التعبير عن الفرح والتواصل الاجتماعي، فإنها تحولت الى منصات لاستعراض الثروة وتبديد المال بطرق غير مسؤولة والتفاخر بالأنساب من زمن ولى وإثبات المكانة والقوة والتأثير السياسي، ما يعكس غياب الحكمة والمنهج الرشد.
وفي هذه المناسبات، تتناثر الأموال، لا يعلم لها من المصادر المعلومة إلا منها المريب الذي لا يمكن تبريرها؛ تتناثر بإسراف على المنافقين والمغنين والمخنثين والمهرجين والشعراء وأرباب المجون، وتُقام الولائم الباذخة التي تضم افخر المآدب، في مشهد يُظهر ابتعادا مقلقًا عن قيم الاعتدال والتوازن التي حثت عليها التعاليم الدينية والتقاليد الأصيلة. 
ويبقى الأخطر من ذلك أن هذه الممارسات لا تقتصر على تصرفات فردية طائشة، بل تحظى بدعم ضمني تارة وصريح علني أحيانا أخرى من بعض الوجهاء واعيان القبائل والقيادات السياسية المتحورة والروحية التي تشتري بآيات الله ثمنا قليلا، جميعهم يبررونها بالقول والحكم على أنها جزء تليد من العادات ووسيلة عظمى لتعزيز المكانة الاجتماعية.
بالطبع فإن هذه الممارسات تتعارض بشكل صارخ مع تعاليم الدين التي تدعو الى "التوسط" في الإنفاق مع مراعاة "طهر" مصدر المال وتحقيق العدالة الاجتماعية وفق أوامر ونواهي الشرع، كما تخالف متطلبات العصر الذي يستوجب التخطيط الرشيد للموارد واعتماد نهج أكثر حكمة في وتدبير وتسيير الثروة. فالمفهوم الحقيقي للكرم لا يكمن في الإسراف والتبذير، بل في تقديم العون والمساعدة للمحتاجين بطريقة تحفظ الكرامة الإنسانية وتحقق التكافل الاجتماعي في الدولة السوية.
إن هذا النزوع نحو البذخ والإسراف والجرأة في تحصيله، من المال العام نهبا، ومن المتاجرة علنا بكل ممنوع، ومن ابتزاز "العهر" السياسي، لا يمثل مجرد خلل في الأولويات، بل يساهم في تعميق الفجوة بين فئات المجتمع ـ المتباينة أصلا في النظام المجتمعي الطبقي الارستقراطي ـ حيث يتباهى البعض بالمكانة العالية والثروة الفاحشة فيما يعاني اخرون من شدة الغبن والفقر والحرمان. 
وإن الأسوأ من ذلك كله ما تسفر عنه هذه السلوكيات من تآكل لضعيف منظومة قيم طالما مجّدت الكرم الذي يكون ضمن إطار من الحكمة والتوازن، لا في سياق الإسراف المفرط والتفاخر الأجوف، وما سببت هذه الوضعية المختلة من احتدام "التهافت" المحموم على المال العام وجرأة الوصول إليه واستغلاله بسبل ملتوية ووسائل غير مشروعة، مدعومون أصحابها من قبل بعض المسؤولين في مناصب حساسة ووجهاء يؤثرون المصالح الأنانية الضيقة، ومن قبل قيادات روحية تكاد أن تشتري بآيات الله ثمنا قليلا، كلهم يبررون هذا الاصطفاف ويغطون بشكل فج على المفسدين بحجة الحفاظ الواهي على العادات والمكانة الاجتماعية. ويعري هذا السلوك مفارقة كبرى تثبت أن هذه الممارسات تتحدى بوضوح القيم الدينية وتتنافي مع متطلبات العصر. 
ولمواجهة هذه الظاهرة فإنه لا مناص من إعادة النظر في المفاهيم المغلوطة التي تكرّس تغييب "مفهوم الدولة" في سياق "الحكامة الرشيدة" ومنع التغاضي عن الإنفاق الباذخ على خلفية الفساد كوسيلة لأثبات المكانة الاجتماعية الوهمية. ويتنزل في هذا السياق دور قادة الفكر ورجال الدين والمجتمع لتوجيه الشعب نحو تبنّي قيم اكثر استدامة، تحترم التراث الأصيل مع منعها من أن تتحول الى أداه لتعزيز مظاهر الحيف والغبن والترف والانحلال الأخلاقي، وإن الحفاظ على الهوية الثقافية يجب أن يكون مرتبطًا بالحكمة والرشد، لا بالتبذير والغبن والاختلالات البنيوية التي تعكس جميعها خللاً كبيرا في فهم جوهر العادات والتقاليد.
كما تقع المسؤولية على عاتق الجميع، بدءًا من المؤسسات التربوية والدينية، وصولًا إلى النخب السياسية والفكرية والاجتماعية، التي ينبغي أن تعمل على تعزيز وعي مجتمعي جديد، يُعيد للقيم الأصيلة مكانتها الحقيقية، ويؤسس لمفهوم جديد من الاحتفاء والكرم، يتسم بالرزانة والاعتدال، لا بالمبالغة التي تؤدي الى الهدر والتفاخر الفارغ. وإن إرساء مبادئ الحكامة الرشيدة وتوجيه الموارد نحو التنمية المستدامة هو السبيل الأمثل لحماية المجتمع من مخاطر الإسراف والتبذير.
إن استمرار هذه الممارسات ليشكل خطرًا لا يقتصر فقط على الاقتصاد، بل يمتد ليطال البنية الأخلاقية والثقافية للمجتمع. لذا، فإن التصدي لهذه الظاهرة يتطلب جهدًا جماعيًا واعيًا، يرتكز على تعزيز ثقافة المسؤولية والاعتدال، والعمل على إحياء القيم النبيلة التي تقوم على التكافل والإنفاق الرشيد، لا على الاستعراض والتبذير، علما بإٔن مستقبل المجتمعات لا يُبنى على النهب والتبذير غير الواعي، بل على التوازن والحكمة في إدارة وتسيير الموارد، بما يحقق الرخاء ويضمن الاستقرار للجميع.