نموذج من خذلان الأوطان للقامات العلمية الكبيرة —— عزيزة البرناوي

ثلاثاء, 24/09/2024 - 23:41

عندما مرض والدي عالم الاجتماع الكبير والأستاذ الجامعي الوقور الدكتور محمد ولد البرناوي، قبل أشهر قليلة، أعدت شريط ذاكرتي ذلك المساء وأنا أجلس القرفصاء  وحيدة في وسط ممر طويل أمام غرفة العمليات بمستشفى القلب، فبعد صراع مرير مع التوتر و التجلد، قررت أن أسرج ذهني و أندفع بعيدا في ممرات الذاكرة و دواليب الزمن، أفتش عن مسند أو سيف أو آلة مواجهة تركت في مكان ما، تحسبا للحظة عسيرة كالتي أمر بها، فأنا الآن أقف أمام مسار مهني وعلمي حافل لرجل أفنى عمره في بناء طريقه نحو هدف آمن به، ولم تثنه مغريات الفرص الكثيرة عن مواصلة الحفر الدؤوب في نفق ممل، فهل كان أبي يتوقع ما أتوقع الآن لمستقبلي؟ هل ظن مثلي أن النفق الذي شق بصعوبة سيؤدي في النهاية لبراح حلم مزهر على غصن التجلي؟ 

تساؤل على قدر كبير من القسوة،  لن أستطيع مواجهته به وهو بكامل صحته أحرى وهو ممد بصدر منشطر بين أنياب آلات القطع و الكسر و الشق ومشارط الجراحة في غرفة العمليات! 

فظلت خطواتي المتثاقلة  تدفعني في رمادية التحليل المبني على الوقائع المحبطة، كرواية خذلان حزينة كتبت بقلم رصاص شاحب، في أولى صفحاتها ظهر لي ذاك الفتى الأسمر الوسيم المفعم بحماس البدايات و التوق لجمال النهايات، وهو ينزل من الطائرة يتأبط شهاداته العليا و مسودات بحوثه و أجنة أحلامه التي تغازل وجه الأمل، وهو يتأمل شحوب خريطة الوطن، يسابق اللحظة و عقارب السنوات لإنقاذه، كطبيب عطوف يلاحق روح مريضه المرفرفة في قفص جسمه، سادا منافذ عبورها بطوب التطويق ومسعفا مكامن المرض بمصل العلاج، يسابق  أجنحة الاستسلام بغرس مرساة الأمل في قاع تتلاطم فوقه أمواج اليأس. 

ثم في صفحة موالية وقف الشاب العشريني بكامل أناقته و دماثة أخلاقه و غزارة معرفته أمام طلابه في مدرجات الجامعة، ولأن أغلب طلابه كانوا أكبر منه بكثير، لاشك أنه شعر بفخر كبير و أمل بالغ في تحقيق مستقبل زاهر، مؤسس على حصاده العلمي والثقافي الكبير والمبكر، هنا أتقاطع و أبي في تلك اللحظة رغم فرق عقود من الزمن بين اللحظتين، لكن الشعور بصمة عالقة بعجلة الزمن تدور بها باستمرار وتطبعها بتكرار على صفحة الوجود و خد الأزل. 

وفي فصل الانتظار جلس الأستاذ الجامعي الشاب في محطة متوسط العمر يهز إليه بجذع الفضيلة و التمسك بمبادئ العالِم، فتساقط عليه أوراق التهميش، وتهتف بأذنه شياطين الواقع بضرورة القضم ولو لمرة واحدة من فاكهة الحظوة لدى الأنظمة تدله على  شجرة الخلد في المناصب:  فهذه طوابير التملق تناديك و تلك لوبيات الدسائس ترحب بك، وعلى بعد خطوة منك تترامى صكوك التربح من سكب حبر القلم لتبرير سفك دم العلم…

فالتردد على منازل أهل التلاميذ يكسب علاقات اجتماعية  يمكن توظيفها في المتاجرة بالوساطات، و التردد على مكاتب الطلاب  بعد تعيينهم و نجاحاتهم التجارية يحشو الجيب و يذكر صاحبه حتما في الملأ لدى السلاطين و الحكام، كما أن خلع عباءة الوقار ونزع الكلفة بين الأستاذ و  الطالبات الحاليات أو السابقات يفضي للوصول لمراكز القرار عبر التقرب من أزواجهن أو اخوتهن أو آبائهن، أو حتى لدى من وصلت منهن لتلك الوظائف والمراكز، لكن أبي ظل وفيا لجذع مبادئه ملاصقا له يأبى النزوح لرياض الشبهة مهما كلفه ذلك.

فقطع الرجل سبحة عمره ونثرها في طرقات الكدح و الصبر بين أوراقه و كتبه يُكون ويُدرس على مر أربعة عقود الأجيال بعد الأجيال  ويحصد التكريمات والجوائز الدولية غير مكترث بنداءات السقوط و سلالم الهبوط التي تحفه من كل جهة، مع أنه يرى روادها يتنعمون في بذخ الحياة و السلطة..

 وعلى ذلك النهج واصل طبع بصمته في وجدان أبنائه و طلابه حتى سقط قبل أشهر مريضا، لما أصابه سهم تشكل ببطء من كل تلك الخيبات التي تراكمت حوله وجذع مبادئه، على مر عقود من الصبر و الصمود، و الشعور في نفس الوقت بمرارة التهميش و الحيف في  وطنه الذي فضل العمل فيه على البقاء في بلدان أوروبا و العمل في جامعات الغرب التي ترك وراء ظهره في شبابه. 

وهكذا كورقة خريف باهتة يسقط العظماء في هذه الأرض، تحملهم رياح التهميش والتجاهل إلى قاع النسيان، وكذلك سقط أبي، دون سؤال ولا اهتمام من الوطن، وأخيرا وبعد ساعات طويلة خرج من غرفة العمليات ممددا على سرير نكران الجميل، يدفعه شخص منغمس في شاشة هاتفه نحو غرفة الإنعاش، كما تدفع عربات التسوق، بهدوء و برود و لا مبالاة، فخرجت أستنشق هواء الوطن المثخن بأنفاس العابرين، من الذين رفضوا ركوب مصاعد الترف و التمجيد على حساب كرامتهم و ضمائرهم، وأنا أتساءل هل يستحق الشعور براحة الضمير تجرع كل تلك المرارة؟ 

و قبل أمس ودعت أبي في المطار حاملا خيباته و صدأ أحلامه من بلد يبجل حملة الأبواق و يهمش حملة العلم وأسياد الكلمة و المعرفة، إلى بلدان تحتضن المشردين على أرصفة أوطانهم وتوفر لهم الرعاية الصحية رغم إصاباتهم المتعددة في مقطورات أوطانهم الأصلية..
ودعته وأنا أشعر بالذنب تجاهه لما واجهه من عراقيل و عقبات و ما فاته من فرص أحسن في العلاج و تسهيل لإجراءاته مؤخرا بسبب مواقفي السياسية التي اخترتُ بناء على قناعاتي ومرضاة لضميري الإنساني الحر، خاصة عندما قوبلت جل محاولاتي لتكفل الدولة بعلاجه مع الجهات الرسمية بالرفض الضمني تارة و المباشرة تارة أخرى بسبب موقفي السياسي، فالإجابة من الجميع باستثناء رجلين أتحفظ على ذكرهما كانت: ( لو كنتِ ما متّنتِ الراص على موقفك يعود الوالد ماعنده مشكلة يغير…) ثم يسكتون و أبتلع بهدوء بقية إحباطي و أبتعد.. 

ليبقى السؤال عالقا بذهني هل سيبلى كل هذا الحماس في النهاية ونخرج من بوابات الوطن في نهاية العمر بحقائب الخيبة وكدمات مسالخه و كتل أمراضه كالذين سبقونا لنفس المعارك؟!

#بقوة_شعبها_موريتانيا_ستنتصر