الراصد: هل يمكن لبلد بأكمله أن يقتات أربع سنوات كاملة على ذروة هزيلة خلَّفتها أنظمة سابقة، وألا يحرك ساكنا لغيرها؟
إن الحقيقة المُرة التي نتجرَّعها ونحن نخلِّد الذكرى الرابعة لأول استخلاف رئاسي مؤسسي، هي أن النظام الحالي ما زال، إلى حد الساعة، عالة على النظام السابق! عالة عليه في كل شيء: في المنجزات والرجال والمؤسسات، في القرارات والتوجهات والاستراتيجيات، في الأذرع والأدوات.
ولأهل البادية قاعدة عجيبة مفادها أن رعاة الإبل صنفان: صنف يسوق إبله إلى كل كلإ يُذكر له ليلا أو نهارا. وصنف يتثاقل في ذلك ويتذرَّع بأن شبعة ليال لا ينبغي أن تعكِّر صفوه وتقطع راحته. فمثل الراعي الأخير لا ينمو قطيعه أبدا ليصير قطيعين. "إيبْلُو ما تنْگْسمْ!"
ما زلنا لحد الساعة، ودون مبرر واضح، فرصة تاريخية للانتقال السياسي والسير في قافلة القرن الواحد والعشرين، إنها سنوات حاسمة في تقرير مصيرنا.
في الذكرى الأولى لتنصيب رئيس الجمهورية، السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، تمركزت هواجسنا حول الإجماع السياسي والخوف عليه من التدهور إذا لم يجد من يحوله من إجماع جامد إلى إجماع متحرك. وفي الذكرى الثانية، صارت الميوعة الرسمية كابوسنا الأول. وفي الذكرى الثالثة، بدأت الفرضيات تتساقط، من فرضية التخطيط في الخفاء والعمل بهدوء، إلى تحرير العملية السياسية ودعم الحوار والحريات، مرورا بالتغيير ومحاربة الفساد.
اليوم تحل بنا الذكرى الرابعة، وهي مناسبة للمرور سريعا على التطورات البارزة في هذه الأعوام.
التطور الأول والأبرز، هو انتقال السلطة، ولأول مرة منذ استقلال البلاد، من رئيس إلى آخر، بشكل سلمي مؤسسي.. وعن طريق الانتخابات. ولعل ذلك هو السبب في جسامة الآمال المعقودة على هذا العهد.
لكن هل كان هذا الانتقال السلمي بالفعل إنجازا؟ وهل يحسب للنظام الحالي أم هو من إنجاز سلفه؟
التطور الثاني في هذا العهد، هو التنافس الذي وقع بعد الانتخابات الرئاسية بين محمد ولد عبد العزيز ومحمد ولد الشيخ الغزواني، من أجل السيطرة على الحزب الحاكم. وهو، بطبيعة الحال، ليس سجالا مؤسسيا وقانونيا أو على أساس رؤى وبرامج. وإنما هو صراع شخصي للاستحواذ على أداة يتيمة للتحكم السياسي وإعادة التوزيع الزبوني.
التطور الثالث، هو سعي الرئيس الجديد إلى تحييد سلفه واتهامه بالفساد. وهذا ليس جديدا على الساحة السياسية الموريتانية. إذْ أنه لم يأت رئيس موريتاني واحد، باستثناء سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، إلا واتهم سلفه بالفساد. الجديد هنا هو أن عامة الرؤساء الذين حكموا موريتانيا فعلوا ذلك بأنفسهم وصرحوا بفساد سلفهم. أما محمد ولد الشيخ الغزواني، فإنه أراد للتحقيق في عشرية سلفه أن ينطلق من حزب هذا الأخير وبرلمانه، وعلى مسؤوليتهما.
وإذا كان التحقيق المذكور قد تميز في البداية بتعمق غير مسبوق وتنوع، إلا أن الحاصل في هذا الملف، حتى الآن، هو الميوعة وعدم المصداقية، وانقلابه من رافعة سياسية إلى مأزق سياسي. والسبب هو عدم اقتناع الموريتانيين بمحاربة النظام للفساد، لأدلة كثيرة ومضطردة في اليوميات.
التطور الثالث، هو سعي محمد ولد الشيخ الغزواني إلى التميز عن سلفه من خلال ما يسمى التهدئة وتحرير المشهد السياسي. وفعلا، نجح هذا النظام إلى حد كبير في اختراق المعارضة.
غير أن هذه التهدئة كانت، في حقيقتها، ذاتية شخصية، بعيدة عن العهود والاتفاق بين الأطراف على رؤى ومواقف أو خارطة طريق. كانت مجرد تقاربات شخصية: استقبال سياسي معارض هنا، والإنصات لآخر، أو إسكات مدون هناك.
وقد ورد سابقا أننا أدركنا - أخيرا - المعنى الحقيقي للتهدئة، وهو السكوت عن الفساد، وموت العمل السياسي والحزبي والبرلماني، والالتفاف على الحريات العامة وحق المشاركة والتحزب، إلخ
التطور الرابع، هو انتخابات 13 مايو التشريعية والبلدية والجهوية، المشكك فيها على نطاق واسع، من قبل المعارضة ومن قبل عدة أحزاب موالية. وهي انتخابات تعود في عقيدتها وحكامتها إلى ما قبل العصر الرقمي. ويكفيها تراجعا، أنها انتخابات بلا محاضر، وأن الخلية المعلوماتية في اللجنة المستقلة للانتخابات تستطيع بسهولة تحويل نتيجة مرشح إلى آخر.
وإذا استثنينا النفَس القبلي الزائد فيها، وعدم السيطرة على النسخة الجديدة من التزوير، فإن الانتخابات الأخيرة لم تحل مشكلا ولم تأت بجديد: اعتماد الحزب الحاكم على الدولة، وسيطرته هو وإخوانه بالكامل على الجمعية الوطنية والمجالس الجهوية والمحلية.
هناك تطور آخر كبير، لكنه ليس خاصا بنا، وهو الأزمات الاجتماعية الناتجة عن جائحة كوفيد-19، وحرب أوكرانيا. وقد تعامل معهما النظام بالكثير من الارتجال والفساد كما تم إيضاحه سابقا. وقد تفرعتْ من ذلك كله ملفات كبرى وخطيرة قد يأتي يومها.
كما تشي التطورات الأخيرة، مثل انشغال دولة بأكمالها برفع الحصانة عن نائب برلماني صرح في قبة البرلمان برأي قابل لكل تأويل، بأننا فقدنا توازننا.
إن الانحرافات التي تعرفها كل من تجربة النيجر وأنغولا الانتقالية، والتعثرات الواضحة لتجربتنا الموريتانية، وما تشي به السياسات الانتخابية والزبونية الأخيرة من إرهاصات أولى للمراهنة والمضاربة بمصير رئيس الجمهورية، على غرار ما يحدث منذ أن صارت المأموريات محدودة، لتطرح أكثر من سؤال حول القيمة الحقيقية للاستخلاف الرئاسي، وهل هو فعلا تناوب وتغيير؟ وهل يحمل حلا لمشاكل الاختناق السياسي والاجتماعي، والتحديات الاستراتيجية والتنموية؟