الراصد: يجرفني الحنين، ويحملني عبر سرداب السِّنين إلى حيّنا الهادئ، مسقط قلبي، لكصر القديم، ذكريات عن عصابة أطفال مُتواطئة، مُتناغمة، من شتَّى ثلاثٍ وأربعٍ من بنات الأغنياء والمُعدِمين، لا نَتفاوت كثيرا في عموم الأشياء، اللهم إلا العِرْق واللون، ولا نأبه لهما نَقيرًا.
من بين تَلهِّينا المفضَّل خلال ساعات الفراغ الممطوطة، نبش قمامة "انْصاره"،.. والقُمامة حينها كانت "بنت ناس"، وليست فائضًا مَمْقوتا من فواضِل كَنْس الأتربة والأوساخ كحالها اليوم، كانت مَعدنًا طازجًا يحوي كنوزا مُغريَّة،.. قضمة فاكهة، شريحة خبز مُحمَّص، بقايا عَجَّة بيض، قطعة جبن.. لا تستنكف الشهية من شيء، نتناول كلّ ما يصلح للبلع، على مزامير الذّباب وإيقاع قهقهة تخومها بريئة،... ومع ذلك لم نمرض... هذا داخل الحي.
خارج الحي والنُّضج والحكمة، نرفع مُتعة الطقس الترفيهي، فنُنَظِّم طلعات باتجاه المطار القريب جدًّا منا، في أيام معلومة، أيام رحلات الخطوط الافريقية و "إي تي آ" القادمة من فرنسا،... وعند حافة السُّور، حيثُ المكب الرئيسي، وحيثُ الجنَّة ونعيمها الغذائي في شكل قمامة "اكْلاَسْ"، هابطة رأسًا من أوربا.. غالبًا لا يُنهي الرّكاب المرفَّهون أطباقهم،.. تفوح رائحتها في إغراء يحرِّض على تذوقها، حتى أكياس "لبتون" المستعملة لا نُعْرِض عنها، نمتصها!،.. ولم نتسمَّمْ يومًا... هذه البراءات لا تتوفر لجيل اليوم، المُحافَظ عليه أكثر ممَّا يستحق، رغم رداءة صناعته و"شين صَنْعته" .
تردَّت القمامة دراماتيكيا في السنوات اللاحقة إلى رتبة "امْباليتْ"، وقد كان اسمها Poubelle تنحتها كهلات لكصر القديم في لفظة "إبُّو- بَلْ" وهي فعلا belle .
كان من عادة الأسر في لكصر، أن يُقيم معها مدرّس قرآن بدوام كامل، وكان حظنا في سيدة عابدة من "أولاد أبيري" تدعى أمينة، تمتلك شخصية مُصَفَّحة، لكن منَّ الله علينا بأنَّها لا تُفوّت البادية في الخريف،.. وخلال عطلتها ننتقل لمُعلِّمة بديلة، نتكدس في خيمتها، سيَّدة مُسنَّة تُدعى "المرحومة"، تقيم قرب حي "آسكنا”، في رعاية الأسرة الكريمة "أهل افْرَانْسوَا"، أسرة من أفاضل وجهاء لكصر،..
أشهُر الدِّراسة على "المرحومة"، مُتعة من مُتع السياحة الغذائية، والفوضى اللذيذة.
في الصَّباح تحت خيمتها، نتعثَّر في رتل من الأواني، تحوي وجبات عشاء كانت قد بَعثت بها الأسر المُجاورة لها، "إكْوَرْ" و"بظان": كسكس، مافَ، امْبَخَلْ..، نُنهي "كِتبتْ" الصَّباح، وننقضّ على تشكيلة الطعام البائت، وأحيانا "امْقمْللْ"، نتنازعها، نعبث، نشبع.. وفي المساء تُنعشنا المُدرِّسة ب"بِرْقاله"، في قدح منزوع النظافة، تحركها غالبا بأصبعها الذي تلبَّد عليه سُخام "النِّيله" منذ سنة..، تسقط فيها المسبحة، تمتصها لتسقط ثانية بعد لحظات، نرتوي، نتجشأ،.. نُغمس في بقية "البرقاله" بقايا خبر يابس، ملون بالفطر الأخضر أحيانا،... والصحة بخير،.. صفر مرض...
أعود للبيت، أحكي لوالدتي التفاصيل المُقْرفة، مُبَهَّرة ببعض توابل المُبالغة لعلها تَفُكُّ ارتباطي "باللَّوح" فأستريح،.. تُغمض عينيها اشمئزازا، وتكرِّر بالولفية "تْشَامْ بايْ"، والوالدة من خلائقها التَّقزز المُزمن بحكم خلفيتها une Saint Louisienne ، تتنفس النظافة مع الأكسجين، لكن ضعف حَصانتها المعرفيَّة، يَجعلها تنساقُ وراء وَهْمِ التَّبرك المُعشعش في ذهنها، حيثُ تُسَفّهُ قداسة الخُرافة تَجَذُّر الطَّبع، فتتغاضَى عن بعض قوانينها الصّارمة، مُقابل أن تُسَوِّرني أوساخ "لمرابطه المرحومة" بالبركة كلَّما ابتلعتُها!
في الإعدادية رأيتُ البراميسيوم، والمكوّرات المعويَّة تحت المجهر، وبَدأَتْ رحلتي الواعية مع الهوس بالنظافة، والذّعر من الوحوش المجهرية المستوطنة لمحيطي، تجاوزتُ سقف نظافة الوالدة، استسلمتُ لمعقمات الأكل، وتآلفتُ مع تفاهات المُنظِّفات الكيميائية،..
سحبتُ نفسي تدريجيا إلى عالم مُخادع، ظاهره النظافة وباطنه تدمير المناعة الفطرية،..
أصبحتُ حجَّة في الثقافة الصحية بين أقراني،.. استبسلُ في توزيع النصائح الصّحية مَجانا على محيطي حتى الإصابة بالضَّجر.. وأغطِّي بذلك شغفًا مدسوسا بحُبِّ التَّوعية.
مارستُ "الأستذة" الطبيَّة مرَّة على ابنة عمَّتي، محدودة التَّعليم العصري، وهيَّ في وضعية تَضاعُف بيولوجي،.. كانت ضحيَّة مُريحة، لكونها مُذعنة وتمتلك خزانا من التساؤلات المُلتَبسة ، فأهيل عليها من الشَّفقة والوصفات بفوقية علمية تطمر فضولها وتشبعُ غروري، .. في كل زيارة لها للبروفسير "حِمِّين" رحمه الله، تَبُثُّ له ثرثرة عن حالتها، من ضمنها نصائح الدهماء ووصاياها الصّحية،.. و في إحدى الزيارات وقد تقدَّمت بها الشهور، ذكرتْ له أنها استخدمتْ أقراصَ حديدٍ وحمض فوليك بتسمية مُغايرة للَّتي مَنَحها، سألها: وصفها لك طبيب؟، فأجابت: بل وصفتها لي الدهماء،.. قال لها: برافو، هيَّ انتقلتْ من طور النصيحة إلى طور وصف الدواء، هذه السيدة خطر عمومي، حالي حال بعض الأطباء "باتْسروي".
أتمنى اليوم أن أقترض من الماضي بعض المناعة الصَّخرية، .. لكن التسمم البدني يظل أرحم من التسمم الذهني، الأذهان اعتلتّْ هيَّ الأخرى لحد القرف، عمَّت "اتريندات" الشحناء التافهة، وتغوَّل الإسهال اللفظي البذيء.. بالمناسبة، عندي بقايا حبَّات من "افلاجيل".. هل من خدمة؟