الراصد: انديوم (السنغال) – من الشيخ بكاي- قال ديوف ونحن نقترب من مخيم “انديوم للاجئين: “مضت ستة أعوام ونحن في هذه الاكواخ الحقيرة والعالم غافل عن مأساتنا، فمتى نعود؟.. ويرد النقابي الماركسي السابق – الذي طردته الحكومة الموريتانية إلى السنغال عام 1989 مع غيره من الذين اتهمتهم بانهم سنغاليون زوروا جنسية البلد- على نفسه: “الآفاق لحد الآن مغلقة ويبدو ان مستقبلنا هو ما سيقرره المتطرفون بعد فشل الديموقراطيين منا في إقناع الحكومة بتقديم حد أدنى نقبل به”. ويضيف ديوف: “ستكتشف بنفسك خطورة أوضاعنا لكن أيضاً تأثير رفض السلطات التعامل مع المعتدلين على مستقبل العلاقات بين الموريتانيين السود والعرب”. ويوضح: “انا لن استطيع مساعدتك في هذا المخيم فهو خاضع للمتطرفين، الذين يعتبرونني وزملائي عملاء لمجرد أننا ذهبنا إلى نواكشوط طالبين التفاوض”.
تداخل الأزمات:
تقدر المفوضية السامية لشؤون اللاجئين عدد “الموريتانيين” السود اللاجئين في السنغال بـ 55 ألفا موزعين على 271 مركز تجمع في ثلاث مقاطعات سنغالية مطلة على “نهر السنغال” الذي يفصل بين البلدين.
وطرد هؤلاء العام 1989 اثر أحداث عنف عرقية تحولت إلى مذابح راح ضحيتها مئات الأشخاص من رعايا موريتانيا والسنغال في كل منهما، وطرد مئات الآلاف ونهبت ممتلكات الكل.
وكان يمكن أن تمر الأزمة الموريتانية – السنغالية كأي أزمة عادية بين بلدين متجاورين لو لم تكن تلك الأحداث في حقيقتها تعبيراً عن أزمة داخلية في موريتانيا فجرتها قوى سياسية سنغالية تلتقي مع أخرى موريتانية سوداء في الحلم بإقامة دولة لقبائل “الهالبولار” الإفريقية في منطقة النهر.
ووقعت الأحداث على خلفية الصراع بين نظام الحكم الموريتاني وحركة “قوات تحرير الأفارقة السود في موريتانيا” العنصرية المتطرفة التي نزلت إلى الشارع في نهاية 1986 وقامت ببعض أعمال العنف، ووزعت منشورات تدعو إلى طرد العرب وإقامة دولة للسود، قبل أن تحبط السلطات مخططاً وضعته الحركة لتفجير الأوضاع الداخلية وإغراق البلد في حرب أهلية .
واعتقلت السلطات القيادات السياسية للحركة لكن الجناح العسكري رد بعد عام بمحاولة انقلابية أحبطت في اللحظات الأخيرة وسط استغراب وهلع في أوساط الغالبية العربية.
وعمدت السلطات إلى مواجهة السود مرتكبة الكثير من التجاوزات التي حملت مسؤوليتها لأشخاص تطرفوا في تنفيذ الإجراءات الأمنية والقانونية، فقد مات خمسة معتقلين في السجن بسبب سوء المعاملة.
وصمت البعض من القوى القومية العربية عن ممارسات الأجهزة ضد السود، فيما اتهم البعض بالاندفاع في تأييد ممارسات هذه الأجهزة، وبالمشاركة في القمع من خلال مواقع يحتلها في المؤسسة الأمنية والجيش.
وارتفعت شعبية ولد الطايع في الأوساط العربية العادية في شكل عام.. وانطلق الكل في مواقفه من أن الحركة الإفريقية لم تستهدف نظام الحكم وحده، بل الأسس التي تقوم عليها الدولة.
في هذه الأجواء انفجرت الأزمة مع السنغال التي كان سببها المباشر مناوشات على الحدود بين مزارعين سنغاليين ورعاة موريتانيين “سود”، رد عليها السنغاليون بنهب المحلات التجارية التي تملكها الجالية العربية الموريتانية في السنغال. وتطورت الأوضاع بسرعة إلى مذابح في كل من البلدين.
ووجدت أطراف متعددة في الأزمة فرصة لتحقيق أهداف معينة. فالحكومة السنغالية كانت تتخبط في أزمة سياسية واقتصادية وتواجه تحالفاً من أحزاب المعارضة يريد إسقاطها بتحريك شارع متوتر تضربه المجاعة والبطالة.
وكانت للحكومة الموريتانية حساباتها فهي نظام عسكري معزول في المنطقة المغاربية والإفريقية ويتعرض لضغوط شديدة من فرنسا ودول غربية أخرى، ويواجه أزمة عرقية وعصياناً مدنياً وعسكرياً من الأقلية التي ظلت الأنظمة السابقة عليه تجاملها وتعتبر موضوعها من المحظورات التي ينبغي عدم إثارتها خوفاً من الاتهام بالعنصرية وإغضاب فرنسا الشريك الغربي الأهم الذي لم يخف أبدا انه يحمي السود ويعول عليهم وحدهم في حماية الثقافة الفرنسية في المستعمرة السابقة التي بدأت في عهد ولد الطايع تبتعد عن إفريقيا باتجاه العالم العربي وتسرع خطوات التعريب.
ووجد النظام الموريتاني في الأزمة فرصة لتصفية الحسابات مع السود، وحتى مع فرنسا والسنغال اللتين يتهمهما الموريتانيون باستغلال موضوع الجنوب كلما كانت هناك أية مشاكل مع الأنظمة الموريتانية، أو كلما حاولت موريتانيا الاقتراب من العالم العربي وتقليم أظافر اللغة الفرنسية.
وكان ولد الطايع يدرك انه في هذه الظروف حاصل على الغطاء الشعبي الكافي لمده داخلياً بالقوة اللازمة للمواجهة.
وهناك المعارضة السنغالية التي تريد توريط نظام الرئيس عبدو ضيوف والتي بدأت، منذ انفجار الأزمة بين النظام الموريتاني والسود، المزايدات وتأليب الرأي العام السنغالي خصوصاً قبائل “الهالبولار” الموجودة في موريتانيا والسنغال ودول افريقية أخرى والتي تعتبر منطقة نهر السنغال “ارض ميعاد ينبغي أن تعاد عليها أمجاد القبيلة”.
وهناك الموريتانيون السود أنفسهم خصوصاً “قوات التحرير الافريقية” التي تجد في الأزمة بداية لتدويل مشكلة السود، واتخاذ السنغال قاعدة لعملياتها ضد ما سمته تارة “نظام الأبارتيد” وأخرى “نظام البضان”. وسجلت شهادات موريتانيين عرباً رأوا موريتانيين سوداً يعرفونهم بالأسماء وهم يهاجمون الجالية الموريتانية في السنغال خلال الأحداث.
وفي خضم المذابح هرب الناجون أو طردوا، لكن النظام السنغالي طرد أيضاً مواطنين سنغاليين تعود أصولهم البعيدة إلى موريتانيا، ما منح النظام الموريتاني فرصة لطرد “المتجنسين” سواء أكانوا جدداً أم قدامى. وتطرفت الأجهزة الموريتانية فطردت سكان بعض القرى الموريتانية السوداء تحت غطاء طرد “المتجنسين”، ونزح سكان قرى أخرى من تلقاء أنفسهم إلى السنغال خوفاً من أعمال العنف.
وإذا كان السنغاليون من أصول موريتانية اندمجوا في المجتمع الموريتاني ولم يطالبوا بالعودة، فان الموريتانيين من أصول سنغالية وغيرهم من المطرودين خطأ والفارين السياسيين من أحداث 1986 الداخلية تجمعوا في مخيمات في المناطق السنغالية القريبة من موريتانيا مطالبين بالعودة تحت إشراف الأمم المتحدة، في حين امتنعت السلطات الموريتانية حتى الآن عن الاعتراف الصريح بوجود لاجئين موريتانيين في السنغال وإن كانت تقبل عودتهم سرا.ً
انقسامات وضغوط:
يعيش اللاجئون ظروفاً قاسية، فقد تضاءلت كميات الأغذية التي تقدمها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. وتقول المفوضية إنها ستعجز عن الاستمرار في تقديم الغذاء للاجئين الذين تراجع الاهتمام بمشكلتهم ما جعل منظمات إغاثة أخرى توقف ما كانت تقدمه لهم من عون .
ويقيم اللاجئون في أكواخ من أعواد الشجر والأعشاب الميتة، ما يجعلهم عرضة للمطر والبرد في موسمي الخريف والشتاء، ولحرارة الشمس الحارقة في موسم الصيف. وهم يواجهون ظروفاً صحية قاسية خصوصاً في هذه الفترة التي يفيض فيها النهر، فتتحول مراكز تجمعهم إلى أرضية للطين والوحل، وتنتشر الأمراض الموسمية بسبب المياه الراكدة ولدغات البعوض ومختلف الحشرات الأخرى، ويعتمدون في العلاج على مراكز متواضعة يقدم فيها ممرضون محليون العلاجات الأولية. وتستقبل المستوصفات السنغالية الحالات المرضية الأخطر.
ويشعر اللاجئون بثقل الضغوط فأوضاعهم المعيشية في تدهور مستمر، والسلطات الموريتانية تسمح لهم بالعودة من دون ضمانات. والسلطات السنغالية ترى في وجودهم على أرضها عرقلة لإعادة علاقاتها مع موريتانيا إلى ما كانت عليه قبل أحداث 1989.
وكانت الحكومة الموريتانية قالت إنه “يحق لكل موريتاني أن يعود إلى بلده في الوقت الذي يريد”، وأفهمت سكان المخيمات عبر وسطاء أنه في مقدورهم العودة في شكل فردي ومن دون أي ضمانات. وهذا ما دفع البعض إلى العودة، لكن الغالبية التي يتحكم فيها الناشطون السياسيون رفضت ما لم تقدم الحكومة ضمانات مستقبلية، وتسمح لبعض منظمات الأمم المتحدة بتنظيم العملية.
وقبلت موريتانيا العودة السرية بعد استئنافها العلاقات الدبلوماسية مع السنغال عام 1992، واستجابة لضغوط فرنسية. وبدأت أعداد من اللاجئين التسلل في أعقاب التصريحات الموريتانية، وشهد تشرين الثاني نوفمبر المنصرم قرار مجموعة تتألف من 700 شخص بالعودة إلى البلاد من دون شروط.
وقد استعانت السلطات في إقناع هذه المجموعات ببعض الشيوخ السود الذين أرسلوا في مهمات سرية إلى المخيمات، كما استخدم نفوذ شخصيات قبلية عربية معروفة بعلاقاتها التاريخية القوية مع السود.
وقابلت السلطات عودة الأفواج الجديدة بقدر من العناية، وسمحت بجمع تبرعات لصالحهم. لكن العائدين واجهوا مصاعب جمة، كان من أبرزها مشكل السكن، فقد كانوا قبل طردهم يعيشون تحت بيوت من الطين والأخشاب على ضفة النهر لم تعد صالحة بعد أعوام من الإهمال في غيابهم.
وتدخل بعض المنظمات الخيرية لمساعدة العائدين المحتاجين والسكن والعلاج، وقدم بعضها خيماً وأدوات زراعية؛ وكان بعض العائدين محظوظاً إذ وجد أن السلطات لم تمنح الـ 15 هكتاراً من الأراضي الزراعية التي كان يملكها لغيره، كما جرى لسكان قرى أخرى عادوا ليجدوا ملاكا جدداً يستغلون أراضيهم.
ومنذ هذا التاريخ ازداد معدل تسلل العائدين الذين واجهوا المصاعب نفسها، خصوصاً مشكلة الممتلكات التي استولى عليها الغير الذي هو في الغالب من الموريتانيين الذين طردتهم السنغال فعوضتهم السلطات الموريتانية بممتلكات سنغاليين أو موريتانيين من أصل سنغالي.
وقبل عام كانت عودة السود من دون أي ضمانات أو اعتراف صريح بأن السلطات طردت موريتانيين مسألة حيوية سياسياً للنظام الموريتاني، فقد كانت المعارضة والصحافة تثيران من حين لآخر حملة حول موضوع السود وحقوق الإنسان في صورة محرجة للنظام، وكانت فرنسا التي قبلت تبني نظام الرئيس ولد الطايع بعد انتخابات كانون الثاني يناير 1992 تمارس ضغوطاً شديدة عليه بهدف إسكات الحملة، هذا إضافة إلى الموقف الأميركي المتسم بالتشدد والذي ما زال كذلك وان عرف نوعاً من الخفوت. لكن تحسن مركز الرئيس الطايع بمرور الزمن محلياً ودولياً والهزائم السياسية التي مني بها خصومه في الداخل ويأس المعارضة والصحافة من حملات بدت غير مجدية، أمور أضعفت موقف اللاجئين التفاوضي في أي حل للمشكلة.
ويبدو اللاجئون أنفسهم عاجزين عن التوصل إلى صيغة موحدة، بل إن العلاقات بين بعضهم البعض سيئة للغاية.
ويتوزع المخيمات تياران يشمل الأول حركة “فلام” (اختصار اسم “قوات تحرير الافارقة السود في موريتانيا” بالفرنسية). ويشمل الثاني الجناح الأسود من حركة معارضة تشكلت في فرنسا عام 1993 باسم “الجبهة المتحدة من أجل الديموقراطية في موريتانيا”، وضمت إلى جانب السود بعض الموريتانيين العرب المقيمين في فرنسا، لكن معظم أعضائها انضم إلى حزب “اتحاد القوى الديموقراطية” المعارض الذي يقوده أحمد ولد داده وأعضاؤها في الغالب ماركسيون سابقون.
في مخيم “انديوم” :
وتصل علاقات الطرفين في المخيمات إلى ما يشبه القطيعة. وتصادف وصول بعثة الوسط” إلى مخيم “انديوم”، الذي هو أكبر المخيمات ويسيطر عليه مؤيدو “فلام”، مع اقتياد رجال الدرك السنغالي أحد قادة المخيمات لاستجوابه. فقد اشتكاه ممثلو “فلام” للسلطات في إطار صراع بين الطرفين على حنفية ماء.”
وقال كبي صادبا وهو من قياديي “الجبهة المتحدة من أجل الديموقراطية” لـ الوسط” إن قوات تحرير الأفارقة السود (فلام) “منعت اللاجئين الذين يناصرون الجناح الديموقراطي من التزود بالماء من حنفية عمومية وضعتها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين للكل ما جعلنا نطالب بوضع أخرى أعطيّ مفتاحها لي، ومنذ ذلك التاريخ وهم يلفقون لي التهم حتى أعطت السلطات مفتاحها لشخص آخر، وقد عدت الآن من مكتب الدرك حيث استجوبت بناء على تقارير كاذبة قدمها بعض عناصر “فلام”.
ويتهم كبي السلطات السنغالية بالانحياز إلى جانب “فلام” وهي تهمة يرددها كل الذين تحدثوا إلى “الوسط” من مناصري الجناح “المعتدل”.
ويقول ديوف ابراهيما: “سبب هذا الانحياز هو رفضنا أن نكون ورقة تستخدمها الحكومة السنغالية حسب مقتضيات سياستها، ورفضنا خلال الأزمة الموريتانية السنغالية التشكيك في موريتانيا بمكوناتها البشرية الحالية ورفضنا تبني المطالبة السنغالية ببعض الأراضي الموريتانية وعدم إيماننا بأحلام اللوبي الهالبولاري (الهالبولار قبيلة منتشرة في موريتانيا والسنغال وعدد من الدول الإفريقية).
ويأخذ ديوف على السلطات السنغالية “رفضها الاعتراف برابطة اللاجئين الموريتانيين في السنغال التي تقدمنا بطلب الاعتراف بها منذ 1989، واعترافها السريع برابطة تقدمت بها “فلام” منذ عامين بعد فشلها في الانتخابات التي أجريناها في المخيمات وانسحابها من الرابطة التي ظلت تعمل من دون إذن من السلطات.
الحل العسكري:
يقول باموسي وهو صحافي سابق في التلفزيون الموريتاني طردته السلطات خلال الأحداث لـ “الوسط”: “تتفق الحركات الثلاث على المقاومة المسلحة، لكنها تختلف حول ضد من؟ ومع من؟ وكيف؟ ومتى؟”. ويوضح باموسي الذي ينتمي إلى الجبهة المتحدة من أجل الديموقراطية: “نحن نفضل الحوار وتجنيب البلاد حرباً أهلية لا أحد يستطيع التحكم في نتائجها، كما نرفض أي طابع عنصري لأي نشاط نقوم به واذا دفعنا النظام إلى العنف فان النضال المسلح في رأينا لا يمكن ان يطال المدنيين وسنبحث عن عرب يسقطون معنا النظام الحاكم”. وىضيف: “الآخرون متطرفون وعنصريون لا يميزون بين النظام العنصري والموريتانيين العرب الذين هم إخوتنا ولا حسابات بيننا وبينهم”.
ويعتبر با موسي ان “فلام” تريد حرباً على المدنيين لإثارة الرعب وإرغام النظام على استجابة مطالبها وهي في رأيه “تعد لحرب أهلية خطرة”.
ويقول آمدو نيانغ وهو قيادي في “قوات تحرير الأفارقة السود في موريتانيا “فلام” لـ “الوسط” إن “الحلول السلمية هراء، فلا أمل في الحوار والذين ذهبوا إلى نواكشوط عادوا خائبين وأرى أن الخيار العسكري هو المتاح لحد الآن”.
ويضيف: “الحقيقة هي أن هناك وضعاً ينبغي تغييره، وعلينا انتهاج طريقة الحرب المسلحة طويلة الأمد فهي وحدها الطريقة التي ستقنع النظام العنصري”. وتسأله “الوسط”: أي النظامين تعني، نظام الحكم؟ أو ما تصفونه بنظام “الأبارتيد – نظام البضان”؟ ويرد الاستاذ السابق للأدب الفرنسي في نواكشوط: “نحن لا نعني بنظام البظان تجريم كل الموريتانيين العرب. ما نعنيه هو أن النظام بمعناه العام لا يخدم إلا العرب. ولذا نريد تغييره”.
وتسأله “الوسط” مستشهدة بوثيقة صادرة عن حركته في وقت سابق: “تغيرونه بطرد الأوباش العرب إلى اليمن أرضهم الأصلية؟”. فيقول “هذه وثيقة زورتها ضدنا وزارة الداخلية”. لكنه يعترف أن “فلام” لن تستطيع التعويل على مساندة عربية موريتانية لها، وهو يأسف لذلك مطمئناً الموريتانيين العرب إلى انه “ليس هناك من يريد رميهم في البحر”. ويقول ان “تهمة العنصرية التي تلحق بنا هي من صنع وزارة الداخلية الموريتانية والخونة من “الزولو”. والـ”زولو” هو الاسم الذي يطلقه المعارضون السود على أي أسود يتعاون مع الحكم الموريتاني.
وردا على سؤال لـ “الوسط” عن إمكان “تحرير موريتانيا” في مناخ دولي لا يهتم بمشكلة صغيرة في خضم من الأزمات الكبرى الآيلة إلى الحل سلماً وانطلاقاً من أراضي السنغال التي لا تريد حرباً مع جارتها وتعيش أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، أو مالي المهددة بالتفكك جراء الصراع العرقي، قال نيانغ: “نحن لن نطلب الإذن من أي بلد وسقوط المنطقة بكاملها قد يفيدنا ولا يهمنا من يشتعل ما دمنا مضطرين للحل العسكري”.
ماذا يريدون؟
قررت مجموعة المعتدلين التفاوض مع السلطات بشأن العودة فأرسلت في شهر حزيران يونيو الماضي وفداً يرأسه المدير السابق للطوبوغرافيا في وزارة الداخلية رئيس رابطة اللاجئين (جناح الديموقراطية) وضم في عضويته أربعة آخرين من الناشطين السود ولم تسفر المفاوضات التي مثل الحكومة فيها مسئولون في الجهاز الأمني ووزارة الداخلية عن نتائج على رغم أن لدى السلطة رغبة في طي هذا الملف المحرج.
وتتعرض حكومة الرئيس معاوية ولد سيد احمد الطايع لضغوط من دول غربية منها الولايات المتحدة وفرنسا تهدف الى إنهاء الموضوع. ويذكر أن واشنطن قالت مراراً إن إقامة علاقات عادية مع نواكشوط مرهون بفتح ملفات حقوق الإنسان خلال الفترة العسكرية من حكم الرئيس الطايع وتسوية الأمور العالقة بين نظام الحكم الموريتاني والأقلية الإفريقية. كما أن فرنسا ظلت تحض الحكم الموريتاني على إيجاد حل، فهي لا تستطيع الاستمرار في تجاهل معاناة السود الذين هم حلفاؤها الحقيقيون على المستوى الثقافي على الأقل، على رغم دعمها السياسي والمالي لولد الطايع. ويُعزى فشل الجهود السلمية لحد الآن إلى شعور السلطات بأن الضغوط الغربية في تراجع، وفرنسا التي هي المهمة في الموضوع منشغلة الآن بانتخاباتها وفضائحها السياسية.
ويعتقد مراقبون انه لو كان اللاجئون قدموا تنازلاتهم الحالية العام الماضي لكانت السلطات الموريتانية وافقت على عودتهم بالشرط الوحيد الجديد.
وتخلى اللاجئون عبر المعتدلين منهم عن المطالبة باعتراف صريح بأن موريتانيا طردت مواطنين على أساس اللون، وتقديم ضمانات سياسية واقتصادية والسماح للأمم المتحدة بالإشراف على العودة، واسترجاع حقوق اللاجئين.
واتهم ديوف ابراهيما من مجموعة المعتدلين الحكومة الموريتانية بتشجيع المتطرفين. وقال لـ”الوسط”: “عدنا من نواكشوط خائبين ما جعلنا عرضة لسخرية المتطرفين الذين تجاهلنا اعتراضاتهم حينما قررنا الذهاب للتفاوض”. وأضاف: “نحن نبحث عن أي ضمانة نقنع بها اللاجئين لنخلصهم من قبضة المتطرفين وننهي المأساة سلماً، وقد طلبنا من الحكومة الموافقة على إشراك المفوضية السامية لشؤون اللاجئين سراً ومن بعيد في العملية”.
ويعتقد ديوف انه من “الأحسن ان يعود اللاجئون بمبادرة منا تسمح لنا بتأطيرهم من أن يعودوا وهم تحت قبضة عنصريين متطرفين لا يؤمنون بموريتانيا موحدة هذا إذا لم تتطور الأمور الى أحداث أخطر”. ويقول ديوف إن ما نريد بسيط: “نريد حداً أدنى من الضمانات فأنا شخصياً لا أثق بنظام ولد الطايع (الرئيس معاوية ولد سيد احمد الطايع) فقد عاد البعض وما زال يتخبط في المشاكل – ولا يستطيع اللاجئون أن يثقوا بنظام طردهم وجردهم من المواطنة.
وتعتبر الحكومة الموريتانية مطلب اللاجئين نقصاً من سيادة البلد، وهي تخشى تورطاً للأمم المتحدة قد يتحول إلى تدخل في موضوع حاولت أطراف موريتانية وأجنبية توريط الأمم المتحدة فيه حين كان لا يزال ساخناً فلم تفلح.
ولا تريد الحكومة الموريتانية أن تشهد على نفسها علناً بأنها طردت مواطنيها. فالموضوع “يتعلق بمتجنسين سنغاليين فرضت الظروف السماح لهم بالعودة وعليهم إذا ما أرادوا القيام بذلك في هدوء” كما قال لـ”الوسط سياسي موريتاني.
ولا تقاسم “فلام” دعاة الحوار بالحد الأدنى وجهة النظر فهي ترى دائماً ضرورة اعتراف علني بحق المواطنة وإشراف كامل للمفوضية السامية على العملية، وهي تعتقد الحديث في الموضوع “مضيعة للوقت لأن النظام لا يريد”.
مشاكل العودة – بقرة “دنبا”
يعتقد متتبعون للشؤون الموريتانية أن اللاجئين الموريتانيين من أصول موريتانية والمتجنسين المرتبطين بموريتانيا سيعودون في الأخير والمسألة بخصوصهم مسألة وقت وظرف..
ولا ينكر الناشطون السياسيون في المخيمات انه لو ترك اللاجئ العادي لإرادته لعاد بسرعة ومن دون أي شروط، فالكثيرون يعتقدون أنهم يضيعون وقتهم بلا جدوى، فلا هم يستطيعون الاندماج في المجتمع السنغالي لأسباب منها أن اقتصاد البلد عاجز عن استيعابهم، ولا هم استطاعوا عبر السياسة إرغام الحكومة الموريتانية على تقديم تنازلات مهمة.
ويعترف ديوف الناشط المعتدل بهذه الحقيقة وإن وضعها في إطار آخر حين يقول: “اللاجئون من غير السياسيين أناس عاديون ولن يفعلوا إلا ما يطلبه منهم السياسيون الذين يؤطرونهم ونحن في ما يعنينا لن نطلب منهم ما يشجع الحرب الأهلية”.
وتحدثت “الوسط” إلى كثيرين في المخيمات وتفاوتت ردودهم حسب وجود سياسيين معهم وعدمه. وقال اللاجئ سيدي دنبا لـ”الوسط” وهو عجوز من قبيلة “الفلان البدوية شديدة البأس والتي يعزي إليها معظم أعمال السطو المسلح في المنطقة الموريتانية من الحدود والتي تعرضت للكثير من القمع خلال الأعوام الأخيرة “أنا لا أنتظر إلا أبسط إشارة مطمئنة من حكومة بلدي”.
وقال دنبا الذي كان يتحدث بلغة عربية مكسرة ساعدته في إخفاء ما يريد قوله عن الحاضرين: “أنا لا أفهم ألاعيب السياسيين، وأنا اختلف عن كثيرين هنا فأنا موريتاني وأجدادي موريتانيون وأنا لذا مرتبط ببلدي على رغم ظلم بعض أبنائه لي”. ويضيف: “طردنا خطأ لكن الظروف الآن مواتية للعودة فلماذا لا نعود ثم يصفي كل حسابه داخل البلد”.
وتسأله “الوسط”: لماذا لا تعود اذن؟ فيرد: “أنا أتضامن مع الآخرين فلا أريد أن أجر الفضيحة على أبناء عمي هنا، لكننا سنعود كلنا”.
ويتمنى دنبا أن “تعيد الحكومة قطيع البقر الذي نهب حينما تم طردي”. وقطيع بقر دنبا مثل قطعان وممتلكات أخرى تطرح عودة المطرودين مشاكل بشأنها. وتنقسم هذه الممتلكات إلى ما تم نهبه من طرف قطاع طرق ومفسدين ولصوص استغلوا الأحداث في نهب ممتلكات “الفلان” التي هي في الأساس أبقار، ومنها ما سمحت الحكومة الموريتانية للموريتانيين والسنغاليين من أصل موريتاني الذين طردتهم السنغال بالاستيلاء عليه في خضم الأحداث الدامية مع السنغال مثل المساكن والقطع الأرضية.
وسيتعين على الحكومة أن تعيد على الأقل الممتلكات الموجودة خصوصاً المساكن والقطع الأرضية، وهذا ما سيضعها في مواجهة ضحايا الأحداث في السنغال الذين يتعين أن تقدم لهم قطعاً أرضية يزرعونها عوضاً عن التي سمح لهم بالاستيلاء عليها ومساكن جديدة بدلاً من قرى السود، كما ستطرح عودة عشرات الآلاف من السود مشكلة إعادة دمجهم في الاقتصاد الموريتاني المنهك أصلاً.
ولعودة السود معارضون. فمن جهة يرى البعض من الموريتانيين العرب انه على السلطات أن تواصل عمليات “تطهير البلاد من الأجانب” التي أمدت الرئيس الطايع بشعبية واسعة في الأوساط التي ترى أن سياسة الباب المفتوح التي انتهجتها موريتانيا في الستينات وسمحت بتجنيس كل القادمين من إفريقيا السوداء “أضرت بالبلاد وأخلت بتوازنها العرقي، وهددت هويتها الثقافية”.
وشهدت موريتانيا التي لم تكن نسبة السود فيها تتجاوز الخمسة في المائة في بداية الستينات موجات هجرة واسعة من دول إفريقيا الغربية. وشجعت هذه الهجرة عوامل عدة منها استغلال مناجم الحديد والنحاس والحاجة إلى اليد العاملة. وندرة الكوادر المدربة في عهد الاستقلال نتيجة عزوف معظم الموريتانيين عن المدارس الفرنسية التي كانت تعتبر “مدرسة الكفار” . وسياسياً انغلقت موريتانيا عن العالم العربي نتيجة دعم كل الدول العربية باستثناء تونس للمطالبة المغربية بضم هذا البلد على اعتباره جزءاً من المملكة المغربية. وكانت الجنسية تمنح بسهولة بالغة ولم يكن هناك من يجد خطراً في الموضوع.
ويروي مدير سابق للوظيفة العمومية أن السنغاليين كانوا يسمعون في إذاعة موريتانيا إعلانا عن وظائف شاغرة فيعبرون النهر الفاصل بين البلدين في لحظات ويتقدمون للوظائف بأوراقهم السنغالية لكن قرار التوظيف يصدر وقد أصبحوا موريتانيين.
وتعارض قوى سياسية عربية مختلفة عودة السود من أبرزها “حزب البعث العربي الاشتراكي” الموزع الآن بين الحزب الجمهوري الديمقراطي الحاكم وحزب الطليعة الوطنية” البعثي .
ويقف الناصريون وهم أيضاً موزعون بين الحزب الحاكم وحزب “التحالف الشعبي” موقفاً أقل حدة في الظاهر من موقف البعثيين لكنهم عموماً يعارضون هذه العودة.
وتطرف أنصار ولد الطايع من القوميين في معاداة السود حينما كانت المواجهة على أشدها لكنهم لاذوا بالصمت بعد أن بدأ ولد الطايع يتعامل بقدر من اللين مع مشكلة السود وقبل بعودتهم. ومع أن الحزب الجمهوري الحاكم لا يعلن إلا المواقف المعلنة من الحكومة بشأن الموضوع وقد التزم الصمت منذ قبلت السلطات عودة اللاجئين من دون ضمانات، فإن غالبية مناصريه لا تؤيد قراراً يعيد من تعتبرهم سنغاليين.
ويلتقي مع هؤلاء بعض القياديين في حركة “فلام” التي تستفيد كثيراً من وجود اللاجئين فلها في أوساطهم مسلحون تعتمد عليهم في تحقيق أحلامها بـ”تحرير موريتانيا من نظام الآبارتيد”. ويعتبر وجودهم في رأيها ضمانة أكيدة لبقاء مشكلة السود حية وعدم نسيان سكان الجنوب لأحداث نيسان ابريل 1989 سيئة الصيت..
تفاصيل النشر:
المصدر: الوسط
الكاتب: الشيخ بكاي
تاريخ النشر(م): 24/4/1995
تاريخ النشر (هـ): 24/11/1415
منشأ: انديوم شمال السنغال
رقم العدد: 169
الباب/ الصفحة: 44 – 45 – 46 – 47 – تحقيق