رحلة البحث عن الغراب الأعصم

سبت, 04/05/2019 - 00:06
حنفي ولد دهاه

الانتخابات الرئاسية في موريتانيا فريدة من نوعها، فهي منافسة بين الوجوه لا التوجهات.. و بين أشخاص بأعيانهم لا البرامج و لا المشاريع المجتمعية.. فالذي يختار الانحياز لمعسكر ولد الغزواني إما لأنه يشم فيه رائحة السلطة و يطمع من خلال دعمه في اقتطاع حصته من الكعكة. فعمر ولد الغزواني السياسي لم يتجاوز أشهراً قليلة، و برنامجه جملة قصيرة: “أنا العسكري الذي سيحكمكم رغم أنف صناديق الأقتراع، و المراقبين و اللجنة المستقلة للانتخابات.. أنا من سيتربع على كرسي الحكم رغم نظريات أليكسس دي توكفيل.. فانتخبوني، إذن، مكرهين غير أبطال”.

الغريب أن أشخاصاً ناضلوا ضد حكم العسكر ردحاً من الزمن انتبهوا لأن برنامج ولد الغزواني يحمل الخلاص للبلاد.. فعن أي برنامج يتحدثون، و الرجل لا يزال يعدّه، و يتشاور مع المواطنين بصدده،

أي حكم هذا الذي لا يتفرع عن تصوّر؟!

لا يمكن انتخاب مرشح إلا على أساس ماضٍ نضالي، ضحى فيه من أجل الوطن و المواطنين.. أو   مشروع مجتمعي أوتي صاحبه جدَلاً في الدفاع عنه و الإقناع به، أو برنامج تنموي يشعر الناخب بحاجته له و ثقته في تحقيقه.. و كلها أمور لا تحقّقَ لها في المرشح غزواني.

باختصار: سينتخبونه لأنه من سينجح، و سينجح لأنهم سينتخبونه.. فـ “لولا مشيبي ما جفا.. لولا جفاه لم أشِب”.!

و هكذا يتحدث المفكر الفرنسي اتيان دى لابويسيه عن “العبودية المختارة” حيث يخاف المواطنون من قوة الحاكم التي منحوها إياه.. فما كان حاكماً لو لم يكونوا محكومين، فهو خوف وهمي و حاجز نفسي، يمكن كسره في رفة جفن بنزع صفة “المحكومية” عن أنفسهم، لتسقط تلقائيا صفة الحاكمية.!

ماذا لو تخلى كل ناخب عن فكرة “سأصوت له لأنه من سينجح” متبنياً فكرة أخرى “لن أصوت له لأنه من سينجح”، بمعنى رفض التصويت لمن سينجح رغم أنف الديمقراطية، لأنه يكرس أمراً واقعا بقوة انحياز الدولة، و استغلال وسائلها و أدواتها، لفرض نجاحه.؟!

باختصار: فإنني بالعودة لماضي ولد الغزواني لا أرى رجلا ديمقراطيا و إنما عسكري ثيوقراطي، و أبن زوايا، مؤدب، رزين، رصين.. إن كان يصلح ذلك لأن يكون برنامجا سياسياً..!

يمكن أن نتوكأ من سيدي محمد ولد بوبكر على تجربة في التسيير، قد لا تكون خارقة للعادة، غير أنها من أفضل ما ينسب لوزير أول موريتاني، إن لم تكن أفضلها، و قد نلمس فيه مثقفاً و تكنوقراطاً جيداً، رغم صعوبة تصنيفه سياسياً و إيديولوجيا، فهو ناصري لا يتورع عن مصافحة مسؤول اسرائيلي، و اشتراكي انتهج في تسييره للبلاد ليبرالية متوحشة، و “طائعي” تولى الوزراة الأولى لحكومة المنقلبين عليه. و عمل سفيرا مع منقلبين على رئيس مدني منتخب.

إنه أشبه من ناحية التقريب الكاريكاتوري: بقلم في محبرة، يمكن لمن شاء الكتابة به، على الرّق و الكاغد الذي شاء. حسن الخط كان أم خشنه.!

فكيف لمن عارضوا ولد الطائع أن يؤيدوا أحد غلمانه.؟! “أنا لا آكل لحم الميتة لكنني أشرب مرَقَه”..!

لا يمكن إلا أن نحترم الماضي النضالي لماو الصغير: محمد ولد مولود.. و لا يمكننا إلا أن نُكبِر تشبثه بالقيم و الأخلاق السياسية، غير أن الناخب المفترض لهذا الراديكالي الأحمر لا ينبغي أن يكون الإسلامي السياسي و لا المحافظ المتجذر، و إنما  اليساري  الحالم بتوزيع عادل للثروة، و بإنصاف الطبقات الكادحة و البلوريتارية.. 

و لكن ماذا بقي من ولد مولود.؟!

ماذا بقي من اليساري التقدمي الذي يصف العلمانيين الموريتانيين بالمستفزين، و يتبرأ من القول “بفصل الدين عن السياسة”، و يستنكر “نزع الطابع الإسلامي عن الدولة الموريتانية”.؟!

ماذا بقي من الديمقراطي الذي يرأس حزبه لـ 25 عاماً، حيث لم يشهد هذا الحزب الذي تأسس سنة 1994 تناوباً على رئاسته، رغم كثرة أطره و كوادره و سياسييه المحنكين؟!

و هل لهذا الاستبداد السياسي بهرم الحزب علاقة بالخلاف الذي نشب مؤخرا بين قيادييه؟.

ثم أن التنظير و التفكير غير التسيير و التدبير، فأسطورة النضال و الأخلاق السياسية نيلسون مانديلا، الذي حكم جنوب إفريقيا خمس سنوات، لم يكن رئيسا بارعاً.. إذ الحُكم غير الحكمة، و إدارة السلطة لا تحتاج للاستقامة المهنية وحدها، و إنما العبقرية في تحقيق الرفاه المادي للمواطنين.

فمن سيصوت لولد مولود على أساس يسارية كفر بها.؟. أو حسن ظن بتنمية لا تجربة تعززها؟!

بيرام ولد الداه ولد اعبيدي، مناضل جسور ضد منتهكي حقوق الإنسان، رغم هناته الكثيرة في تسيير علاقاته العامة، و رغم داء الغرور الذي ينخر عقله السياسي، كسُوسة في أبنوسة.. نجح في النضال الحقوقي و فشل في السياسة، عكس ولد بلخير الذي فشل في نضاله الحقوقي و نجح في السياسة.

لا أحد يعرف شيئاً، عن مشروع الرجل السياسي و الاقتصادي.. و عن الضمانات في نضاله الحقوقي بأن لا يجعل من ظالمي الأمس مظلومين غداً.

في رأيي، عاني لحراطين من الظلم و القهر ما تقشعر له جلود الحجارة الصماء، و قد بلغت مظالمهم منتهاها في فترة الحكم العسكري، و خصوصا خلال حكم ولد عبد العزيز، و من إنصاف لحراطين أن يُمكّنوا من حكم بلادهم، و أن يشاركوا في تقرير مصيرها و التخطيط لمستقبلها، و لكن ربما يكون الأفضل أن يحكم البلاد في الفترة ما بين حكم رئيس من البيظان و آخر من الزنوج أو لحراطين، رئيس هجين (MÉTIS) آمن من عقدة الانتقام، ليكون بإمكانه أن يرسي أركان سلم اجتماعي، يمكن بعده أن يحكم البلاد من تشاء دون ثأر أو تصفية حسابات.. تماما كأمريكا التي حكمها الخلاسي باراك أوباما ليكون قنطرة ما بين حكم الأبيض و الأسود.

لن ينتخب منتخبٌ بيرام ولد اعبيدي، الا على أساس نضاله الحقوقي، و التزامه الجسور بقضية “لحراطين”، و لكن ماذا سيكون عذره في الغياب عن مسيرة حقوق لحراطين، التي كانت محل إجماع الطيف السياسي، بمعارضته و موالاته.؟

و كيف سيقنع ناخباً بمعارضة نظام يجمع له التزكيات عند كل ترشح.؟!

الالتزام بالقضية الحقوقية قد يكفي في الطموح لرئاسة الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان، أما رئاسة الجمهورية فلها معايير أخرى.!

إننا ركاب سفينة، خرقها تعاقب الأنظمة الفاسدة، و الخيار في انتقاء ربانها محصور بين أعمى و أعور و أعشى و أجهر.. فكيف سنحسن الاختيار؟!..

نحن في رحلة بحثنا عن مرشح مثالي إنما نبحث عن غراب أعصم أو ذئب أبيض، لكن لا يهم، فحتى لو انتخبنا كلباً عقوراً فسيكون أجدر بالحكم من ولد عبد العزيز.!