القضايا الخلافية المتعلقة بمشروع دستور مالي الجديد: عرض وتحليل

أربعاء, 29/03/2023 - 14:59

الراصد : بقلم أ. محمد الجزار

باحث في شؤون السياسة الإفريقية

تسلَّم رئيس المرحلة الانتقالية في مالي العقيد عاصمي جويتا يوم الاثنين الموافق 27 فبراير 2023م الوثيقة النهائية لمشروع دستور جمهورية مالي، وذلك في حفل رسمي أُقيم في قصر كولوبة الرئاسي، وتُعد هذه الوثيقة هي المسودة الثانية التي يتسلمها الرئيس جويتا مِن قِبَل رئيس لجنة صياغة الدستور فوسيني سماكي؛ حيث كان قد سلّمه مسودة أُولى في 11 أكتوبر 2022م، ولكنّ تلك المسودة الأولى التي بلغت موادها 195 مادة كانت محلاً للنقد والجدال، مما جعل العقيد جويتا يُصدر مرسومًا رئاسيًّا في 19 ديسمبر 2022م يُشكّل بموجبه لجنة جديدة لوضع اللمسات الأخيرة على مشروع الدستور، وبعد أن تسلَّم جويتا النسخة الثانية المنقَّحة والتي بلغت موادها 191 مادة مقابل 122 مادة في دستور 1992م، تم الإعلان عن موعد الاستفتاء على تلك المسودة في 19 مارس 2023م، لكنّ المتحدث باسم الحكومة الانتقالية أعلن يوم 10 مارس 2023م أنه سيتم تأجيل موعد الاستفتاء، دون أن يتم تحديد موعد جديد لإجرائه، وهو ما أثار العديد من المخاوف المتعلقة بمدى جدية الحكومة الانتقالية في الالتزام بالمدة الزمنية المقرَّرة لإنهاء الفترة الانتقالية، وكذلك التشكيك في قدرتها على إصدار دستور توافقيّ يحظى بقبول الطبقة السياسية والرأي العام الشعبي؛ خاصةً مع وجود العديد من الأصوات المُعارِضَة لمشروع الدستور الجديد حتى بعد تنقيحه، ومن خلال هذه الدراسة سوف نُسلّط الضوء على القضايا الخلافية المتعلّقة بمشروع الدستور الجديد، وذلك من خلال النقاط التالية:

أولاً: التشكيك في أحقية الحكومة الانتقالية في وضع دستور جديد للبلاد:

حيث ترى تنسيقية الحركات والجمعيات والمتعاطفين مع الإمام محمود ديكو (CMAS) ومجموعة من الحركات والمنظمات المتحالفة معها؛ أن السلطات الحالية التي تتولى إدارة المرحلة الانتقالية في مالي لا يحق لها القيام بوضع دستور جديد للبلاد؛ وذلك لأنه لا يوجد نصّ في القانون يعطي لرئيس المرحلة الانتقالية حق وضع دستور جديد للبلاد وإتمامه واعتماده رسميًّا عن طريق الاستفتاء عليه؛ حيث إن مراجعة الدستور قانونًا هي من سلطات رئيس جمهورية أو البرلمان المنتخب، وهو ما لا يوجد الآن؛ على حد قول بيان التنسيقية الموقَّع عليه مِن قِبَل القائم بأعمال التنسيقية يوسف دابا، والصادر في 9 يناير 2023م. كما طالب البيان الرئيس الانتقالي عاصمي جويتا بالتخلي عن خطته في وضع دستور جديد للبلاد، مضيفًا أن أسباب ومصادر سوء تنظيم الانتخابات، وسوء الإدارة، والإفلات من العقاب والمحسوبية، وانعدام الأمن، وتفكك الدولة موجودة في أماكن أخرى غير دستور 1992م، وأن القيام بوضع دستور جديد للبلاد ليس هو الحل لهذه المشكلات، وأضاف بيان التنسيقية أنها تُعلن للرأي العام الوطني والدولي عن عدم مشاركتها في الاجتماعات التي تقوم بها الحكومة الانتقالية في إطار التحضير للاستفتاء على الدستور الجديد.([1])

وفي سياق متصل؛ صرَّح يوسف دابا القائم بأعمال التنسيقية أنهم يطالبون الحكومة الانتقالية بتأجيل الاستفتاء والانتخابات التشريعية والبلدية، والانتقال مباشرة إلى تنظيم انتخابات رئاسية من أجل الخروج من الأزمة متعددة الأبعاد التي تعيشها مالي منذ 2012م، وهذا الموقف للتنسيقية يعبّر بالطبع عن موقف الإمام محمود ديكو قائد الحراك الثوري الذي أسفر عن سقوط حكم الرئيس الراحل أبو بكر كيتا وصعود العقيد جويتا ورفاقه للسلطة، وهو ما يعكس تصاعد الخلاف بين الإمام ديكو والمجلس العسكري الحاكم للبلاد الذي أصبح ظاهرًا للعيان، خاصةً بعد قيام الإمام محمود ديكو بمهاجمتهم ووصفهم بالمتغطرسين أثناء حديثه خلال منتدى عُقِدَ في يوم 26 مايو 2022م، قائلاً: "إن الشعب المالي يعيش رهينة، ويموت بالبطيء تحت تأثير انتشار الجماعات المسلحة ونقص المواد الأساسية الناجم عن العقوبات الدولية".

كما أضاف الإمام أنه يتحدث عن غطرسة القادة، وأعلن رأيه ذلك رغم أنه يمكن القبض عليه أو استجوابه بشأن تلك التصريحات على حد قوله، لكنَّه يتحدث من أجل شعب مالي الذي يدفع الثمن، بعدما أصبح الأمر خطيرًا للغاية؛ بسبب احتضار الطبقة السياسية التي لا تتحرك، ولم تعد موجودة، في ظل تراجع المجتمع المدني الذي لم يعد موجودًا هو الآخر، منتقدًا هؤلاء الذين يريدون تمديد الفترة الانتقالية إلى أجلٍ غير مسمى؛ في إشارة إلى المجلس العسكري. وفي تطوُّر لاحق؛ فقد انتقد المنسق العام للتنسيقية السلطات الانتقالية لكونها تتولى السلطة منذ أكثر من عامين ولم تقم بأيّ تغيير ملحوظ.([2])

وقد أدَّت تصريحات الإمام ديكو المُناهِضَة للمجلس العسكري إلى القيام بمهاجمته مِن قِبَل أنصار العقيد جويتا، ومحاولة تشويهه، وخطة التشويه هذه بدأت بصورة مبكرة حتى قبل إعلان الإمام خلافه معهم؛ حيث كان قد تم ترويج مقاطع صوتية تشكك في نزاهة الإمام وتُصوّره على أنه يأخذ مبالغ مالية ورشاوى من السياسيين من أجل مَنْحهم مناصب وزارية، وهذه الطريقة المستخدَمة في حرب إسقاط الرموز الوطنية والدينية دائمًا ما تلجأ إليها الحكومات التي صعدت للسلطة بطريقة غير شرعية من أجل التخلُّص من إعدائها غير الموالين لها ولأجنداتها. إضافةً لهذا فقد شهد يوم 14 يناير 2023م أثناء عودة الإمام ديكو من السعودية بعد اختياره عضوًا في رابطة العالم الإسلامي؛ قيام المئات من أنصاره بالاحتشاد لاستقباله في طريق عودته من المطار، غير أن قوات الشرطة والأمن قامت باستهداف موكب الإمام بقنابل الغاز المسيلة للدموع، وحاولت تفريق هذه الجموع، وقد فُسِّرت هذه الحادثة على أنها من تدبير السلطات الانتقالية التي لا ترغب في التفاف الجماهير حول الإمام محمود ديكو، حتى لا يظهر للناس استمرار شعبيته، وذلك على حد قول المنسق العام للتنسيقية، مطالبًا بتقديم هؤلاء الذين هاجموا الموكب للعدالة.

ومن خلال قراءتنا لهذه الأحداث يبدو أن العقيد جويتا سيحاول إزاحة الإمام ديكو من المشهد والتخلُّص منه بأيّ طريقة؛ لكونه سيكون عائقًا أمامه في تحقيق تطلعاته، والتي تشير مجريات الأحداث أن من بينها وجود رغبة لدى العقيد جويتا في عدم ترك السلطة وعدم تسليمها للمدنيين، بل يبدو أنه يستعدّ للترشح في الانتخابات الرئاسة المقبلة ليحتفظ لنفسه بمنصب الرئيس، وذلك بعدما نجح في تقسيم حركة 5 يونيو التي قادت الحراك السياسي، وعمل أتباعه على تشويه رموزها أمام الرأي العام، بل والتنكيل ببعض رموزها، كما حدث للطبيب عمر ماريكو رئيس حزب التضامن الإفريقي (SADI) والمرشح الرئاسي السابق، وأحد قادة الحراك المؤثرين؛ حيث يقال: إنه اضطر للهرب من البلاد واللجوء للمنفى الاختياري بعد حبسه ليلة، وما أعقب ذلك من محاولة اختطافه بسبب معارضته للسلطة، واتهامه بإهانة رئيس الوزراء الانتقالي في حديث خاص له عبر تطبيق واتساب، وكذلك ما حدث لعيسي كاو جيم أحد رموز الحراك وصهر الإمام محمود ديكو؛ حيث تم حبسه لمدة أسبوع بتهمة إهانة رئيس الوزراء الانتقالي، وطرده من عضوية البرلمان الانتقالي بقرار من عاصمي جويتا، ثم الحكم عليه لاحقًا بالسجن لمدة ستة أشهر مع إيقاف التنفيذ، وغرامة 500 ألف فرنك.([3])

وهذا ولم تقتصر الدعوة إلى رفض مشروع الدستور الجديد، والقول بعدم أحقية حكّام الفترة الانتقالية في وضعه على التنسيقية وحلفائها، بل هناك العديد من الأحزاب السياسية والتحالفات وحركات المجتمع المدني والشخصيات السياسية، وعدد من رؤساء الوزراء السابقين، ترى هذا الأمر، ومن بينها تجمُّع الأحزاب والجماعات السياسية من أجل العودة إلى النظام الدستوري CADRE))، وهو تجمُّع يضم العديد من الحركات والجمعيات والأحزاب السياسية في مالي، ويُعدّ من بين القوى الرئيسية للمعارضة الآن؛ حيث عقد هذا التجمع مؤتمرًا صحفيًّا يوم 10 مارس 2023م، وصرَّح الدكتور موديبو سوماري رئيس التجمع أن هذا التجمع يطالب السلطات الانتقالية بالتخلّي عن مشروع الدستور، واحترام الجدول الزمني للانتخابات الأخرى؛ وذلك لأنه لم يمنح أحد الجنود تفويضًا للقيام بالانقلاب، وهذا التَّصريح يأتي رغم كونهم شاركوا بممثلين في لجنة وضع اللمسات الأخيرة على مسودة الدستور، لكنهم أعلنوا عن أسفهم لعدم نجاحهم في تغيير مسار الأمور.([4])

كما أن حركة "نداء 20 فبرار لإنقاذ مالي"، والتي هي حركة معارضة جديدة تم إطلاقها في 20 فبراير 2023م، بقيادة عيسي كاو جيم، أعلنت عن معارضتها بشكل خاص لمشروع الدستور الجديد، واستنكرت مناخ القمع والدكتاتورية المتفشي في مالي، ودعت هذه الحركة إلى الوحدة من أجل مطالبة السلطات الانتقالية بالتخلي عن مشروع الدستور الجديد، والذي يُعد غير شرعي وغير قانوني على حد قولهم، وكذلك طالبت المجلس العسكري باحترام التزاماته وتنظيم انتخابات بصورة سريعة وعودة الجنود إلى ثكناتهم للقيام بمهامهم الأساسية المتمثلة في الدفاع عن الأرض وحماية الشعب، وترك السلطة للمدنيين وإخضاع السلطة العسكرية للسلطة السياسية، بالإضافة إلى ذلك؛ فقد انتقد عيسي كاو جيم زعيم الحركة ما يحدث من تضييق وخنق للحقوق والحريات، كما أدان ما حدث من هجوم على المؤتمر الصحفي للحركة في دار الصحافة؛ حيث قام مجموعة من الأشخاص باقتحام القاعة وارتكاب أعمال عنف من أجل منع المؤتمر الصحفي للحركة الجديدة، وقد تم توجيه أصابع الاتهام إلى السلطات الانتقالية بتدبير ذلك الهجوم، مطالبين إياهم بمحاكمة المسؤولين عن ذلك.([5])

 ويُفهَم من هذا الكلام أن التنسيقية، ومن يسير معها في نفس الاتجاه من الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني؛ يرون أن الانتخابات الرئاسية هي التي يجب إجراؤها قبل وضع الدستور؛ وذلك لأن إصدار دستور جديد في هذه المرحلة الانتقالية قد يؤدي إلى حدوث مشكلات مستقبلية، أبرزها استفادة الحكومة الانتقالية الحالية التي ستضع الدستور الجديد منه، واستخدامه لبقائها في السلطة على المدى البعيد؛ سواء من خلال إطالة المرحلة الانتقالية بحجة عدم إنجاز الخريطة التي رسمتها، أو من خلال ترشحهم للرئاسة بموجب هذا الدستور، والقيام بعملية "مَدْينة" للسلطة، والبقاء في إدارة البلاد، كما أنه في حالة وصول رئيس آخر للسلطة بعيد عن أشخاص المرحلة الانتقالية الحاليين يمكن أن يسعى إلى إلغاء هذا الدستور والقيام بوضع مشروع دستور جديد للبلاد بحجة أن هذا الدستور تم وضعه في مرحلة انتقالية مِن قِبَل أشخاص غير منتخبين، ومِن قِبَل لجنة تم تعيينها بمرسوم مِن قِبَل عاصمي جويتا، خاصةً مع وجود رفض لهذا المشروع من العديد من القوى الفاعلة في المشهد السياسي في مالي، وهو ما يَفتح الباب إلى التلاعب بالدستور، ومزيد من الخلافات والانقسامات السياسية في البلاد، مع تكبُّد نفقات باهظة لكتابة الدستور والاستفتاء عليه، ولذلك فإن هذا الفريق يرى أن مسألة وضع دستور جديد للبلاد ليست من الأولويات في هذه المرحلة، وكذلك ليس من حق الحكومة الانتقالية الحالية القيام بذلك الأمر قانونًا على حد قولهم.

وعلى الجانب الآخر يوجد عدد من الأحزاب السياسية والحركات والجمعيات المؤيدة لمشروع الدستور، ومن بينهم تحالف قوى الشباب من أجل التجديد في مالي (COFOR-MALI)؛ حيث يرى هؤلاء المؤيدون للمشروع أنه يلبّي تطلعات شعب مالي، ويُعيد تأسيس الدولة، ويبني قواعد الجمهورية الرابعة، ولذلك فقد شاركوا في النقاشات المتعلقة بمشروع الدستور، كما تم تعيين أعضاء من بينهم في لجنة صياغة الدستور، وأعلنوا عن دعمهم للعقيد جويتا في تنفيذ مشروع الدستور الجديد والإصلاح المؤسسي الذي يُعدّ في المرتبة الثانية من أولوياته بعد أولويته في استعادة سلطة الدولة على كامل أراضيها.([6])

ثانيًا: هوية الدولة والخلاف حول إدراج مبدأ العلمانية في الدستور:

تعد قضية هوية الدولة من القضايا المهمة التي دومًا ما تثير الجدل عند وضع دستور جديد في العديد من دول العالم، وخاصة الدول الإفريقية والعربية؛ لكون غالبية شعوبها من المسلمين، ونظرًا لكون دولة مالي ذات أغلبية مسلمة؛ حيث إن نسبة المسلمين فيها قد بلغت 93.9% وفقًا لتقديرات 2018م؛ فهناك رفض كبير للنص على مبدأ علمانية الدولة في مسودة الدستور الجديد؛ حيث نجد أنه في ديباجة مشروع الدستور المنقَّح تم النص على التأكيد على علمانية الدولة، ثم جاءت المادة 11 لتنص على علمانية التعليم، وأعقبتها المادة 30 من المسودة بالنص على أن " مالي جمهورية مستقلة وذات سيادة وموحدة وغير قابلة للتجزئة وديمقراطية وعلمانية واجتماعية "، ثم جاءت المادة 32 من المسودة لتفسّر مبدأ العلمانية حيث نصت على أن "العلمانية لا تتعارض مع الدين والمعتقدات، وهدفها هو تعزيز وتقوية العيش معًا على أساس التسامح والحوار والتفاهم المتبادل"، ثم جاءت المادة 39 لتنص من بين أمور أخرى على "أن الأحزاب السياسية يجب أن تحترم مبدأ علمانية الدولة"، كما نصت المادة 185 في فقرتها الأخيرة على أنه "لا يمكن إجراء مراجعة أو تعديل للدستور فيما يتعلق بالشكل الجمهوري للدولة، والعلمانية، وعدد ولايات الرئيس، ونظام التعددية الحزبية".([7])

وهذه النصوص توضّح أن السلطات الانتقالية في مالي تتبنَّى مبدأ العلمانية من خلال النص والتأكيد عليه في مشروع الدستور الجديد، وهو ما واجه رفضًا ومعارَضة مِن قِبَل العديد من أطياف الشعب والمنظمات ذات التوجه الإسلامي، ومن بينها رابطة الأئمة والعلماء في مالي من أجل التضامن الإسلامي (Limama) والتي دعت الشعب المالي في مؤتمرها الصحفي الثاني الذي عقد 7 مارس 2023م إلى معارضة مشروع الدستور الجديد الذي قدَّمه المجلس العسكري الحاكم في صيغته الحالية، والتصويت بالرفض تجاهه؛ وذلك لأن لجنة وضع اللمسات الأخيرة على مسودة الدستور لم تأخذ بعين الاعتبار المقترحات التي قدّمتها الرابطة والمتعلقة بإزالة كلمة "علمانية الدولة" من أيّ نص من نصوص مشروع الدستور، واستبدالها بعبارة "دولة متعددة الأديان"، كما أشار الأمين العام للرابطة الإمام جاوسو صديقي في بيانه أن الرابطة نادت في 10 يناير 2023م خلال مؤتمرها الصحفي الأول بالإزالة التامة لكلمة العلمانية من مشروع الدستور، لكن تم تجاهل طلبهم مِن قِبَل لجنة وضع اللمسات النهائية لمشروع الدستور، ولهذا فإن الرابطة قامت بحَثّ جميع المسلمين في مالي للتصويت ضد مشروع الدستور؛ وذلك لأن كلمة علمانية من وجهة نظرهم يكون تعريفها وتفسيرها متغيرًا، وأحيانًا تكون خدعة يستخدمها الحُكام كما يحلو لهم للتضييق على الدين، وهو ما أثبتته الممارسات السابقة؛ سواء من القوة الاستعمارية أو غيرها من بعض الحكومات التالية في حقبة الاستقلال.([8])

ودفاعًا عن مبدأ العلمانية من جانب السلطات الانتقالية؛ فقد قام العقيد عبدالله مايغا وزير الإدارة الإقليمية والمتحدث باسم الحكومة الانتقالية بعد الإعلان عن تأجيل موعد الاستفتاء، بتوجيه رسالة نداء أخوية إلى قادة رابطة الأئمة، ودعاهم فيها إلى إعادة النظر في موقفهم من مسألة العلمانية المذكورة في مشروع الدستور، مخبرًا إياهم بأن السلطات الانتقالية بذلت جهدًا للتعريف بها، وأنها ليست ضد الأديان، كما أضاف أن مالي ليست في أزمة أمنية بسبب العلمانية، كما أضاف أنهم سعوا من خلال إنشاء لجنة الصياغة النهائية إلى إيجاد توافق في الآراء بشأن نقاط الاختلاف حول مشروع الدستور الأول، وأضاف الوزير مايغا أن مبدأ العلمانية كان موجودًا دائمًا في كافة دساتير مالي منذ الاستقلال، وأن مبدأ العلمانية هو الذي سمح بظهور العديد من الجمعيات والحركات الدينية بما فيها رابطة الأئمة التي تحارب هذا المبدأ، لكون العلمانية ليست ضد أيّ دين؛ على حد قول الوزير مايغا.([9])

 وسيرًا على منوال السلطات الانتقالية؛ فقد دافعت بعض الحركات والشخصيات عن إدراج مبدأ العلمانية في الدستور، ومن بينهم الاتحاد الوطني لعمال مالي UNTM))؛ حيث صرح أمينه العام يعقوب كاتيلة في بيان صحفي بتاريخ 6 مارس 2023م على تأكيد الاتحاد بالتمسك بمشروع الدستور الجديد بكافة نصوصه، مُرحِّبًا بجهود الرئيس الانتقالي، واصفًا مشروع الدستور بأنه قدم العديد من الإصلاحات المناسبة لمالي، كما طلب المكتب التنفيذي للاتحاد من جميع هياكله تقديم الدعم الكامل لمشروع الدستور الذي يرى أنه يقدم مبادرات للتجديد السياسي والاقتصادي والاجتماعي.([10])

واستمرارًا للنقاش حول مبدأ العلمانية؛ فقد أشار البعض إلى أن استبدال هذا المبدأ من مشروع الدستور بالنص على دولة متعددة الأديان، من شأنه أن يُطمئن المتحفظين الذين لديهم مخاوف من مبدأ العلمانية، وما يتبعه من مخاطر؛ كاستغلاله في إدخال أمور تتعارض مع الثقافات الإسلامية والمحلية في مالي، خاصةً أن تجربة العلمانية في العديد من الدول أثبتت فشلها، ولم تقدم حلولاً لمشكلات الواقع السياسي أو الاقتصادي، ولم تؤدِّ إلا إلى زيادة الانقسامات والصراعات الفكرية التي قد تتحوَّل إلى العنف، وذلك لكون العديد من التيارات والحركات التي تصف نفسها بالعلمانية ملاحدة في حقيقة الأمر وكارهون للأديان وخاصةً الدين الإسلامي، ويرفعون شعار العلمانية للتستُّر خلفه من أجل محاربة الإسلام والطعن والتشكيك في الثوابت الإسلامية والتهكُّم بها، نتيجة لوجود خلاف شخصي لديهم مع الدين، قد يحول بينهم وبين إشباع رغباتهم في الانفلات الأخلاقي والقيمي، أو نتيجة لتعرُّضهم لممارسات ومواقف خاطئة مِن قِبَل بعض المتدينين أدت إلى كراهيتهم للدين ذاته، أو حتى تأثرهم بالثقافات الفكرية الوافدة من الغرب، والتي نشأت في واقع وسياق اجتماعي مختلف عن الواقع الإفريقي الذي ترسَّخت فيه الأديان، وخاصة الدين الإسلامي بكافة قواعده السمحة، هذا بالإضافة إلى أن فرض مبدأ العلمانية على المجتمعات المسلمة يُعد بمثابة انتهاك لحقوق وحرية الإنسان، وعلى رأسها الحق في اختيار عقيدته، وحرية ممارستها والتحاكم إلى قواعدها والتقاضي بموجبها.

ثالثًا: الخلاف حول اللغة الرسمية للبلاد بعد خفض مرتبة اللغة الفرنسية:

حيث نصت المادة 31 من مشروع الدستور الجديد المنقح على أن "اللغات الوطنية هي اللغات الرسمية لمالي، ويحدد القانون شروط وظروف استخدامها، وتكون اللغة الفرنسية هي لغة العمل، كما يجوز للدولة أن تعتمد أيّ لغة أخرى لغةً للعمل"، وقد أثار هذا النص الخلاف، وخاصةً بعد أن كان مشروع الدستور الأول الصادر في أكتوبر 2022م في نفس المادة 31 قد نص على أن اللغة الرسمية للبلاد هي اللغة الفرنسية، كما أن المادة 25 من دستور 1992م قد نصت كذلك على أن اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية للبلاد.

حيث أدى هذا النص الجديد إلى تزايد النقاش حول موضوع اللغة الرسمية للبلاد، خاصةً أن هناك أكثر من 70 لغة يتم التحدث بها في مالي، من بينها 13 لغة وطنية، تأتي في مقدمتها لغة البامبارا؛ لكونها تُعد اللغة الأم الرئيسية في مالي ويتحدث بها نحو 46% من السكان، كما أنها تُستخدَم على نطاق واسع في الأنشطة اليومية خاصةً في العاصمة، ورغم وجود 12 لغة وطنية أخرى بجانب البامبارا، فإن اللغة الفرنسية تُعد ثاني أكثر اللغات تحدثًا بعد البامبارا بنسبة 17% من السكان، كما أن الفرنسية هي لغة الإدارة والتعليم والإعلام الحكومي في البلاد، وبعد النص على جعلها لغة العمل؛ فإن ذلك يقلل من مكانتها نظريًّا بعد أن كانت هي اللغة الرسمية؛ وذلك رغبة من القادة الجدد في نقل المشاعر المعادية إلى الفرنسيين المتصاعدة لدى الرأي العام في مالي، المُرحّب بالتقارب مع روسيا، وهو ما دفَع البعض إلى نقد نفوذ موسكو المتنامي في مالي منذ تولي العقيد ورفاقه للسلطة، متهكمًا منهم بالقول: إن كان لديهم الشجاعة فليجعلوا اللغة الروسية هي اللغة الرسمية للبلاد.

 لكن على المستوى التطبيقي فإن لغة العمل هي لغة الإجراءات الرسمية والمحادثات اليومية والمراسلات، كما أن لغة العمل تشير كذلك إلى التأثير الثقافي للغة على الدولة، كما نجد كذلك أن الفقرة الأخيرة من النص الجديد تشير إلى أنه يمكن اعتماد لغة أخرى لتكون لغة للعمل بخلاف الفرنسية، وهو ما يُشير إلى رغبة العقيد جويتا في قطع كل الروابط مع فرنسا ورفع شعارات السيادة الوطنية، والتخلص من الاستعمار اللغوي، خاصةً بعد تصاعد الخلاف مع باريس وطرد العسكريين الفرنسيين من مالي والتحول العسكري والسياسي نحو روسيا.

 لكن في ذات الوقت؛ فإن عدم تحديد لغة معينة لتكون هي اللغة الرسمية من بين اللغات الوطنية أدى إلى تساؤل الرأي العام في مالي عن السياسات اللغوية التي سيتم انتهاجها بموجب هذا الدستور، وكيف ستتدخل الدولة من أجل إدارة اللغات المختلفة على أراضيها، كما بدأت أصوات تقترح لغة معينة لتكون هي اللغة الرسمية؛ فالبعض اقترح لغة البامبارا لكونها الأكثر انتشارًا في البلاد، بينما اقترح آخرون لغات أخرى من بينها العربية لتكون هي اللغة الرسمية، وهو ما يثير المخاوف من حدوث صراع بين المتحدثين بهذه اللغات من أجل فرض لغة ما لتكون هي اللغة الرسمية على حساب باقي اللغات الوطنية، مما يسفر عن حدوث انقسامات جديدة ذات طابع إثني ولغوي وهوياتي، وذلك رغم أنه تم تعديل النص المتعلق باللغة الوارد في مشروع الدستور الأول استجابة للأصوات التي نادت بتحقيق العدالة اللغوية في مالي، والتي ترى أن التمسك باللغة الفرنسية، لتكون هي اللغة الرسمية الوحيدة للبلاد بعد مرور 60 عامًا على الاستقلال لا يعد أمرًا مقبولاً؛ لأنها لغة المستعمر السابق، وهو ما يثير الغضب لدى الكثيرين، كما أن الفرنسية لا يجيدها سوى 17% من الشعب، وبالتالي فإن غالبية السكان لا يتحدّثون بها ولا يفهمونها، وبالتالي فإن ذلك وسيلة لاستبعاد غالبية الشعب من غير المتحدثين بالفرنسية من إدارة شؤون الدولة، وبمثابة استمرار للمشروع الاستعماري الذي يجعل الناس أجانب في بلادهم، ولهذا وجدت مطالبات بتصحيح ذلك الوضع من أجل إشراك جميع الشعب في إدارة شؤون الدولة، والعمل على وضع سياسات لغوية تعكس التعدُّد اللغوي الجغرافي والاجتماعي في مالي.

ورغم أن النص الوارد في المشروع الجديد يلبّي هذه التطلعات إلا أنه يُواجه العديد من الصعوبات على المستوى العملي؛ حيث إن اللغات المحلية لا يتم تدريسها إلا على نطاق ضيّق رغم أنه كان قد تم إنشاء مدارس تجريبية، تقوم بالتدريس باللغات المحلية في عهد الرئيس الأسبق موسى تراوري، غير أن هذا المشروع تعثر بسبب نقص الدعم الحكومي، ووجود نظرة سلبية لتلك المدارس والنظر لها على أنها مدارس من الدرجة الثانية، بالإضافة إلى أن التعليم الجامعي أيضًا تهيمن عليه اللغة الفرنسية، وبالتالي فإن مسألة إحياء اللغات الوطنية وجعلها لغة الحكم والتعليم والإدارة يحتاج إلى وقت طويل، وكذلك لكون اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية للعديد من دول غرب إفريقيا المجاورة لمالي فسيكون هناك صعوبات للتعامل بغيرها على المستوى الإقليمي سواء الحكومي أو حتى التعليمي والدراسي، بل وكذلك في التعامل الشعبي لكونها تمثل لغة مشتركة للحديث.([11])

رابعًا: نظام الحكم والخلاف حول توسيع سلطات الرئيس بشكل مُبالَغ فيه:

تعد قضية تحديد نظام الحكم من بين القضايا التي كانت محلاً للنقاش في مالي، وذلك بعد أن جاء مشروع الدستور الجديد ليأخذ بنظام الحكم الرئاسي خلافًا لما كان معمولاً به في دستور 1992م، والذي كان يأخذ بالنظام شبه الرئاسي الذي كان يُوزّع السلطات بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة. لكنّ الأخذ بالنظام الرئاسي في مشروع الدستور الجديد ترتّب عليه توسيع سلطات رئيس الدولة بشكل مُبالَغ فيه، وهو ما كان محلاً للنقاش والخلاف مِن قِبَل العديد من الأحزاب السياسية وحركات المجتمع المدني، وتتمثل تلك السلطات الموسّعة للرئيس والتي هي محلّ للخلاف فيما يلي:

1-تحديد سياسة الأمة وتعيين رئيس الحكومة وأعضائها: حيث نصت المادة 44 من مشروع الدستور على اختصاص رئيس الجمهورية بتحديد سياسة الأمة، وهو يخالف ما كان معمولاً به في دستور 1992م؛ حيث كان ذلك من اختصاص رئيس الوزراء، كما يختص الرئيس بتعيين رئيس الحكومة وإنهاء مهامه، وكذلك تعيين أعضاء الحكومة بعد التشاور مع رئيس الحكومة وإنهاء مهامهم؛ وذلك بحسب ما أفادت المادة 57 من مشروع الدستور الجديد، وهو ما يوسّع صلاحيات الرئيس أيضًا مقارنة بدستور 1992م؛ حيث كانت المادة 38 تنص على أحقية رئيس الدولة في إنهاء مهام رئيس الوزراء عندما يقدم الأخير استقالة الحكومة، كما أن عملية تعيين أعضاء الحكومة وإنهاء مهامهم كانت تتم بموجب اقتراح من رئيس الوزراء، والتي أصبحت الآن مجرد مسألة تشاور مع الرئيس، ولهذا يرى البعض أن منصب رئيس الوزراء لم يعد له جدوى في ظل هذا الدستور؛ لأن صلاحياته ضيّقة جدًّا، بل الإبقاء عليه أمر شكلي لذلك يرون أنه يجب إلغاء منصبه.([12])

2- تقييد عمل رئيس مجلس الوزراء: حيث يتولى رئيس الجمهورية رئاسة مجلس الوزراء، ويحل محله رئيس الوزراء بموجب تفويض منه، ولكن بشرط أن يكون هناك جدول أعمال محدّد، وذلك طبقًا لنص المادة 58 من مشروع الدستور، ويذكر أن مشروع الدستور الأول كان قد قيّد عدد أعضاء الحكومة بحد أقصى 29 عضوًا، بحيث لا يجوز أن يزيد عددهم عن ذلك، لكن مشروع الدستور الجديد ألغى ذلك النص.

3-حق إصدار القوانين وطلب تعديلها: حيث يصدر رئيس الجمهورية القوانين، مع الحق في أن يطلب من البرلمان إجراء مداولات جديدة حول القانون المقترح أو بعض بنوده، ولا يمكن رفض المداولة الجديدة، كما نصت المادة 59 من مشروع الدستور، وكذلك يحق للرئيس التواصل مع البرلمان بمجلسيه بموجب رسائل مرسلة إليهم، مع اجتماع المجلسين خصيصًا لهذا الغرض، طبقًا لنص المادة 62، وهو ما يُعدّ تدخلاً في أعمال السلطة التشريعية مِن قِبَل الرئيس.

4-منح الرئيس الحق في مبادرة طلب الاستفتاء: وذلك في أي مسألة تتعلق بالمصلحة الوطنية؛ كالتفويض بالتصديق على معاهدة، أو الموافقة على اتفاقية، أو قانون يتعلق بتنظيم السلطات العامة، مع منحه حق إصدار القانون بعد الموافقة عليه بالاستفتاء، وذلك طبقًا لنص المادة 60 من مشروع الدستور.

5-منح الرئيس العديد من المناصب والحقوق: حيث يتولى الرئيس منصب القائد العام للقوات المسلحة، وكذلك رئاسة مجلس الأمن القومي ولجنة الدفاع الوطني طبقًا للمادة 63، وكذلك يتولى منصب رئيس مجلس القضاء الأعلى طبقًا للمادة 64، كما يمنح حقّ العفو، وكذلك يقترح قوانين العفو طبقًا للمادة 65، وكذلك يوقّع المراسيم والقرارات الصادرة عن مجلس الوزراء طبقًا للمادة 66، وهو ما يشير إلى هيمنة الرئيس على العديد من السلطات في البلاد، وعدم احترام مشروع الدستور لمبدأ الفصل بين السلطات.

6-منح الرئيس سلطات واسعة تتعلق بالتعينات: حيث يكون من اختصاصه تعيين المناصب العليا المدنية والعسكرية التي يحدّدها القانون، طبقًا للمادة 67، وهو ما يفتح الباب إلى الإخلال بمعايير العدالة الوظيفية، ومحاباة الأقارب والمقربين من الرئيس، وتفشّي عملية شراء الولاءات، وتقديم أهل الثقة على أهل الكفاءة في التعينات بصورة عامة، والتعيين في المناصب العليا بصورة خاصة، حتى وإن نصَّت هذه المادة على أن تستند التعينات في المقام الأول إلى معايير الكفاءة والخبرة والاستقامة، فعلى المستوى التطبيقي لا يتم الالتزام بتلك المعايير، ومن قبيل ذلك ما قام به العقيد جويتا ذاته بتعيين أغلب حُكّام المناطق في مالي من الجنود العسكريين الموالين لنظامه الحاكم، وهو ما كان محلاً للنقد مِن قِبَل العديد من السياسيين متَّهِمين العقيد ورفاقه بعسكرة الجهاز الإداري للدولة.([13])

7-منح الرئيس حقّ الأمر بالتعبئة العامة: حيث نصت المادة 63 في فقرتها الأخيرة على أن للرئيس أن يأمر بالتعبئة العامة، ويحدد طرق مشاركة المواطنين في الدفاع عن الوطن؛ عندما يقتضي الوضع الأمني ذلك، كما أن المادة 24 من مشروع الدستور أشارت إلى إمكانية حشد جميع المواطنين الذين تبلغ أعمارهم 18 عامًا أو أكثر جنبًا إلى جنب مع القوات المسلحة وقوات الأمن للدفاع عن الوطن، وهذه النصوص الواسعة والغامضة قد تُستخدم في عمليات التجنيد القسري للمدنيين أو حتى النساء؛ لأنها لم تقيّد الأمر على الذكور بل يمكن تعبئة كبار السن؛ لأنها جعلت الحد الأدنى 18 عامًا، وبالتالي يمكن استغلال تلك النصوص في الدفع بالمواطنين المدنيين للمشاركة في عمليات مكافحة الإرهاب، وهو ما يمكن أن يجعلهم دروعًا بشرية ويؤدي بهم للهلاك.

8-منح الرئيس سلطة حلّ الجمعية الوطنية: حيث نصت المادة 69 من مشروع الدستور الجديد على أنه يجوز لرئيس الجمهورية بعد التشاور مع رئيسي المجلسين ورئيس المحكمة الدستورية أن يعلن حلّ الجمعية الوطنية، على أن تُجرَى الانتخابات بعد 60 يومًا على الأقل و120 يومًا على الأكثر بعد قرار الحل، كما أضافت الفقرة الأخيرة إلى إمكانية عودة المجلس المنحل إلى وظائفه إذا انتهت المدة المحددة لموعد الانتخابات دون تنظيمها. وهذه المادة رغم أنها كانت موجودة في دستور 1992م مع بعض الاختلاف كمواعيد إجراء الانتخابات؛ إلا أنها لاقت الكثير من المعارضة خاصةً بعد أن أُلغيت في مشروع الدستور الأول الصادر في أكتوبر 2022م لتعود مجددًا في مشروع الدستور الحالي؛ وذلك لأنها جعلت بقاء الجمعية الوطنية مرهونًا برغبة الرئيس ومدى رضائه عنها، حتى لو قيّدت هذه المادة قرار الحل ومنعه خلال السنة الأولى للجمعية الوطنية، وكذلك منعت حدوث حلّ جديد في السنة التالية لانتخاب جمعية جديدة. وهو ما يعني أن الجمعية الوطنية ستكون تحت رقابة الرئيس لمدة عام من تاريخ انتخابها؛ فإذا لم يكن راضيًا عنها سوف يقوم بحلها، وهو ما يَنتهك الإرادة الشعبية بحلّ المجالس المنتخَبة خاصةً أن هذه المادة لم تنص على الأسباب التي يمكن اللجوء إليها لحل الجمعية الوطنية، وهو ما يُفسح المجال للرئيس للتلاعب بالسلطة التشريعية، بل يمكن إصدار تشريعات لا تحظى بالرضا الشعبي أو تضيّق الحقوق والحريات خلال فترة حل الجمعية الوطنية، كما أن هذا النص لم يوضح مَن سيقوم بالتشريع خلال فترة حل الجمعية الوطنية الذي يمكن أن يستمر 4 شهور، كما أنه بنصه على إمكانية رجوع المجلس المنحل لوظائفه في حالة عدم انتخاب مجلس جديد في المدة المحددة، يخالف المنطق العقلي؛ لأنه إذا كان صالحًا لممارسة مهامه التشريعية وانتُخِبَ بطريقة شرعية فلماذا تم حله أصلاً؟! وإذا كان غير صالح للقيام بمهامه؛ فلماذا يتم السماح بعودته؟!([14])

9-منح الرئيس حق اتخاذ إجراءات استثنائية عند وجود ظروف خطيرة وفورية: حيث نصت على ذلك المادة 70 من مشروع الدستور، وذلك في حالة تعرض مؤسسات الدولة واستقلال الأمة وسلامة التراب الوطني وتنفيذ الالتزامات الدولية للتهديد الخطير والفوري، فيحق للرئيس أن يتخذ إجراءات استثنائية تقتضيها الظروف بعد استشارة رئيس الوزراء ورؤساء الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ والمحكمة الدستورية، كما أضافت تلك المادة أنه لا يجوز حل أيّ مؤسسة للجمهورية أو تعليقها أثناء ممارسة السلطات الاستثنائية، وهذه الفقرة أدت إلى تولد مخاوف من قيام الرئيس القادم باستغلالها للبقاء في السلطة بعد انتهاء مدة ولايته بحجة وجود ظروف استثنائية وقوة قاهرة تقتضي منها الحفاظ على استمرارية المؤسسات.

10-تحصين الرئيس من المحاكمة الجنائية خلال فترة ولايته: حيث نصت المادة 74 على مسؤولية الرئيس جنائيًّا أمام محاكم القانون العام عن الجرائم والجنح المرتكبة خارج ممارسة مهام وظيفته، ومع ذلك لا يمكن أن يطلب منه الشهادة أو أن يكون محلاً لإجراءات أو تعليمات أو محاكمة حتى نهاية ولايته، كما يتم تعليق أيّ فترة تقييد أو حبس، لكن يمكن استئناف القضايا والإجراءات التي تم عرقلتها ضده بعد شهر واحد من انتهاء مهامه. وهذا النص يحتوي على أمور تُحصّن الرئيس من المساءلة، وتُخِلّ بقواعد العدالة ومبادئ الثواب والعقاب؛ حيث يشير النص أولاً إلى مسؤولية الرئيس عن الجرائم المرتكبة خارج مهام وظيفته، وبالتالي قد يتهرب من المسؤولية عندما يرتكب جريمة ما بدعوى أنه ارتكبها أثناء ممارسة مهام وظيفته؛ كأن يُصدر مثلاً أمرًا بالتعبئة العامة يؤدّي إلى قتل آلاف الأبرياء من غير المؤهّلين للقيام بوظائف دفاعية، وهو ما يعد جريمة، ولكنّه يمكن أن يتحصّن بهذا النص، وأنه اتخذ ذلك القرار أثناء ممارسة مهام وظيفته ويفلت من العقاب، كما أن هذا النص يُحصّنه من المثول للشهادة أو المحاكمة وغيرها من إجراءات طوال مدة بقائه في السلطة، وهو ما يعني أنه لو قام الرئيس بقتل أحد الأشخاص مثلاً أو اختلس أموال إحدى المؤسسات لا يمكن محاكمته طالما كان في السلطة، حتى مسألة السماح بمحاكمته بعد انتهاء مهام عمله قيَّدت الأمر أيضًا بمرور شهر، وهو ما يمكن أن يقوم خلاله بالهروب خارج الدولة، وبالتالي فإن هذا النص يُعزّز من عمليات الإفلات من العقاب والهروب من المسؤولية، وحماية الرئيس في حالة اتهامه مثلاً هو والمحيطين به في عمليات فساد.

ونظرًا لكون سلطات الرئيس واسعة جدًّا في ظل مشروع الدستور الجديد على حساب باقي السلطات، رغم أن العديد منها كان منصوصًا عليه في دستور 1992م، لكن تحدَّث البعض عن أن ذلك الأمر سوف يثير العديد من الأزمات المستقبلية بين الرئيس القوي من ناحية، وباقي السلطات التي ستتصادم معه من ناحية أخرى، وبالتالي لن يكون هناك حلّ لإيقاف الرئيس غير الانقلاب العسكري عليه، وذلك على حد قول رئيس وزراء مالي الأسبق موسى مارا، الذي دعا إلى ضرورة التوازن بين سلطات الرئيس وباقي السلطات، وهو يتفق مع رأي شيخ سيدي ديارا المستشار الخاص للأمين العام للأمم المتحدة بشأن إفريقيا سابقًا، والذي يرى أن الرئيس في مشروع الدستور الجديد أصبح يحتكر ويهيمن على كلّ السلطات، وهو ما سيؤدي للعديد من المشكلات السياسية.([15])

خامسًا: الخلافات بشأن السلطة التشريعية واستحداث مجلس الشيوخ:

لقد كان وضع السلطة التشريعية في الدستور الجديد من بين القضايا الخلافية التي ثار الجدل حولها، خاصةً بعد نص المادة 69 من مشروع الدستور الجديد الواردة في الفصل الأول من الباب الثالث المتعلق بالحديث عن رئيس الجمهورية، والتي أعطت للرئيس سلطة القيام بحل الجمعية الوطنية، كما ذكرنا من قبل، بالإضافة إلى أن الباب الرابع من مشروع الدستور والمخصص للحديث عن السلطة التشريعية تضمن مجموعة من النصوص المختلف حولها، والتي يمكن تناولها فيما يلي:

1-استحداث مجلس الشيوخ: حيث نصت المادة 95 من مشروع الدستور الجديد على أن "البرلمان يتألف من مجلسين؛ الجمعية الوطنية، ومجلس الشيوخ"، وبموجب ذلك النص فإن السلطة التشريعية أصبحت ثنائية المجلس بعد أن كانت أحادية المجلس في دستور 1992م، وقد قُوبلت مسألة استحداث غرفة ثانية للبرلمان بالرفض مِن قِبَل العديد من السياسيين؛ حيث تحدث البعض عن أنها ستكون مكانًا لتوزيع المناصب السياسية على النخبة من أجل شراء ولائها وتقديم دعمها للنظام، من دون حاجة حقيقية لهذا المجلس، خاصةً في ظل إضعاف مشروع الدستور للسلطة التشريعية أصلاً، وبالتالي فإن إنشاء هذا المجلس سيكلّف الموازنة العديد من النفقات دون أن يُقدم شيئًا يُذْكَر على المستوى الواقعي، في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من ضعف الموارد المالية المطلوبة للعديد من القطاعات الأَوْلَى بتلك النفقات، رغم محاولة البعض تبرير إنشاء هذا المجلس بكونه سيضمن تمثيلاً أفضل لإقليم الشمال، بجوار المجالس الإقليمية المنتخبة، وهي مسألة محل شك؛ لكونها لا تلبّي تطلعات أبناء الشمال في المطالب التي يسعون لها. ([16])

2-طريقة انتخاب وتشكيل مجلس الشيوخ: حيث نصت المادة 97 من مشروع الدستور على أنه "يتألف مجلس الشيوخ من ثلاثة أرباع الأعضاء من خلال الانتخاب بالاقتراع العام غير المباشر، والذي يمثل السلطات المحلية، ويعين ربع أعضاء المجلس مِن بين مَن يمثلون السلطات التقليدية، والماليين في الخارج والشخصيات التي خدمت الأمة". وهذه المادة تعرَّضت لعدة انتقادات تتمثل فيما يلي:

- أولها: مسألة طريقة الانتخاب بالاقتراع غير المباشر: والذي يتم الاقتراع فيه من خلال مندوبين يتولون عملية اختيار النواب نيابةً عن أفراد الشعب، وهذه الطريقة تعرَّضت للنقد؛ لما فيها من سلبيات كثيرة؛ أولها أنه يسهّل التأثير على هؤلاء المندوبين لقلة عددهم مقارنة بالناخبين العاديين؛ حيث يمكن أن يقوم النظام الحاكم أو أحد الأطراف الفاعلة والقوية في المشهد السياسي بترغيب هؤلاء المندوبين ومنحهم رشاوى انتخابية تجعلهم يصوتون لمرشحين محددين، أو حتى ترهيب هؤلاء المندوبين إن لم يصوّتوا كذلك لفئة محددة من المرشحين، كما أن مسألة الاقتراع غير المباشر من مثالبها أيضًا أنها تجعل الانتخابات شبه صورية؛ لأن المندوبين عادةً ما يكونون تابعين للحزب الحاكم، وبالتالي سينتخبون المرشح التابع للحزب أو المدعوم منه، كما نجد أيضًا أن المادة 37، و38 من مشروع الدستور تحدثتا عن "أن الاقتراع يمكن أن يكون مباشرًا أو غير مباشر"، وهو ما يؤكد على إقرار مبدأ الاقتراع غير المباشر في الدستور، رغم مثالبه، والذي يمكن أن يؤدي إلى قتل الحياة السياسية داخل الدولة، ويقضي على حق المشاركة السياسية بصورة منفردة، ويفرض أوصياء على الشعب يختارون بدلاً منه، كما أن مثالب هذه الطريقة تكون أوضح عندما يتم انتخاب رئيس الدولة بموجبها؛ حيث يقوم أعضاء البرلمان في الغالب أو مندوبين مخصصين لذلك، بانتخاب رئيس الدولة بصورة غير مباشرة، وهو ما يحول دون إجراء منافسة سياسية حقيقية، ويجعل مرشح الحزب الحاكم الذي يكون هو الحزب المهيمن على البرلمان هو الفائز بسهولة، لكنَّ هذه الطريقة رغم وجودها في بعض الدول الإفريقية؛ إلا أن مشروع هذا الدستور نص في المادة 45 على انتخاب رئيس الجمهورية من خلال الاقتراع العام المباشر، وهو ما يستبعد بناء على ذلك النص انتخابه بطريق غير مباشر، إلا إذا تم التلاعب في تفسير نصوص الدستور بدعوى أنها تكمل بعضها بعضًا، وبالتالي اللجوء إلى انتخاب رئيس الجمهورية من قبل البرلمان؛ حيث يمكن أن يلجأ عاصمي جويتا إلى تولي رئاسة مالي مستقبلاً بهذه الطريقة إذا ما أراد ذلك، رغم ما سيقابله من رفض مِن قِبَل الطبقة السياسية الواسعة، والمليئة بالنُّخَب الطامحة في الوصول إلى كرسي الرئاسة.

وبصورة عامة لا نعتقد وجود فوائد لطريقة الانتخاب غير المباشر في مالي؛ إلا فيما يتعلق بتغلُّبها على مسألة انعدام الأمن أثناء الانتخابات؛ حيث يتم استهداف لجان الاقتراع مِن قِبَل الجماعات المُسلّحة، وعند تطبيقها ستقلّ اللجان الانتخابية، والتي يمكن أن تكون لجنة في كل دائرة أو حتى لجنة واحدة وطنية يجتمع فيها المندوبون لاختيار المرشحين، بالإضافة إلى تقليلها للنفقات اللازمة للاقتراع نوعًا ما.

-ثانيها: مسألة تعيين ربع أعضاء المجلس من فئات محددة: حيث وجهت انتقادات للمادة 97 كذلك؛ لأنها جعلت اختيار 25% من أعضاء مجلس الشيوخ يتم بموجب التعيين مِن قِبَل رئيس الجمهورية، وبالتالي سوف يكون ولاؤهم لمن قام بتعيينهم عند عملية التصويت في المجلس، بالإضافة إلى أنها خصّصت هذه النسبة المعينة لتكون من بين الزعامات التقليدية والماليين في الخارج والشخصيات التي خدمت الأمة، وهو ما يوحي بأن ذلك الأمر مجرد توزيع للمناصب لشراء الولاءات، وعدم تعيينهم بناء على الكفاءة والاستحقاق أو حتى التخصص، كما يرى البعض أن منح الرئيس حق تعيين ربع أعضاء مجلس الشيوخ بمكن أن يؤثر على استقلالية هؤلاء المعينين في حالة تطبيق النص المتعلق بمحاكمة الرئيس بتهمة الخيانة العظمى مِن قِبَل البرلمان؛ حيث يلزم للبتّ في إقالة رئيس الجمهورية موافقة البرلمان بغرفتيه بأغلبية ثلاثة أرباع الأعضاء، مع مراعاة احتساب الأصوات المؤيدة للفصل فقط، وفي حالة التأثير على الأعضاء المعينين مِن قِبَل الرئيس وعدم دعمهم لهذه المحاكمة، يمكن أن يساهموا في إنقاذ الرئيس إذا ما انضم إليهم 5% فقط من النواب لمنع الوصول إلى النسبة المطلوبة للبتّ في مسألة الإقالة والمحددة بـ 75%.([17])

3-مسألة حظر تغيير الانتماء السياسي: حيث نصت المادة 106 من مشروع الدستور على أنه "يحرم من ولايته كل نائب بالجمعية الوطنية أو عضو في مجلس شيوخ يستقيل من حزبه السياسي أو التنظيم الذي يمثله، ويعتبر الانضمام إلى حزب جديد أو منظمة أخرى استقالة، ويتم استبدالهم بالشروط التي يحددها القانون"، وهو ما يعني أن مشروع الدستور يقرر مبدأ حظر تغيير الولاء والانتماء السياسي أو الحزبي، وهو ما يتعارض -في وجهة نظرنا- مع مبدأ حرية الاعتقاد السياسي، وحرية الإنسان في تغيير أفكاره وفقًا لما يُمليه عليه ضميره، وما يستجدّ من حقائق قد تكون كاشفة له عن أمور لا تتوافق مع مبادئه، وبالتالي يلجأ إلى تغيير ولائه السياسي، وقد يكون هذا النص الهدف منه التحكم في تشكيلة البرلمان؛ بحيث يكون هناك أغلبية دائمة من الأعضاء الموالين للرئيس يضمن من خلالهم تمرير التشريعات المعروضة على البرلمان، ويحد من قدرتهم على تغير ولائهم الحزبي خشية انضمامهم إلى المعارضة، ويكون عائقًا أمام الرئيس في تمرير مشروعات القوانين واللوائح التي يجب موافقة البرلمان عليها بالأغلبية البسيطة وفقًا للمادة 115 من مشروع الدستور.

4-التقليل من صلاحيات السلطة التشريعية: حيث إن مشروع الدستور الجديد سلَب من السلطة التشريعية العديد من الصلاحيات والسلطات التي كانت مخصَّصة لها في دستور 1992م، ومن بين ذلك ما نصَّت عليه المادة 78؛ حيث نصت على أن "الحكومة مسؤولة أمام رئيس الجمهورية"، وهو ما يخالف ما كان معمولاً به في دستور 1992م؛ حيث كان ينص في المادة 54 على أن "الحكومة مسؤولة أمام الجمعية الوطنية"، كما أن المادة 119 من مشروع الدستور منحت الرئيس وأعضاء مجلس النواب حق المبادرة في اقتراح القوانين، وهو ما يخالف المادة 75 من دستور 1992م والتي كانت تعطي الحكومة وأعضاء الجمعية الوطنية لهذا الحق، ولم تكن تعطيه لرئيس الجمهورية، وهو ما يعطي الرئيس سلطات تشريعية بجانب سلطاته التنفيذية، كما أعطت المواد من 120 إلى 126 العديد من الحقوق للحكومة والتي تسمح لها بالتدخل في أعمال السلطة التشريعية وتجعلها غير قادرة على ممارسة مهامها بحرية، بالإضافة إلى أن النصوص الواردة في دستور 1992م المتعلقة باستقالة الحكومة في حالة رفض البرلمان لبرنامج الحكومة أو سياستها العامة أو حتى اقتراح البرلمان توجيه اللوم للحكومة، لم يتم الحديث عنها في مشروع الدستور الجديد، وهو ما يعني أنه لم يَعُد من حقّ البرلمان طلب إقالة الحكومة أو ممارسة إجراءات تؤدي إلى استقالتها، وهو ما يقلل من سلطات البرلمان في الرقابة على الحكومة، بعد التحوّل للنظام الرئاسي.([18])

5-عدم تحديد النظام الانتخابي للجمعية الوطنية بصورة واضحة: حيث إن المادة 96 من مشروع الدستور الجديد نصت على أنه "ينتخب النواب لمدة خمس سنوات بالاقتراع العام المباشر، ويمكن أن يكون نظام التصويت بالأغلبية نسبيًّا أو مختلطًا"، وقد تم انتقاد هذه المادة؛ لأنها لم تحسم النظام الانتخابي بصورة نهائية.

ومن جانبنا نرى أنه كان ينبغي وضع نظام انتخابي توافقي يمكن من خلاله تحقيق التمثيل العادل لكافة القوى السياسية في الجمعية الوطنية، بعيدًا عن استخدام النظام لفكرة الهندسة الانتخابية التي بموجبها يتم اختيار نظام انتخابي يضمن هيمنة الحزب الحاكم على البرلمان ويعيق من فرص ترشح أو نجاح أحزاب المعارضة في الانتخابات، كما كنا نرجو أن يأخذ مشروع هذا الدستور بنظام الانتخابات العامة؛ بحيث تجري كلّ من الانتخابات الرئاسية والنيابية والمحلية في يوم واحد، مثل العديد من النظم الإفريقية التي تأخذ بهذا النظام؛ نظرًا لكونه يوفر الكثير من النفقات اللازمة لتنظيم الانتخابات، والتي تحتاج تأمينًا كبيرًا في كل عملية انتخابية، خاصة أن الموارد المادية والحالة الأمنية في مالي يُستحب معها الأخذ بهذا النظام.

 كما نرى أن لجنة وضع الدستور أيضًا أخفقت لعدم إدراجها للهيئة المستقلة لإدارة الانتخابات  (AIGE) في الدستور، والتي يُفضل أن تكون هي المؤسّسة المنظِّمة للعمليات الانتخابية في البلاد بصورة مستقلة، مع وضع آليات محددة تسمح بتمثيل قوى المعارضة في عضويتها حتى يكون هناك شفافية ومصداقية في تنظيم الانتخابات؛ بحيث تحظى نتائجها بالقبول من جميع القوى المشاركة في العملية السياسية، بل لو تم النص على مأسسة المعارضة في الدستور من خلال تحديد حصص معينة لها في البرلمان والحكومة والمؤسسات الوطنية، بحيث تضمن تمثيلها بصورة ما دون إقصائها، فربما كان ذلك الأمر يمكن أن يساهم في استقرار المشهد السياسي والأمني في البلاد، ويجعل معظم القوى السياسية تتعاون من أجل النهوض بالبلاد.

سادسًا: الخلافات بشأن السلطة القضائية والتمسك باستقلال القضاء:

لقد جاء الباب الخامس من مشروع الدستور الجديد مخصصًا للحديث عن السلطة القضائية، وقد وردت عدة أمور خلافية أيضًا تتعلق بوضع السلطة القضائية في مشروع الدستور الجديد، يمكن توضيحها فيما يلي:

1-إلغاء محكمة العدل العليا: حيث تم إلغاء محكمة العدل العليا في مشروع هذا الدستور والتي كانت موجودة في دستور 1992م، وكانت اختصاصاتها تتمثل في "مقاضاة رئيس الجمهورية والوزراء المتهمين أمامها من قبل الجمعية الوطنية بتهمة الخيانة العظمى أو بسبب الأفعال التي تُعدّ جرائم أو جنحًا ارتُكبت أثناء ممارسة وظائفهم، فضلاً عن المتواطئين في حالة وجود مؤامرة على أمن الدولة، ويتم التصويت على لائحة الاتهام بالاقتراع العام بأغلبية ثلثي النواب الذين تتألف منهم الجمعية الوطنية"، وذلك بموجب نص المادة 95 من دستور 1992م، كما أن المادة 96 أعطت للجمعية الوطنية حق تعيين أعضاء محكمة العدل العليا المكونين لها، كما أن رئيس المحكمة كان يتم انتخابه من بين أعضائها. وفي ظل إلغاء هذه المحكمة في مشروع الدستور الجديد، تلغي أيضًا صلاحيات مهمة كانت ممنوحة للسلطة القضائية والسلطة التشريعية في مواجهة الرئيس والحكومة.

2-استحداث ديوان المحاسبة: حيث نصت المادة 36 من مشروع الدستور على ديوان المحاسبة ضمن مؤسسات الجمهورية، كما أن الفصل الرابع من الباب الخامس من مشروع الدستور الذي جاء تحت عنوان محكمة مدققي الحسابات، نص على اختصاصاتها خلال مواده بدءًا من المادة 156 إلى المادة 163، ويعد ديوان المحاسبة هو السلطة القضائية العليا لمراقبة المالية العامة، غير أنه لا توجد نصوص مباشرة فيه تتحدث عن قدرته على محاسبة رئيس الجمهورية والحكومة كما كان منصوصًا عليه في محكمة العدل العليا الملغاة، كما أن رئيس ديوان المحاسبة وأعضائه يتم تعيينهم بمرسوم مِن قِبَل رئيس الجمهورية بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى، عكس محكمة العدل العليا التي كان أعضاؤها يعينهم البرلمان وينتخبون رئيسهم من بينهم.

3-الإخلال بمبدأ استقلال القضاء: حيث إن الاتحاد الحرّ للسلطة القضائية (SYLIMA) برئاسة هادي ماكي سال، أعلن أن مشروع الدستور غير مقبول؛ لأنه يشكل انتكاسة للقضاء واستقلاله، في الوقت الذي يتسم فيه الخطاب السياسي بإعادة تأسيس الدولة، وهو ما يقتضي العمل على تمكين القضاء، لكن تلك الشعارات تتنافى مع نصوص مشروع الدستور الجديد، على حد قوله، وفي 1 مارس 2023م أصدر هذا الاتحاد بيانًا صحفيًّا عبَّر فيه عن أسفه بعد الانتهاء من إعداد مسودة مشروع الدستور الجديد؛ بسبب عدم أخذ لجنة الصياغة النهائية للدستور إلا بنقطة واحدة من بين التوصيات التي قدّمها الاتحاد، مؤكدين على رغبتهم في تعديل أجزاء معينة من مشروع الدستور؛ من بينها: المادة 137 التي تنص على "تكوين نصف مجلس القضاء الأعلى من شخصيات مختارة من خارج هيئة القضاة"، وكذلك المادة 132 التي تتحدث عن "عدم جواز عزل قضاة المقعد"، والمقصود بهم القضاء الجالس وهم القضاة الذين يؤدون أعمالهم وهم جلوس، عكس القضاء الواقف المتمثل في أعضاء النيابة العامة وغيرهم؛ حيث يطالب الاتحاد بحماية واستقلال جميع رجال القضاء وليس القضاء الجالس فقط، بالإضافة إلى أن استمرار رئيس الجمهورية في رئاسة المجلس الأعلى للقضاء هي محل نقد أيضًا مِن قِبَلهم، هذا وقد أضاف البيان أنه يجب انتباه رئيس الدولة إلى العواقب الوخيمة لإضعاف السلطة القضائية، وأن أزمات الحكم المختلفة التي تمر بها مالي سببها السلطات السياسية وليس القضاء، كما أضاف البيان أنه يدعو إلى ضرورة احترام استقلال القضاء واحترام الالتزامات الدولية ذات الصلة التي وقَّعت عليها مالي، ووجوب التزام مشروع الدستور بالفصل الحقيقي بين السلطات، والتعزيز الفوري للمجلس الأعلى للقضاء.([19])

4-نقد عملية تعيين رئيس وأعضاء المحكمة العليا: حيث نصت المادة 142 على تعين رئيس المحكمة العليا بموجب مرسوم مِن قِبَل رئيس الجمهورية بناء على اقتراح مطابق من مجلس القضاء الأعلى، كما يتم تعيين نائب رئيس المحكمة وأعضائها بنفس الطريقة، وهو ما يزيد من هيمنة الرئيس على السلطة القضائية، وكذلك كان من الأفضل اختيار رئيس المحكمة العليا بالانتخاب مِن قِبَل أعضاء المحكمة، وبترشيح من البرلمان، حتى يكون رئيس المحكمة العليا قادرًا على القيام بدوره بحياد واستقلال، وخاصةً بعدما منحته المادة 73 من مشروع الدستور حقّ ترأس جلسات البرلمان الخاص المتعلق بمحاكمة رئيس الجمهورية لاتهامه بالخيانة العظمى من قبل البرلمان.

5-نقد عملية تكوين المحكمة الدستورية وطول فترة ولايتها: حيث إن المادة 145 من مشروع الدستور نصت على أن تتألف المحكمة الدستورية من 9 أعضاء، وجعلت اختيارهم بواقع عضوين مِن قِبَل رئيس الجمهورية، وعضوين مِن قِبَل المجلس الأعلى للقضاء؛ ونظرًا لكون رئيس الجمهورية هو رئيس المجلس الأعلى للقضاء سوف يتحكم في اختيار هذين العضوين، كما خصصت ذات المادة لرئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ اختيار عضو مِن قِبَل كل واحد منهما، وفي حالة كان رؤساء البرلمان تابعين للحزب الحاكم وكان رئيس الدولة هو رئيس الحزب؛ فسوف يتحكم أيضًا في اختيار هذين العضوين، وهو ما يعني أن رئيس الجمهورية يختار 6 أعضاء من أعضاء المحكمة الدستورية بطريق غير مباشر، كما أنه لم يتم منح أحزاب المعارضة حق اختيار أيّ من أعضاء المحكمة الدستورية، وهو ما كان يجب النص عليه، بجانب منح المعارضة نصف عدد مقاعد المحكمة الدستورية؛ وذلك لكون الأخيرة هي المخوّل لها بموجب نصوص المواد 148، 149، 150، 151 من مشروع الدستور، مراقبة نظام انتخاب رئيس الجمهورية وعمليات الاستفتاء، وفحص الطعون وإعلان النتائج النهائية، وكذلك البتّ في الخلافات المتعلقة بصحة انتخاب أعضاء الجمعية الوطنية أو مجلس الشيوخ أو تعيينهم، بالإضافة إلى السماح لها بإلغاء الانتخابات المطعون فيها أو تعديل نتائجها، ولهذا فإنه في حالة اختيار جميع أعضاء المحكمة الدستورية من فصيل سياسي واحد تابع للحزب الحاكم وعدم تمثيل المعارضة؛ سوف يفتح الباب للتشكيك في نزاهة وشفافية ومصداقية النتائج الانتخابية التي تصدرها المحكمة الدستورية، وما يعقب ذلك من تداعيات سلبية تتمثل في رفض نتائج الانتخابات وحدوث أزمات سياسية، تجعلنا نعود بالذاكرة إلى انتخابات الجمعية الوطنية في مالي 2020م، والتي كان تلاعب المحكمة الدستورية في نتائجها أحد الأسباب القوية لاندلاع الحراك الثوري الذي أسقط حكم الرئيس الراحل أبوبكر كيتا في نهاية المطاف بالانقلاب العسكري، وخاصةً أن المادة 154 من مشروع هذا الدستور أكَّدت على أن قرارات المحكمة الدستورية غير قابلة للطعن وملزمة للجميع، وهو ما يغلق الطريق أمام الطعن في قراراتها أو أحكامها، بالإضافة إلى أن إعلاء دور المحكمة الدستورية في تنظيم الانتخابات، مقابل إهمال دور الهيئة المستقلة لإدارة الانتخابات (AIGE) كان محلاً للنقد؛ حيث كان من المنتظر تفعيل دورها وتوسيعه في إدارة الانتخابات في مالي بصورة كاملة حتى إعلان النتائج وتلقّي الطعون الأولية والفصل فيها، وقصر دور المحكمة الدستورية المتعلق بالانتخابات لتكون على الأكثر محكمة عليا للفصل في الطعون الانتخابية بصورة نهائية.([20])

كما أن طول فترة ولاية مستشاري المحكمة الدستورية البالغة 7 سنوات هي أيضًا محل للنقد؛ حيث يكفي أن تكون مدتها 5 سنوات فقط تبدأ مع التحضير للانتخابات وتنتهي قبل عقد الانتخابات التالية بحيث يتم صعود مستشارين جدد خلفًا لهؤلاء المستشارين المشرفين على الانتخابات السابقة، وذلك لأنه قد يكون بعض هؤلاء المستشارين القدامى محلاً للنقد مِن قِبَل الأحزاب السياسية، أو يكونوا مقربين من النظام الحاكم، وهو ما قد يشكك في مصداقية عمل أعضاء المحكمة ككل.

سابعًا: الأمور المتعلقة بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والثقافي:

حيث نجد أن مشروع الدستور الجديد قد قام بإلغاء المجلس الأعلى للمجتمعات، والذي كان منصوصًا عليه في المواد من 99 إلى 105 في دستور 1992م، وقام بمنح بعض صلاحياته إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بعدما أضاف له ما يتعلق بالقضايا البيئية في مشروع الدستور الجديد؛ حيث نظّم الباب السادس من مشروع الدستور الجديد الأحكام المتعلقة بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والثقافي؛ بدءًا من المادة 164 حتى المادة 173. ومن الأمور التي كانت محلاً لملاحظتنا أن المادة 167 من مشروع الدستور نصت على أنه "يستشير رئيس الجمهورية المجلس في أي مشروع قانون مالي.. الخ"، وهو ما يختلف عن نص المادة 108 من دستور 1992م، والتي كانت تنص على وجوب استشارة المجلس؛ حيث تم إلغاء كلمة الوجوب، وهو ما يوحي أن الأمر أصبح اختياريًّا للرئيس في استشارة المجلس من عدمه.

ثامنًا: النقاش المتعلق بشكل الدولة واستبعاد الفيدرالية:

حيث تعد مسألة شكل الدول من المسائل التي كانت محلاً للنقاش عند وضع مشروع الدستور الجديد، وخاصةً مِن قِبَل عدد من المنتمين لإقليم شمال مالي، الذي سعى إلى الانفصال والاستقلال عن الجنوب أو حتى الوصول إلى الحكم الذاتي، من خلال لجوئه إلى الصراع المسلح في 2012م، وما أعقب ذلك من أزمة كبيرة في مالي حتى تم التوصل إلى اتفاقية السلام والمصالحة في 2015م والمعروفة باتفاقية الجزائر، والتي مازالت بنودها لم تطبّق حتى الآن؛ حيث إنه بعد مرور 8 سنوات على الاتفاقية لم يتم تنفيذ أهم بنودها والمتمثلة في تحقيق اللامركزية في مالي؛ بحيث يسمح بنوع من الحكم الذاتي المحلي للشمال، ودمج المتمردين السابقين في القوات المسلحة المالية، ودعم الشمال اقتصاديًّا وعدم تهميشه، مع تمثيل لجميع مكونات الشعب المالي في المؤسسات، لكن ما يزال كلا الطرفين يتهم الآخر بأنه هو مَن يُخِلّ ببنود الاتفاق ويعرقل تنفيذه، بجانب صدور بيانات مِن قِبَل تنسيق حركات أزواد  (CMA)تندّد بانتهاكات حقوق الإنسان التي يتعرض لها أبناء الشمال مِن قِبَل قوات فاجنر الروسية المتعاونة مع القوات الحكومية، كما طالبت المجتمع الدولي بمراجعة جدوى اتفاق الجزائر، وفي ديسمبر 2022م أعلن تحالف الحركات المسلحة في شمال مالي تعليق المشاركة في اتفاقية الجزائر، مشككًا في غياب الإرادة السياسية للمجلس العسكري الحاكم للحفاظ على الاتفاقية، وهو ما يفتح الباب للمطالب الانفصالية من جديد، وفي خطوة تالية أعلن تنسيق حركات أزواد (CMA) في 27 يناير 2023م عن انسحاب ممثليه من لجنة صياغة الدستور، وذلك بعد أن قام وزير خارجية مالي أثناء حديثه في الأمم المتحدة باتهام الجماعات التابعة لأزواد بعرقلة جهود إرساء السلام. ورغم ذلك الانسحاب فلم ينجح المجلس العسكري الحاكم في الوصول إلى ترضية لأبناء الشمال في مشروع الدستور؛ حيث خلت نصوص الدستور من الحديث عن اللجوء إلى الفيدرالية أو الحكم الذاتي، غاية ما تم النص عليه هو تنظيم أراضي الجمهورية وفقًا لمبادئ اللامركزية وذلك حسب نص المادة 174 من مشروع الدستور الجديد.([21])

ومن جانبنا، نرى أنه كان من المهم الوصول إلى تسوية عادلة وشاملة ونهائية لأزمة الشمال، والتي هي بمثابة أزمة في الاندماج الوطني قد تكون نابعة من ممارسات التهميش الاقتصادي والسياسي التي تعرض لها الشمال مع وجود مظالم تاريخية وقعت على أبنائه، وهو ما كان يقتضي تخصيص نصوص في مشروع الدستور الجديد لمعالجة جذور تلك الأزمة ولتلبية تطلعات الشمال؛ وذلك من خلال إدماج نصوص اتفاقية الجزائر للسلام والمصالحة في مشروع الدستور الجديد، بل من الأفضل الأخذ بالفيدرالية إذا كانت ستحقق السلام للبلاد، وتقضي على العنف والإرهاب؛ وذلك لكون التجربة الفيدرالية مطبقة في العديد من دول القارة الإفريقية، وهي أحد الحلول المقترحة للقضاء على المطالب الانفصالية في إفريقيا، بجانب وضع نصوص دستورية يتم بموجبها تخصيص مجموعة من الحصص لتمثيل أبناء الشمال في جميع مؤسسات الدولة، كأن يتم النص مثلاً على وجود نائب للرئيس بحيث يكون الرئيس من الجنوب ونائبه من الشمال، ويتم تبادل الأدوار بين الإقليمين مع كل ولاية رئاسية، وكذلك النص على تخصيص عدد معين من الوزارات للشمال، بل والنص على تخصيص نسبة من مقاعد الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ لهم مع توزيع المناصب كذلك داخلها كأن يتولى مثلاً إقليم الشمال رئاسة الجمعية الوطنية، ويتولى الجنوب رئاسة مجلس الشيوخ، بجانب تمثليهم في المؤسسات القضائية والعسكرية، مع وضع خطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية مصحوبة بإطلاق مجموعة من المشروعات التنموية في الإقليم، مما يجعلهم يشعرون بعدالة توزيع السلطة ومن خلفها الثروة، وذلك أحد الركائز الأولية للتعامل مع المطالب الانفصالية وتسوية الأزمة في شمال البلاد.

تاسعًا: ما يتعلق بمسألة الوحدة الإفريقية لمالي مع غيرها من دول:

حيث إن المادة 180 من مشروع الدستور الجديد نصت على أنه "يجوز لجمهورية مالي أن تبرم مع أيّ دولة إفريقية اتفاقيات ارتباط أو تكامل بما في ذلك التخلي الجزئي أو الكلي عن السيادة بهدف تحقيق الوحدة الإفريقية "، ورغم أن هذا النص كان موجودًا في المادة 117 من دستور 1992م، إلا أنه أصبح محلاً للنقاش بعدما تم التحدث عن احتمالية قيام اتحاد فيدرالي بين مالي وبوركينا فاسو وغينيا، وذلك بعد تصريحات أشارت لذلك الأمر من قبل رئيس وزراء بوركينا فاسو، في لقائه مع رئيس وزراء مالي في 2 فبراير 2023م.([22])

 ورغم أن هذه التصريحات كان الهدف منها إظهار وحدة الحكومات العسكرية في الدول الثلاثة أمام الإيكواس التي تفرض عليهم عقوبات وتطالبهم بتسليم السلطة للمدنيين، فإنه على المستوى العملي الواقعي من الصعب إنشاء مثل هذا الاتحاد الفيدرالي؛ لكونه يحتاج العديد من الإجراءات لتنفيذه كعمل دستور موحد للاتحاد يتم الاستفتاء عليه في الدول الثلاث، وإنشاء حكومة موحدة، وعاصمة موحدة، وعملة موحدة، وإزالة الحدود وغيرها من الإجراءات التي يصعب تطبيقها في وقت قصير، بجانب التحديات الأمنية مِن قِبَل الجماعات الإرهابية التي ستواجه مثل ذلك الاتحاد، فضلاً عن التحديات الإقليمية والدولية، وغاية ما يمكن حدوثه هو التعاون بين الدول الثلاث في مكافحة الإرهاب أو التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري للتغلب على العقوبات المفروضة عليهم، بل حتى يمكنهم التعاون المشترك في التصدي للتدخلات الغربية وخاصة فرنسا بعد توجه النظام في مالي وبوركينا إلى روسيا خلفًا لفرنسا عسكريًّا، مع وجود أحاديث عن دعوات لتغيير عملة الفرنك كذلك والتخلص من العبودية النقدية لفرنسا، ولهذا فإن مسألة الوحدة الفيدرالية بين الدول الثلاثة وإن كانت نصوص مشروع دستور مالي الجديد تسمح بها، لكن على أرض الواقع يصعب تطبيقها، ولا أعتقد أن هناك رغبة لدى حكام مالي في اللجوء إليها؛ لأنهم يرفضون الأخذ بالفيدرالية لحل مشكلة إقليم الشمال الانفصالية بدعوى الحفاظ على السيادة والوحدة الوطنية رغم استمرار أزمة الشمال بتداعياتها السلبية، فكيف يوافقون على الدخول في اتحاد فيدرالي مع بوركينا فاسو أو غينيا ويتخلون عن شعارات السيادة واستعادة الأرض التي يرفعونها.

عاشرًا: النقاش حول وضع قادة الانقلاب في الدستور، ومستقبلهم السياسي:

1-تحصين وحماية قادة الانقلاب من المحاكمة: حيث نجد أن المادة 188 من مشروع الدستور الجديد نصت على أنه "لا يمكن تحت أيّ ظرف من الظروف أن تخضع الوقائع التي تمت قبل إصدار هذا الدستور والمشمولة بقوانين العفو للمقاضاة أو التحقيق أو الحكم"، وفي المقابل نصت المادة 187 السابقة لها على أن "أي انقلاب يعد جريمة ضد شعب مالي ولا يسقط بالتقادم". وهو ما يعني أن واضعي مشروع الدستور الجديد أرادوا حماية العقيد جويتا ورفاقه، والذين قاموا بالانقلاب الأول في أغسطس 2020م والانقلاب الثاني في مايو 2021م من أي إجراءات تجعلهم محلاً للمحاكمة والعقاب مستقبلاً، كما أن الميثاق الانتقالي الجديد الصادر في فبراير 2022م هو الآخر نص على منح الانقلابيين عفوًّا عما قاموا به من ذي قبل. ([23])

2-مستقبل العقيد جويتا ورفاقه بعد انتهاء المرحلة الانتقالية: من بين الأمور التي كانت محلاً للنقد من قبل العديد من السياسيين والأحزاب السياسية: عدم نص مشروع الدستور الجديد صراحةً على منع العقيد جويتا ورفاقه في الحكومة الانتقالية من الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة، خاصةً في ظل قيام العقيد ورفاقه بإطالة مدة الفترة الانتقالية، والتباطؤ في تنفيذ الخريطة المتعلقة بها، وكذلك تأجيل الاستفتاء على مشروع الدستور في الموعد المحدد له من قبل، وهو ما جعل البعض يتحدث عن وجود رغبة في عدم تسليم السلطة للمدنيين والتمديد المتوالي للفترة الانتقالية.

كما أن البعض يرى أن العقيد جويتا سوف يكون مرشحًا في انتخابات الرئاسة المقبلة، وأنه لا ينوي ترك السلطة، حتى ولو كان الميثاق الانتقالي الجديد الصادر في فبراير 2022م، ينص على عدم جواز ترشح رئيس الفترة الانتقالية في انتخابات الرئاسة المقبلة؛ حيث يمكن التحايل على ذلك النص بعدة أمور؛ أولها استقالة العقيد جويتا من منصبه كرئيس للمرحلة الانتقالية، ويحل محله العقيد مالك دياو، وذلك بصفته رئيس المجلس الوطني الانتقالي؛ حيث نص الميثاق الانتقالي على أن يحل رئيس البرلمان الانتقالي محل رئيس المرحلة الانتقالية، وحينها لن يكون هناك موانع قانونية تمنعه من الترشح؛ لأنه لم يعد رئيسًا للمرحلة الانتقالية.([24])

وثاني تلك الأمور هو التمسك بعدم وجود موانع تمنع العقيد جويتا من الترشح في الدستور الجديد إذا ما تم إقراره، والذي سيلغي الميثاق الانتقالي الذي يوجد به ذلك القيد، وبالتالي يمكنه الترشح لانتخابات الرئاسة، والتي يستطيع الفوز فيها بكل سهولة؛ لكونه هو ورفاقه في المرحلة الانتقالية مَن سيقومون بتنظيم هذه الانتخابات ويتحكمون في إدارتها، مما يعني بقاء العقيد جويتا ورفاقه في سُدّة الحكم؛ من خلال قيامهم بعملية "مَدْينة" للسلطة تجعل وجودهم يحظى بمشروعية دستورية، لكنه لن يحظى بشرعية شعبية؛ لأنهم سيكونون في نظر القوى السياسية، قد اتبعوا طريقة الهندسة السياسية والانتخابية التي أبقتهم في السلطة، وهو ما يفتح الباب إلى اللجوء للقيام بمحاولات انقلاب عسكري جديدة للخلاص من العقيد جويتا ورفاقه، وذلك في حالة إخفاق محاولات التغيير السياسي والتناوب السلمي على السلطة من خلال انتخابات شفافة.

 كما أن المستقبل السياسي لرفقاء العقيد جويتا في الحكومة الانتقالية، وعلى رأسهم العقيد ساديو كامارا وزير الدفاع الحالي، والعقيد موديبو كوني وزير الأمن والحماية المدنية سابقًا ورئيس جهاز أمن الدولة (ANSE) حاليًا، والعقيد مالك دياو رئيس المجلس الوطني الانتقالي والذي هو بمثابة هيئة تشريعية انتقالية، والعقيد إسماعيل واجي وزير المصالحة الوطنية، كان محلاً للنقاش؛ لأن العديد من أعضاء الحكومة الانتقالية لديهم طموحات سياسية مستقبلية بل من بين الأسباب الرئيسية التي أدت إلى انقلاب مايو 2021م وعزل الرئيس الانتقالي باه نداو، ورئيس الحكومة مختار واني هو القيام باستبدال كل من ساديو كمارا وزير الدفاع، وموديبو كوني وزير الأمن حينها، بأشخاص آخرين، وهو ما أسفر عن اتهام باه نداو ومختار واني بمحاولة تخريب الفترة الانتقالية، وأدى إلى عزلهم، وتشكيل حكومة تلبّي تطلعات عاصمي ورفاقه، ولهذا فإن العديد من الأصوات السياسية في مالي كانت تودّ إدراج نص في الدستور يَقضي بمنع أيّ من الشخصيات التي تولّت مناصب سياسية في الحكومة الانتقالية من الترشّح للانتخابات الرئاسية المقبلة أو حتى تولّي مناصب وزارية في الحكومة مستقبلاً؛ لكونهم سيكونون بمثابة فواعل قوية في المشهد السياسي، وبالتالي يتحكمون في مسار ومصير العملية السياسية، وهو ما يؤدي إلى أزمات ومشاكل سياسية جديدة في مالي.([25])

الخاتمة:

في ختام هذه الدراسة يتّضح لنا أن مشروع الدستور الجديد لمالي يواجه بالرفض مِن قِبَل شتّى تيارات المعارضة بتوجهاتها المختلفة، في الوقت الذي يصمّم فيه العقيد جويتا على محاولة تمريره والترويج له شعبيًّا، رغم تأجيل موعد الاستفتاء عليه في التوقيت المحدد له، وهو ما دعا البعض لاقتراح يونيو المقبل ليكون موعدًا جديدًا لعرض مشروع الدستور على الاستفتاء؛ وذلك منعًا لإطالة مدة المرحلة الانتقالية عن موعدها المحدد، وما يتبعها من تداعيات سلبية تتمثل في مزيد من الضغوط الداخلية، أو فرض عقوبات إقليمية ودولية على مالي، خاصةً في ظل اتباع نظام العقيد جويتا لسياسة خارجية غير صحيحة تتسم بطابع العداء والتحدّي، وبالأخص مع دول الجوار، وهو ما يتضح من خلافاته مع كوت ديفوار والنيجر.

ومن جانبنا، نرى أن موقف المعارضة بأطيافها المختلفة -سواء منها الداعي إلى مقاطعة الاستفتاء على الدستور أو الداعي لرفضه، أو حتى من رفضوا المشاركة في اللجنة التي عيّنها عاصمي جويتا لكتابة الدستور منذ البداية، أو من قاموا بالانسحاب منها فيما بعدُ- لن تكون استراتيجياتهم المذكورة حاسمة للخلاف، ولهذا نقترح أن تجتمع قوى المعارضة وتقوم باختيار لجنة متخصصة في كتابة الدساتير، وتمثل فيها جميع القوى السياسية، تكون مهمتها كتابة مشروع دستور جديد للبلاد، وعَرْضه على حكام الفترة الانتقالية، أو حتى جمع المواد المختلف فيها في مشروع الدستور الذي قدمته الحكومة الانتقالية، واقتراح مواد أخرى بديلة تتناسب مع المعارضة، ومِن ثَم التفاوض مع الحكومة الانتقالية من أجل إقرارها؛ بحيث يكون هناك توافق سياسي بشأن مشروع الدستور يَقضي على الخلاف المثار بشأنه؛ لأن دستور 1992م كانت هناك محاولات عديدة لتغييره قبل وصول العقيد جويتا للسلطة، لكنها لم تنجح بسبب الخلاف وعدم التوافق حولها.