الراصد: يعاني العراقيون من أصول أفريقية، أو ما يعرف حديثاً بالأفرو-عراقيون من تهميش قديم ومتواصل في العراق الذي يرفض – دائماً – الاعتراف بوجود تمييز عنصري ضدهم. ورغم أن زمن العبودية قد انتهى منذ وقت طويل، فإن كلمة “عبد” ما زالت تطلق على أفراد هذه الفئة التي تفضل كلمة “أسمر” أو “أسود” حتى عليها. يأتي هذا الأمر في غياب تام لأي تحرك فعلي، لا كلامي فحسب، يوقف أو يغير ثقافة التمييز هذه، خاصة في ظل عدم رغبة الكثيرين منهم في التحدث علناً عمّا يتعرضون له من عنصرية وتمييز.
أصول أفريقية
ترجع أصول أفارقة العراق إلى القبائل المنحدرة من البلدان الشرقية للقارة الأفريقية مثل النوبة وزنجبار والصومال وإثيوبيا والسودان وكينيا وتنزانيا.
ويعود تاريخ تواجد بعضهم في العراق إلى بداية الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، حيث استقدم القائد عتبة بن غزوان الموجة الأولى من هؤلاء إلى البصرة. أما غالبية العراقيين الأفارقة، فيعود تاريخ تواجدهم في العراق إلى العصر العباسي، عندما جاء بعض المهاجرين الأفارقة إلى المنطقة. وكانوا إما بحّارة أو عمالاً أو مزارعين، إضافة إلى العبيد والجنود.
ويسكن أغلب العراقيين من أصول إفريقية في المناطق الجنوبية للبلاد، خصوصاً في منطقة البطحاء في البصرة وميسان وذي قار. وتوجد تجمعات قليلة منهم في بغداد وواسط. أما أعدادهم فتتراوح بين ٥٠٠ ألف ومليون نسمة، في حين تشير بعض الإحصائيات غير الرسمية إلى عدد يقارب المليونين نسمة. وتعتنق غالبية العراقيين من أصول إفريقية المذهب الشيعي، وهم يتحدثون اللغة العربية باللهجة العراقية الجنوبية بعد اندثار التلحين السواحلي الذي كان يرافق لهجتهم بمرور الزمن.
حياة صعبة
يعاني معظم العراقيين من أصول أفريقية من سوء المعيشة، مع غياب تام للعدالة الاجتماعية. وتسكن الأغلبية العظمى منهم في بيوت من صفيح، بينما يسكن القسم المتبقي في التجاوزات والمناطق الشعبية رديئة الخدمات.
عمل العراقيون من أصول إفريقية منذ بدء قدومهم على يد تجار الرقيق العرب إلى البصرة التي اكتسبت أهمية كبيرة في هذه التجارة كونها تملك أهم ميناء بحري في ذلك الوقت. وكانت أعمال هؤلاء قاسية الطابع وترتبط بظروف سيئة، كتجفيف الأهوار، وإزالة الطبقة الملحية عن التربة لجعلها صالحة للزراعة. ومنهم من تم استخدامه في النزاعات العشائرية، فيما استعمل البعض في مزارع النخل وقصب السكر.
هذ الأمر أثر إلى يومنا هذا في نوع الأعمال التي يزاولها العراقيون من أصول إفريقية، فأغلب أعمال أفرادهم اليوم أعمال خدمية. فمنهم من يعمل كشرطي أو جندي أو عامل نظافة أو سائق أو حارس. واضطر قسم منهم للعمل في المزارع أو الخدمة في دواوين الشيوخ وأصحاب الأموال كأسلافهم.
بيد أن هذا الأمر لم يمنع فئة صغيرة من العراقيين الأفارقة من العمل في التخطيط العمراني والقضاء والفنون. ومع ذلك، فإنه لم يسبق لعراقي يتحدر من أصول إفريقية تولي منصب رفيع في الحكومة العراقية. كما لم يكن لهم ممثلون في مجالس المحافظات أو في البرلمان العراقي. وبحسب وثيقة مسربة عن موقع ويكيليكس الإلكتروني، فقد وصف رامون نغرون، مدير القنصلية الأمريكية في البصرة، إمكانية وصول نائب واحد عن هذه الفئة على أقل تقدير بالأمر “السهل”، لكن ذلك لم يتحقق لأنهم يعانون من التمييز في ظل النظام السياسي الحاكم.
تندر حالات الزواج والمصاهرة بين العراقيين الأفارقة وغيرهم من العراقيين، فهي – وإن حدثت – ستسفر عن مواليد يطلق عليهم اسم “المولدين”. ولا تقل نظرة الاحتقار تجاه هؤلاء حدة عن تلك التي لاحقت أسلافهم، الأمر الذي دفع بالكثير من العراقيين إلى الابتعاد عن الدخول في هذا النوع من العلاقات من العراقيين الأفارقة.
أما عن التعليم، فلا تزيد نسبة تعليم العراقيين الأفارقة عن 25%. ويعود السبب في انخفاض هذه نسبة المتعلمين إلى القوانين العراقية القاسية بحقهم. وعلى الرغم من تجريم العبودية في العراق عام 1924، في عهد الملك فيصل الأول، إلا أن نظرة الاحتقار والعبودية تجاههم لم تتغير. ولم يتمكن أطفالهم من دخول المدارس الحكومية حتى عام 1960.
ثقافياً
صورة تم التقاطها يوم ٢٠ يناير ٢٠٠٩ لأعضاء من حركة “العراقيين الحرة” وهي حركة سياسية أسسها السود المتحدرون من أصولٍ إفريقية أثناء استماعهم للأمين العام جلال ذياب وهو يلقى خطاباً في اجتماعٍ تم تنظيمه في مدينة البصرة جنوب العراق لمتابعة تنصيب باراك أوباما كأول رئيس أسود للولايات المتحدة الأمريكية. المصدر: ESSAM -AL-SUDANI / AFP..
أضاف العراقيون الأفارقة الكثير لمخزون الجنوب العراقي الفني برقصاتهم وموسيقاهم. وبرغم كلّ ما حصل بهم من خراب، فقد حافظ الكثير منهم على موروثهم الفلكلوري الموسيقي وبمسمياته الأم الأصلية مثل معزوفات بيب، والليوة، وجونباسا، والنوبان. وتختلف هذه الأغاني الفلكلورية عن بعضها بحسب اختلاف الآلات الموسيقية المستخدمة فيها.
كما يتميز العراقيون الأفارقة بطقوس أسبوعية أو مناسبات يمارسون فيها تلك الطقوس في بيوت تسمى المكايد. والمكايد هي معابد، لكنها تختلف عن المساجد الإسلامية المعروفة لأنها تمزج الموسيقى بالطقوس الدينية. وفيها ما يختلف اختلافاً جذرياً عن تركيبة المجتمع الإسلامي. ومن المكايد التي اشتهرت بالبصرة: مكيد انيكا، ومكيد أبو ناظم، ومكيد سعيد منصور.
وانصهر جزءٌ من العراقيون الأفارقة في مجتمع جنوب العراق، حيث اكتسب هؤلاء عادات وتقاليد جنوب العراق، لدرجة اندثرت فيها ثقافتهم الأصلية بشكلٍ كلي. وتطبع هذا الجزء الذي كان يعمل لدى الشيوخ وأصحاب المال بصفات من كان يعمل لديهم، وانتمى لمعتقداتهم، وحمل نسب العشائر التي كانت تملك أسلافه.
سياسياً
يعود أقدم تحرك سياسي للعراقيين الأفارقة إلى الفترة ما بين القرنين السابع والتاسع بسبب الواقع الاجتماعي والاقتصادي المتردي آنذاك. وفي تلك الحقبة، قام العراقيون الأفارقة بثلاث انتفاضات أولها كان في عام 67هـ أثناء تولي مصعب بن الزبير لولاية بلاد الرافدين. أما الانتفاضة الثانية فوقعت عام 75 هـ أيام الحجاج بن يوسف الثقفي.
وتعد الانتفاضة الثالثة أخطر الانتفاضات، حيث استمرت لما يزيد عن 14 عاما. وجرت أحداث هذه الانتفاضة في مدينة البصرة بين عامي 255 و270هـ تحت قيادة علي بن محمد. هذه الانتفاضة وقعت نتيجة الجوع والحرمان، وأدت إلى تأسيس حكم ذاتي سياسي ومحاصرة وتدمير مدينة البصرة، ومنها المثل العراقي المشهور” بعد خراب البصرة”. وانتهت هذه الانتفاضة بشكلٍ كامل عندما قررت الدولة العباسية سحقها وتفريق العراقيين الأفارقة على العشائر والمناطق المختلفة.
ومنذ ذلك الوقت، لم تقم للعراقيين الأفارقة قائمة في العراق أو غيره، خصوصاً في حقبة صدام حسين الذي أحكم قبضته على البلاد. وبعد سقوط النظام العراقي السابق في عام 2003، تزعّم المجتمع الأفرو-عراقي جلال ذياب، الذي أطلق عليه اسم “مارتن لوثر كينغ البصرة”. وأسس ذياب “جمعية أنصار الحرية الإنسانية”، حيث بدأت الجمعية بإعطاء الورشات لتعليم مهن جديدة كالخياطة والكومبيوتر والحلاقة والمكياج، فضلاً عن إقامة صندوق مالي لتزويج الشباب العراقيين الأفارقة، ومساعدة فقرائهم. وأسس الجمعية مدرسة لمحو الأمية بين السود.
وتبلورت رؤية ذياب السياسية بين عامي 2005 و2007، حيث قام بتأسيس “حركة العراقيين الحرة”، وهي حركة تشبه حركة الحقوق المدنية الأمريكية لإحقاق العدالة والمساواة ورفع التمييز العنصري. لكن الحلم الذي أيقظه جلال ذياب تم إسكاته بالرصاص عام 2013، عندما تم اغتياله في البصرة، سيّما وأن هذا الحراك شكّل تهديداً للأحزاب السياسية التي كانت تحاول فرض ثقافة مختلفة في البلاد وتعاملت مع حركة العراق الحرّة كمسبب لفقدانهم مراكزهم.
وبمقتل جلال ذياب انتهى الحلم الأفرو-عراقي بالوصول إلى ما يطمحون إليه من أماكن.
حقوق ضائعة
يطالب العراقيون الأفارقة اليوم بممثلين عنهم في البرلمان، ويطمحون في الوصول إلى مناصب مرموقة في الدولة كأي فئة عراقية أخرى. ويجدد العراقيون الأفارقة التأكيد على مطالب جلال ذياب الذي طالب شمولهم بنظام الكوتا (الحصص النسبية للأقليات) أسوة بغيرهم من الأقليات، سواء على صعيد البرلمان الوطني أو الحكومات المحلية.
واليوم، تشهد هذه الفترة وضعاً سياسياً واجتماعياً ساخناً، إذ مرّ العراق بانتخابات برلمانية جديدة فيها من المخاطر والوعود القديمة الكاذبة الكثير. فالحكومة عقدت هذه الانتخابات وسط مقاطعات من فئات شعبية كثيرة. في المقابل، تسعى الحركات الشبابية إلى تغيير العراق والقضاء على الفساد والفاسدين عبر هدم الهيكلية السياسية الراهنة لبناء عراق جديد تتساوى فيه كل الفئات والطوائف. وكما تحاول بعض الأحزاب إسكات العراقيين من أصول إفريقية، مثلما قتلوا صوتهم الوحيد جلال ذياب من قبل، وشراء أصواتهم لغايات شخصية بحتة، لا تصب إطلاقاً في مصلحة هذه الفئة من العراقيين. يأتي ذلك بالتزامن مع مطالبات شباب العراقيون الأفارقة المثقفة بعدم الانجرار وراء الوعود الكاذبة التي تعطيها بعض الأحزاب لهم، مذكرين إياهم بتاريخ الخذلان الطويل.
المصادر:
– السامر، فيصل. ثورة الزنج. مؤسسة المدى. بغداد. 2000م.