
الراصد : نشرت صحيفة “لوموندLe Monde ” الفرنسية فى عددها الخميس 31 يوليو، تحقيقا استقصائيا خصصته لمدينة انواذيبو (475 كلم شمال موريتانيا) .
بدأ التحقيق من مرفأ مدينة نواذيبو، ثاني أكبر مدن موريتانيا، بالقول الحركة هناك لاتهدأ ليلًا ولا نهارًا.
وفي أحد أمسيات هذا العام (2025،) كانت أكثر من 150 طنًا من السردين تُفرغ من سفينة “وفاء 5″، وسط ضجيج رافعات النقل وسواعد مئات النساء العاملات في فرز الأسماك. هذا المشهد المألوف يخفي وراءه أزمة بيئية واقتصادية متصاعدة تهدد موردًا أساسيًا للحياة في المنطقة: البحر.
مدينة نواذيبو، المحاذية لمحميات طبيعية بحرية كبرى مثل “البنك الوطني للأركان”، أصبحت مركزًا عالميًا لصيد الأسماك، حيث ترسو فيها يوميًا ما بين 6 آلاف و7 آلاف زورق صيد تقليدي، إلى جانب نحو 400 سفينة صناعية قادمة من الصين وروسيا وتركيا والاتحاد الأوروبي. لكن ما كان مفخرة اقتصادية لموريتانيا، بدأ يتحول إلى كارثة بيئية وإنسانية بفعل الطلب العالمي على دقيق وزيت السمك، المعروف محليًا باسم “الموكا”.
تحويل البحر إلى أعلاف
حتى عام 2021، كانت 95% من كميات الأسماك المصطادة تُوجَّه نحو صناعة دقيق وزيت السمك، وهو منتج يُستخدم لإطعام الأسماك والدواجن والخنازير في مزارع أوروبا وآسيا. وعلى الرغم من فرض السلطات الموريتانية حصة 20% من الصيد للاستهلاك البشري، لا تزال أكثر من نصف صادرات البلاد من المنتجات البحرية تتحول إلى “موكا”.
إنتاج طن واحد من هذا الدقيق يتطلب 4.5 أطنان من الأسماك الصغيرة مثل السردين والسردينيات والماكريل، ما أدى إلى استنزاف غير مسبوق للثروة السمكية. ويقول عزيز بوغوربال، مالك مصنع Omaurci SA: “تحولت صناعة الموكا من نشاط ثانوي لتدوير النفايات إلى نشاط رئيسي يستهلك خيرات البحر.”
موانئ مزدحمة وأرواح فارغة
في الحي الصناعي بمدينة نواذيبو، أُغلقت غالبية مصانع الموكا، ولم يتبقَ سوى نحو عشر وحدات من أصل 29. ويرجع ذلك إلى تراجع المخزون السمكي بشكل حاد، إلى جانب القوانين الجديدة، كما يقول الخبراء. “لا يتعلق الأمر فقط بالقانون، بل بالحقيقة المرة: لم يعد هناك ما يكفي من الأسماك”، تؤكد الناشطة البيئية الأوروبية بياتريس غوريس، من “ائتلاف من أجل اتفاقيات صيد عادلة”.
أربعة أعوام مضت كانت كافية لتحويل ما كان يبدو فرصة استثمارية إلى نموذج فاشل من الاستغلال المفرط للموارد. فقد وصلت صادرات أحد أكبر المصنعين في نواذيبو من 13 ألف طن سنة 2020 إلى أقل من 6 آلاف طن فقط سنة 2024.
تداعيات إقليمية ونداءات للإنقاذ
تشير تقارير من منظمات مثل الفاو وGreenpeace إلى أن تدمير المخزون السمكي الموريتاني لم يعد أزمة محلية فقط، بل أصبح يهدد الأمن الغذائي في كامل منطقة غرب إفريقيا، حيث يعتمد ملايين الناس على السمك كمصدر بروتين رئيسي.
وبات واضحًا أن السفن التي كانت ترتاد مياه نواذيبو بدأت تنقل عملياتها إلى سواحل غامبيا وغينيا بيساو، في ما يُشبه الهجرة الجماعية لصيادي “الموكا” صوب مناطق جديدة، الأمر الذي دفع فاعلين في القطاع إلى الدعوة إلى مقاربة إقليمية موحدة لضبط استغلال الموارد البحرية.
الدرس الموريتاني: كيف يُفقد البحر بلا حرب؟
من ساحة الصيد إلى طاولات القرار، تتردد اليوم عبارة واحدة بين أبناء المدينة: “لقد خسرنا البحر بأيدينا”. تحوّلت نواذيبو من جوهرة على المحيط إلى مركز أزمة تُنذر بفقدان كنز طبيعي نادر.
التحقيق نقل عن رجل الأعمال عباس بوغوربال تعليقه على سوء الأوضاع فى انواذيبو وتدهورها بشكل ينذر بالكارثة قائلا: “سنحتاج سنوات طويلة لتجاوز هذه الكارثة المزدوجة – البيئية والاقتصادية – إن كنا سننجو منها أصلًا.”