هند وشيخنا؛ كهل وكهلة جمع بينهما التسول، وبلغا في إتقانه ومعرفة أسراره وسبر أغواره مراحل لا يدانيهما أحد فيها.
قال لها: اعلمي يا هند أن الوظيفة لا تدر نصف ما تجنين من التسول؟
صحيح؛ أن مجتمعنا يعتبر التسول معرة، وأن البعض يعتبره حراما. ولكن ما أهمية ذلك إذا كان التسول رزقا جيدا؟!
قالت هند: أجل، ولقد تجاوزت تلك العقدة. أمس أمام تلك المخبزة؛ تقدمت إلى رجل من "لخيام" أعرفه ومعه ابنة عمي! ألقيت عليهما السلام بشكل طبيعي وودي، ثم طلبت منهما "المعروف" بعد السلام الحار. ظهر لي أنهما استغربا الأمر أولا، وربما شعرا بالإحراج، لكني أعدت الطلب بكل ثقة و"مهنية"، وكانت النتيجة كما توقعت مذهلة! فقد جاد كل منهما بما يستحيل أن يجود به على سائل عادي أو مجهول...
نظر إليها بإعجاب شديد، وقال: أنت رائعة؛ هذا إبداع وذكاء تحسدين عليه: استغلال المعرفة والقرابة واستثمارها؛ انظري: لقد تحول الحرج الذي كانا سيدمرانك به، إلى حرج لصالحك تماما! شعرا بأن المخرج الوحيد لهما هو رفع مستوى العطية. طبعا هو نوع من الغرور والاستعلاء، وليس بالضرورة إيمانا بالصدقة والبر!
قالت هي: هذا صحيح؛ مثل هذا الذكاء جيد لنا... وما المشكل بعد ذلك في أن تقول هي أو هو: لقد لقينا فلانة "تطلب الصدقة"! حسنا: لكنكما أنتما من وقع! أخرجتما مبالغ لا تجود بها نفسيكما عادة. ومقابل هذا الخبر السخيف كسبت هند مبلغا استثنائيا ذلك اليوم!
قال هو مغيرا الحديث: يبدو أن الأحوال هذه الايام في تراجع؛ هذا طبيعي ففي عطلة المدارس، لا يخرج الناس مبكرين بأطفالهم إلى المدارس باذلين الظاهر والباطن في رعايتهم وطلب نجاحهم. والحقيقة أن كثيرا من أهل الدشرة قد خرجوا إلى مرابعهم البعيدة.
قالت هند: على أي حال فإن التسول خارج "تفرغ زينة" مضيعة للعمر!. حتى لو كسبت الوقت والراحة من المشي والنقل... فلن تكسب سوى تلك "النحاسات" القليلة، وأحيانا صرر السكر الغبية... إنها "تطعنني"، وأتمنى أحيانا أن أنثرها على وجه صاحبها...
- صحيح، لكن "أم الناس" تجمع منها خنشة كاملة في أسبوع واحد... ثمنها أكثر من عشرة آلاف أوقية...
قال ذلك ثم أردف: أعتقد أيضا أنك لا تحسبين "النحاس" جيدا. لطالما تملكتنا الحيرة بين العمل في الأحياء الشعبية وبين العمل في تفرغ زينة؛ المسألة حسابية فقط... صحيح أن أهل تفرغ زينة لا يتصدقون بصغار "النحاس" لأنهم لا يحملونها أصلا؛ ومنهم من يتصدق بورقة الألف وربما الألفين؛ ولكن أخبريني كم عددهم؟!
القوم مع ذلك التمظهر يطغى عليهم البخل والكبر...
أما في الأحياء الشعبية فستلقى عليك العشرين والعشرة، ولكن لن يعتدل النهار حتى تحسي ثقل جيبك، وفي جلسة المقيل ستجدين أن الحصيلة جيدة، ربما تفوق غلة يوم كامل في تفرغ زينة. المسألة في النهاية رزق وحظ... لا تنسي ذلك.
قالت هند منكرة: لا أطيق ذلك الجوع والتقتير... ففي تفرغ زينة تمضي الساعات وربما اليوم لا تحصل على شيء ولكن فجأة يتوقف بطرون أو بطرونة وينفحك بورقة كبيرة خضراء مشعشعة، وإذا لم تكن ضمن "فريق" تكون من نصيبك وحدك...
قاطعها قائلا: تلك إحدى منغصات تفرغ زينة، وحتى "كبتال": ذلك الخلق والشراكة؛ تشعرين بأن الكسالى يختطفون جهدك ويشاركونك فيما ليس لهم بحق!
لهذا فما عدا أيام الجمعة لا أحبذ "العمل" في تفرغ زينه، لأن خلق الله المتسولين يطلبون الحق في كل بعوضة تلسعني، ويطالبون بقسمة لا يفقهون منها شيئا...!
قالت هي: المشكلة أن الأسبوع بكامله ليس فيه سوى جمعة واحدة. فهل ستنتظرها ليشاركك الغرباء والبلداء فيما تحصل عليه...؟!
ذلك بالنسبة لكن أنتن النساء، المرابطات على المداخل بعيدا. أما الرجال فلا يقبلون الشراكة في غلة الجُمعات، لأنهم يدخلون المساجد فرادى ويعمل كل واحد منهم لحسابه الخاصـ إنه يوم حر، ومبارك طبعا.
ولكن في هذا اليوم المبارك عملا شاقا يتطلب الجد والصبر والنشاط...
أنا والحمد لله أستطيع العمل في خمسة مساجد بتفرغ زينة يوم الجمعة!
تساءلت هند متعجبة: كيف ذلك وساعة الجمعة واحدة؟
قال هو بثقة: لدي برنامج قائم على توقيت المساجد. خذي مثلا:
- أنام الضحى وبعد أطاجين في البيت أركب قبيل الزوال مع سائقي، وآمره أن يظل على استعداد في ركن من الشارع، لا يقترب مني حتى أشير إليه كأي سيارة أجرة.
ابدأ الرحلة من مسجد سوكوجيم تفرغ زينة المسمى "مسجد قباء"... هذا يصلي الجمعة عند الساعة الواحدة والنصف. ومن ثم أركب مسرعا إلى مسجد الأنبياء في حي "لاس بلماس"، فهذا يصلي الجمعة عند الثانية إلا عشر دقائق. ومن ثم أتوجه إلى أقرب مسجد من مساجد جمعة الساعة الثانية تماما، وهي الأكثر.
وبعد ذلك أتوجه إلى مسجد فندق أميرة، فهذا يصلي الجمعة عند الساعة الثانية وعشر دقائق تقريبا، ولن يكمل الخطبة قبل أن التحق بالصفوف...
وبعد ذلك أتوجه على مهل إلى مسجد يوسف المعروف بمسجد شغالي، وهذا مشهور بتأخير الوقت، رفقا وتوسعة على العباد، حتى أن جمعته لا تكون قبل الثالثة والربع؛ وهو مسجد استراتيجي نظرا لما يحيط به من ديار الأثرياء والوزراء والكبراء...
وهكذا أجمع بين العمل في خمسة مساجد، وأضطر أحيانا لصلاة الجمعة أربع أو خمس مرات! لطالما عزمت على سؤال بعض الفقهاء عن حكم تلك الصلاة وأيها تكون جمعتي الحقيقية؟!.
محمد محفوظ أحمد