ضبابية الرؤية سمة غالبة على كل فعل لا يُحيل إلى مستمسك عقدي، ولأن الوقت حان والآن آن للمكاشفة ينبغي أن لا ننخرط في تفسير الماء بالماء لأن ذلك سيكون مساهمة في استمراراللعبة الكسيحة التي تعطل آليات التفكير الخلاق.
بل يجب الاتجاه رأسيا، لا أفقيا، إلى اقتراح حلول مبتكرة للاختلالات البنيوية الاقصادية/الاجتماعية التي تسابق الاصلاح إليها جحافل الافساد.
إن التفكك الاجتماعي أبلغ خطورة بما يستبطن دعاته من آليات دهم وأدوات هدم، وكل خلل اجتماعي قابل للتلافي قبل التلف ما لم يكن من “هَرَم” بالعمر أو المعنى، لأن “الهرم إذا نزل بدولة لا يرتفع”.
ولعل زاوية رؤية المسرح السياسي ، بالعين المجردة، لم تُـتَحْ ،لمن يريدها ،وقد لا تتاح مستقبلاً، بالوضوح البانورامي كما هي الآن .
وهذا الغبش الذي يضبب الرؤى لا تعيشه إلا “المجتمعات مأزومة “النخب”، و”النخب المهزومة” التي يتلبسها هوس البقاء الملازم لنفي الآخر، و”تضخم الأنا” المتناسب طرديا مع “الضمور الفكري الفعلي”.
إن”وباء” التنازل عن المقاصد الكبرى ومقايضتها بالمكاسب الصغرى، وانتشار “المحاباة” وفقا لقاعدة “لقد أفلح المتملقون” هي “علة الترحال”” الدائم بين مظان “المراعى” المؤدي إلى “الترهل” الذي يُصيب به “الراعي” ،والهزال الذي يهلك الماشية من طول “النجعة”.
وإذا كان ذلك حال النخبة في وادي أوهامها الضبابية ،فإن “العامة ” في وادغير ذي زرع ” لا تفارقها النكبات وتحل عليها الأزمات لا البركات، وهي ، مع التحفظ ، ما زالت وفية لمرقصيها،على رأي ابن خلدون ” يجمعها الطبل وتفرقها العصا” نتيجة الفقر و الجهل و تراكم الإحباطات ومفاعيل تراث مديد من القهر والتبعية والخرافة.
ولقد أدَّى هذا الموكب الوبائي و البائقة الدهياء إلى هذا الحال المرشح للتفاقم، من تفكك وتهتك و تهالك يستشري يوما بعد يوم وساعة بساعة متدرجا من الوطن إلى الجهة وصولاً إلى الخلية الأولى التي هي الأسرة.
إن الحديث الحادَّ ــ وهو وارد و مبرر ــ عن “مسألة” الفئات والشرائح المظلومة تاريخيا، وتلك حقيقة، وما يرافقه من تعابير نادَّة ــ ليستْ واردة ــ عن فئات أخرى باعتبارها ظالمة، وذلك تجنٍّ وظلم ، وحصر المظالم السالفة في المكون العربي ، رغم أنها تاريخيا من تراث الإنسانية المقيت ، وقد وجدت بشكل أفظع في بعض المكونات الوطنية الأخرى، كما هي موجودة في أكبر ديمقراطيات العالم ،كالهند مثلا.
من الواجب أن تكون مسألة الغبن “الموضوع الأول” على جدول أعمال كل استحقاق وكل حزب وكل تجمع ، فضلا عن كونه من صميم مهام الدولة وتشكيلتها التي توصف “بالإستمرارية” وعليها أن تقوم بدورها التاريخي الضامن للسلم الإجتماعي…
وما نشهده من تنامي الفكر العنفي الذي يستدعي “هوية دينية” في مجتمع معروف بإيمانه وفطرته الوسطية و وحدته التي حافظ عليها بالدين رغم غياب الدولة حتى بات الدين ـ بالنسبة له ــ”هوية” مقدسة جامعة مانعة فريدة في العالم.
فما الذي دفع بهذا اتسونامي إلى ركننا القصي حيث المذهب واحد والعقيدة واحدة والعادات والتقاليد متشابهة متشابكة ؟ إبحثْ عن النخبة السياسية المصابة بالإفلاس الخلقي والتتخشب الفكري !!. و رحم الله مؤسس علم الإجتماع العلامة عبدالرحمن بن خلدون الذي يقول: إن الفتن التي تتخفّى وراء قناع الدين تجارة رائجة جدًّا في عصور التراجع الفكري للمجتمعات ..
ناجي محمد الإمام