
الراصد : لا تزال موريتانيا، رغم ادعاءات التقدم والحداثة، تعيش أسيرة تراتبية اجتماعية صارمة، تُفرَض على الناس قَبل أن يفتحوا أعينهم على الدنيا، وقبل أن تُكتب لهم هوياتهم في الأوراق الرسمية.
هنا، لا يُقاس الإنسان بأخلاقه ولا علمه ولا عمله، بل بدمه، ولقبه، ونَسَبه، وملامح لونه.
إنها عنصرية لا تتخفى خلف قوانين، بل تختبئ وراء الموروث، وتنتشر باسم “التقاليد”، وتنمو في صمت مخيف، حتى بات كثيرٌ من الناس لا يرونها مشكلة أصلًا، بل “نظاماً مقدساً” لا يجوز المساس به.
● أيُّ وطنٍ هذا الذي تُقسم فيه الأرحام قبل أن تُقسم الأوطان؟
حين يرفض “الشرفاء” الزواج من “الزوايا”، ويتعالى هؤلاء على “حسان” بدعوى الجهل والهمجية، ويحتقر الجميع “لمعلمين” لأنهم “صناع”، ثم يتكبر “لمعلمين” بدورهم على “لحراطين” بزعم أنهم “عبيد”؛ فنحن لا نتحدث عن طبقية اجتماعية عابرة، بل عن نظام فصل عنصري ناعم، غير مكتوب، لكنه أشد قسوة من قوانين الأبارتايد.وهذه التراتبية المتخلفة توجد في كل مكونات الشعب الموريتاني، مرورا بالناطقين بالحسانية والناطقين بالبولارية،والسوننكي،والوقوف وأن كان الوضع في الوقوف أقل عنصرية فهم منفتحون ،ويستوعبون الحياة العصرية أكثر من غيرهم من المجتمعات الأخري.
إنها سلسلة عنصرية متصلة الحلقات، يسحق فيها من وُلد في أسفل السلم، ويُقدَّس من وُلد في أعلاه، دون أن يقدّم أيّ دليل على قيمة أو فضل أو إنجاز، غير ما كتبته الدماء على شجرة النسب.
● عنصرية متخفية بعباءة الدين
المفارقة المؤلمة، أن هذا النظام يجد من يبرره بالنصوص، ويتحدث باسمه على المنابر، مع أن الدين الإسلامي حارب العصبية الجاهلية، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم:
“دعوها فإنها منتنة”.
لكن ماذا حدث؟
تحوّل الدين عند البعض إلى ختم شرعي يبرّر امتيازاً وراثياً، أو يرسّخ عبودية مقنّعة، أو يفرض صمتاً مخجلاً على مظالم اجتماعية عمرها قرون.
● لماذا نصمت؟
نصمت لأن العنصرية أصبحت جزءاً من الحياة اليومية:
في جلسات “الحكّامات”…
في تعليقات السوق…
في جلسات الزواج…
في المدارس…
وأحياناً حتى في الصحف والدوائر الرسمية.
نصمت لأن كثيراً من الضحايا يقبلون موقعهم في السلم الاجتماعي باسم “القسمة” أو “القدر”، بينما المستفيدون لا يريدون تغيير نظام يمنحهم مكانة بلا جهد، وسلطة بلا استحقاق.
● أخطر من العنصرية… تبريرها
إن أخطر ما في العنصرية الموريتانية أنها لا تُدان كجريمة، بل تُقدم وكأنها “تراتبية طبيعية”…
يتحدثون عنها بشكل عادي، ويمارسونها كجزء من الحياة…
حتى أصبح من يستغربها هو “الشاذ”…
ومن ينتقدها هو “المتهور” الذي “لا يفهم المجتمع”.
● هل نملك شجاعة المواجهة؟
لا يقوم مجتمع على التمييز ويطمح إلى العدالة.
ولا يُبنى وطن على طبقات دم ويرجو الوحدة.
ولا يمكن لدولة أن تتقدم بينما نصف مواطنيها يُنظر إليهم كـ“سُخرة” ونصفهم الآخر كـ“سادة”.
إن بناء مستقبل عادل يبدأ من هدم جدار الصمت، وفضح هذا النظام غير المعلن، والاعتراف بأنه مرض اجتماعي مستفحل، لا مجرد “عادة من عادات أهلنا”.
● ختاماً…
نحن لسنا عنصريين حين نستغرب العنصرية…
بل نحن أحرار حين نرفضها.
والشعب الذي لا يجرؤ على مواجهة موروث الظلم في بيته، لن يجرؤ على مواجهة ظلم الحاكم في قصره.
لقد آن الأوان أن نسأل بصوت عالٍ، لا يهم من يغضب:
أي مجتمع نريد أن نورّث أبناءنا؟ مجتمع الإنسان… أم مجتمع الفصل العنصري .؟!
المجتمع المتخلف لايمكنه بناء دولة مدنية عصرية.
