التسمية والتشهير: محاكمة الدولة الموريتانية أمام العدالة.

ثلاثاء, 04/11/2025 - 20:01

الراصد : القضية بسيطة في وقائعها لكنها خطيرة في تبعاتها: بعد ملاحظات مالية سَجلتها محكمة الحسابات، قام الجهاز التنفيذي بنشر قائمة اسمية تضم ثلاثين شخصًا وُصفوا بأنهم «مشتبه في تورطهم». غير أن إحالة الملفات من طرف المحكمة إلى العدالة غايتها قضائية بحتة وليست إعلامية. إن نشر الهويات في هذه المرحلة يُعد انتهاكًا لقرينة البراءة، ولسرية الإجراءات، ولحماية السمعة والبيانات الشخصية. ويتيح القانون الوضعي، في مثل هذه الحالة، أسسًا قوية للمطالبة العاجلة بسحب تلك المنشورات، والتعويض الكامل عن الضرر، ومعاقبة من قام بالتسريبات غير القانونية عند الاقتضاء.
ثلاثون اسمًا قُدمت إلى الرأي العام: جبر ما لا يُجبر

إن النشر العلني للأسماء يشكل في حد ذاته عقوبة اجتماعية ومؤسسية سابقة لأوانها. إنه يُلحق ضررًا فوريًا وعميقًا بشرف الشخص، ويشوّه صورته وسمعته بصورة دائمة، ويصيب أسرته ومحيطه، ويمس كرامته الإنسانية.

أليس من المعيب على الدولة أن تُلقي بموظفيها إلى العلن؟ أليس من المُحزن لكل مواطن أن يرى موظفًا (أمينًا عامًا لوزارة) ضمن هذه القائمة المشينة يطلب الصفح من أسرته وأطفاله؟ صفح عن ماذا؟ ومن مَن؟ لم يُصنَّف أي فعل من هذه الأفعال كجريمة أو جنحة من طرف النيابة العامة، سواء بالنسبة إليه أو لغيره من المسؤولين، وقت إعلان الحكومة للقائمة. إن تصنيف الفعل هو المنشأ لكل محاكمة أو متابعة قضائية. وحتى تلك اللحظة، لا يتعلق الأمر إلا بأخطاء في التسيير (من اختصاص محكمة الحسابات)، أي مخالفة للتشريعات المالية والمحاسبية العامة، تعاقب بحجز الراتب السنوي أو جزء منه، وربما بإجراء إداري تأديبي عند الاقتضاء، لكن مطلقًا لا بعقوبة جنائية (كالحبس أو الغرامة) التي لا تملك صلاحية إصدارها إلا المحاكم الجزائية. فالجريمة لم تثبت بعد، وإنما هي مجرد شبهة، والشبهة لا تُعد برهانًا قاطعًا ويمكن دحضها بالأدلة المخالفة. ومع ذلك، فقد قُدمت القائمة إلى الجمهور على أنها قائمة فاسدين ومجرمين، وهو سلوك سيئ النية لا يليق بشرف من اؤتمنوا على الشأن العام وصورة الدولة.

في الفضاء الرقمي، يصبح هذا النوع من التشهير شبه غير قابل للمحو: فاللقطات والمشاركات والفهرسة تجعل النسيان مستحيلًا، حتى في حالة عدم المتابعة أو صدور البراءة النهائية. وبذلك تكون الدولة قد أنزلت، من خلال تواصلها الأسمائي المبكر، عقوبة غير معلنة، بلا أساس قانوني ولا مراقبة قضائية، في حين يُلزمها القانون بالتحفظ وإخفاء الهوية واحترام قرينة البراءة.

أما ردّ الفعل السياسي لمحاولة التملص من المسؤولية أمام الضغط الشعبي الناجم عن تقرير محكمة الحسابات، فلا يمكن أن يكون مبررًا لرمي أشخاص غير مدانين في العلن.
إن دولة القانون تستوجب التحفظ: إعلام دون وصم، شرح دون اتهام، وتصحيح دون تسمية «مذنبين» قبل الأوان.

قرينة البراءة ليست عبارة زخرفية؛ إنها تحمي الأرواح والأسر والمهن. تجاوزها بدعوى التهدئة الآنية هو تضحية بالضمانات الأساسية على مذبح الرأي العام، في حين أن الحقيقة لا تثبت إلا عبر قضاء مستقل وبعد محاكمة عادلة.

حين تتحول المعلومة إلى عقوبة: الدفاع عن الشرف في مواجهة التعسف
دستوريًا، تسري قرينة البراءة في كل النظام القانوني: لا يُقدَّم أحد على أنه مذنب قبل حكم نهائي. وهي متلازمة مع كرامة الإنسان وحماية الحياة الخاصة. فالدولة، بصفتها حارسة للمصلحة العامة، ملزمة بأن تضبط تواصلها وألا تنشر بيانات شخصية حساسة إلا عند الضرورة القصوى وبأساس قانوني واضح وضمانات كافية. الشفافية الإدارية لا تتقدم على الحقوق الأساسية، بل تمارس عبر ملخصات مجهولة الهوية، وإعلان عن المبالغ المسترجعة والإجراءات التصحيحية، دون التشهير بالأفراد قبل الحكم القضائي.

أما على مستوى قانون محكمة الحسابات، فإن القانون المنظم يحدد ثلاثة ركائز: الحكم في الحسابات، معاقبة أخطاء التسيير، ومساعدة السلطات العامة. وعندما تظهر وقائع ذات طابع جزائي محتمل، يُحال الملف من النيابة العامة لدى المحكمة إلى وزير العدل لتحريك الدعوى العمومية. وهذه الآلية قضائية محضة ولا تمنح السلطة التنفيذية أي حق في «التسمية والتشهير».

إن الغاية من الرقابة على المالية العامة هي تصحيح الاختلالات، ومساءلة المسؤولين، وعند الاقتضاء، تحريك المتابعة الجزائية. لكن كشف الأسماء قبل بدء الإجراءات القضائية النظامية يُعد انحرافًا عن تلك الغاية ويعرّض الدولة لخطأ مرفقي.

نشر الأسماء، انتهاك الحقوق: محاكمة الدولة
يُلزم قانون الإجراءات الجزائية بالتحفظ. فسرية التحقيق وحماية الشهود تَحظر أي تواصل اسمي غير ضروري ومبكر. وحتى عندما تكون المعلومات ذات مصلحة عامة، يجب عرضها بعبارات موضوعية غير قاطعة، دون إفصاح عن هوية الأشخاص إلى حين إضفاء الصبغة العلنية القانونية على القضية. قرينة البراءة ليست تزيينًا لغويًا: إنها تحدد شكل الخطاب العام ومضمونه، بما في ذلك خطاب الدولة نفسها.

كما يضبط القانون الجزائي التجاوزات الإعلامية: نسب الجرائم علنًا إلى أشخاص محددين بصورة تُفهم منها الإدانة يعتبر قذفًا علنيًا إذا مسّ الشرف والاعتبار. وإفشاء عناصر خاضعة لسرية التحقيق أو للسر المهني يعرض الفاعل للمساءلة الجزائية. حتى صدق المعلومة لا يبرر نشرها إن خالفت السرية القانونية أو قرينة البراءة أو صدرت دون سند قانوني أو ضرورة.

ويضاف إلى ذلك حماية البيانات الشخصية. نشر قائمة اسمية تربط أفرادًا بـ«شبهات مخالفات» يُعد معالجةً لبيانات حساسة. وبغياب الأساس القانوني والغاية المحددة والضرورة الصارمة، تكون المعالجة غير مشروعة، وتتحمل الإدارة مسؤوليتها عن ذلك، بما في ذلك السحب، التصحيح، الإخطار، وربما العقوبات الإدارية والتعويض المدني.

 

الفضح ليس حكمًا: محاكمة الدولة، حماية الحقوق

إن عدم قانونية النشر الاسمي لتلك الأسماء الثلاثين تظهر في أربعة أوجه:
أولًا، انعدام الأساس القانوني؛ فلا نص يمنح السلطة التنفيذية سلطة نشر الهويات التي تحيلها محكمة الحسابات لأغراض قضائية.
ثانيًا، المساس الواضح بقرينة البراءة؛ فمجرد وصف الأشخاص بـ«المشتبه بهم» لا يعفي من المسؤولية ما دام العرض العام يُفهم كإدانة.
ثالثًا، خرق سرية الإجراءات حين تسبق الاتصالات الإعلامية أعمال القضاء.
رابعًا، انعدام التناسب؛ فهدف الشفافية يمكن تحقيقه بوسائل أقل مساسًا، مثل إخفاء الهوية ونشر بيانات إجمالية.

مقاضاة الدولة: السبل والوسائل

الاستراتيجية القضائية للمتضررين ماديًا ومعنويًا يجب أن تكون فورية ومنسقة.
في المقام الأول، يمكن اللجوء إلى قاضي الأمور المستعجلة لوقف الضرر الجسيم الواضح: سحب القوائم فورًا، إزالة الأرشفة الرقمية، نشر بيان تصحيحي يذكّر بقرينة البراءة، وذلك تحت طائلة الغرامة التهديدية. الأساس القانوني هو المساس الجسيم وغير المشروع بالحريات الأساسية، وغياب النص القانوني الواضح، وانعدام التناسب. وتُبنى الدعوى بإثباتات رقمية مؤرخة تُظهر الضرر الفعلي (فقدان وظيفة، إنهاء عقود، مساس بالسمعة).

أما في الأصل، فدعوى المسؤولية الإدارية الكاملة تمكّن من إدانة الدولة عن خطأ مرفقي وتعويض الأضرار كاملة: الضرر المعنوي (المساس بالشرف، القلق، المعاناة)، والضرر المادي (الفرص الضائعة، فسخ العقود، فقدان الدخل)، مع توثيق الأضرار بتقارير وشهادات وخبرات محاسبية. والعمل الجماعي للثلاثين شخصًا المتضررين، استنادًا إلى وقائع مشتركة، يعزز متانة الملف ويخفض التكاليف.

ويمكن النظر أيضًا في دعاوى جزائية موازية عند توفر الأدلة: شكوى بحق مجهول مع الادعاء المدني من أجل القذف أو خرق السرية القانونية. الهدف ليس العقاب المفرط، بل إعادة الاعتبار للقانون وتذكير الدولة بأن خطابها خاضع هو الآخر للقواعد الحامية للأفراد. وبالتوازي، يمكن رفع شكوى لدى هيئة حماية البيانات للمطالبة بإلزام الإدارة بالامتثال، وحذف المعالجة، وفرض الغرامات، وإخطار كل من تسلم الملف محل النزاع.

مواجهة دفاع الدولة: لا شفافية ولا مصلحة عامة
ستستند الدولة إلى «الشفافية» و«المصلحة العامة». غير أن الرد يقوم على ركيزتين: التناسب وإخفاء الهوية. فالشفافية لا تبرر المساس بالأسماء طالما يمكن بلوغ الغاية نفسها بوسائل أقل ضررًا. ودقة المعلومة لا تُبطل عدم مشروعيتها إذا انتهكت قرينة البراءة أو الأسرار القانونية. والمصلحة العامة الحقيقية تتحقق بإعلان النتائج (المبالغ المستردة، الإصلاحات المُقرة، العقوبات الإدارية)، وليس بفضح أشخاص لم يُحاكموا بعد.

يُستحسن إذًا اتباع خطوات محددة:

الخطوة الأولى، تشكيل مجموعة الدفاع وتوكيل المحامين وجمع الأدلة الرقمية وتقدير الأضرار الأولي.
الخطوة الثانية، رفع الدعوى المستعجلة للمطالبة بالسحب الفوري وإزالة الأرشفة ونشر البيان التصحيحي.
الخطوة الثالثة، رفع دعوى المسؤولية بطلب التعويض المفصل ونشر التصحيح قضائيًا عبر نفس القنوات وللمدة نفسها.
الخطوة الرابعة، عند الاقتضاء، تقديم الشكاوى الجزائية المباشرة وإرفاقها بالدفاع الدستوري ضد أي تأويل خاطئ للنصوص القائمة.

خلاصة القول، إن المسألة تتجاوز النزاع إلى الأخلاق والمؤسسات. فالرقابة المالية ومحاربة الفساد تتطلب الصرامة والاستقلالية والتنوير، لكن دولة القانون تفرض أن تبقى الشفافية منسجمة مع الحقوق الأساسية: قرينة البراءة، السمعة، الحياة الخاصة، وسلامة الإجراءات.
ومقاضاة الدولة عند تجاوز هذه الحدود ليست عداءً للدولة ولا عائقًا للنزاهة، بل شرط الثقة في المؤسسات.
فانتصار قضائي في هذا السياق سيفتح الباب أمام قواعد تواصل مسؤولة: إخفاء الهوية كأصل، مراجعة قانونية إلزامية، تدريب الناطقين الرسميين، والفصل الصارم بين الرقابة المالية والمتابعة التأديبية والإعلام العام.
ذاك هو الألف والياء لكل حوكمة رشيدة في دولة تحترم شعبها وتُصون كرامة موظفيها حين يُحاكمون.

الأستاذ علي مصطفى