الدعاية العنصرية في موريتانيا: بين خطاب المعارضة وخيارات النظام

خميس, 25/09/2025 - 14:59

الراصد : تُشكّل مسألة العنصرية في موريتانيا أحد أبرز التحديات التي تواجه مشروع بناء دولة وطنية جامعة. فبدل أن تتحول قضية العدالة الاجتماعية إلى مدخل لإصلاحات عميقة، غالبًا ما تُستثمر في خطابات سياسية ذات بعد تعبوي ضيق، تُعيد إنتاج الانقسام بدل تجاوزه. ويبرز في هذا السياق خطاب بعض الزعامات الاحتجاجية مثل بيرام وارا، حيث تميل دعايتهما إلى تكريس انقسامات عرقية وفئوية، في انسجام مع أجندات خارجية تسعى لتفتيت اللحمة الشعبية.

خطاب بيرام وارا: الدعاية العنصرية كأداة سياسية

اعتمد بيرام وارا على تسويق قضية الحراطين بوصفها محورًا وحيدًا للنضال السياسي والاجتماعي، متجاهلين أن مظالم العرب والزنوج والحراطين جميعًا تتقاطع في كونها نتاجًا لبنية سلطوية مغلقة. ومع أن هذا الخطاب يلقى صدى لدى بعض الفئات المهمشة، إلا أنه يتغذى من دعم تيارات عنصرية من الزنوج (مثل بعض منظمات إفلام)، فضلًا عن تعاطف دوائر غربية وصهيونية ترى في تأجيج الصراعات الداخلية وسيلة لإضعاف الدولة الوطنية.

من منظور علم الاجتماع السياسي، يمكن إدراج هذه الاستراتيجية ضمن ما يسميه غرامشي بـ “الهيمنة عبر الخطاب”، حيث يتحول الخطاب الهوياتي إلى وسيلة لإنتاج شرعية بديلة، لكن هذه الشرعية لا تُبنى على مشروع وطني جامع، بل على استقطاب عرقي قد يقود إلى التفكك.

النظام القائم: تحالف الجيش والمال والقبيلة

في المقابل، يظل النظام الموريتاني قائمًا على تحالف ثلاثي: الجيش، ورجال المال، وزعماء القبائل. هذا التحالف يستمد قوته من ما يمكن وصفه بـ الدولة العميقة، التي تديرها شبكات من أحفاد الكوميات و التراجم، وهم الفئات التي كوّنها الاستعمار الفرنسي ووثق بها وأسند إليها مهمة إدارة الدولة بعد الاستقلال. بالنسبة لهذه النخب، يُنظر إلى الدولة كـ “منحة” من فرنسا، وليست مشروعًا وطنيًا نابعًا من الإرادة الجمعية.

وبالتالي، فإن النظام يوظف هذه التحالفات التقليدية للحفاظ على السيطرة، دون أن ينخرط في إصلاحات بنيوية تضمن العدالة والمساواة بين جميع المكونات. ومن هنا، فإن الصراع الهوياتي الذي يغذيه خطاب بيرام وارا يخدم، من حيث لا يقصدان، النظام ذاته، لأنه يُشغل المظلومين بعضهم ببعض، ويصرفهم عن مواجهة منظومة الظلم التي تمس الجميع.

إشكالية مزدوجة

تتمثل خطورة الوضع في أنه إزاء خطاب بيرام وارا العنصري، يجد العنصر العربي نفسه مدفوعًا إلى مقارعته بخطاب مضاد، فتتحول القضية إلى مواجهة بين مكونات الشعب، بدل أن تكون مواجهة جماعية مع النظام. وبهذا يصبح المجتمع أمام إشكال مزدوج:

1. خطاب معارض مرتهن لأجندات عنصرية وخارجية.2. نظام قائم يوظف الانقسامات ليعيد إنتاج هيمنته.

مقارنات إفريقية: دروس مستفادة

لمعالجة هذه الإشكالية، من المهم النظر في تجارب إفريقية أخرى:

رواندا: شكّلت الدعاية العرقية بين الهوتو والتوتسي أرضية مباشرة للإبادة الجماعية سنة 1994، حيث استُخدم الخطاب الهوياتي لتعبئة الأغلبية ضد الأقلية. هذه التجربة تبرز كيف يمكن للكراهية المؤدلجة أن تقوّض مشروع الدولة بالكامل.

السودان: عانى من انقسامات عميقة بين شمال عربي-إسلامي وجنوب إفريقي-مسيحي، غذّتها أنظمة متعاقبة عبر سياسات تمييزية، إلى أن انتهى الأمر بانفصال الجنوب سنة 2011. وهو مثال على كيف يقود الفشل في إدارة التعددية إلى تقسيم الدولة.

نيجيريا: رغم ثرائها الديمغرافي والثقافي، واجهت انقسامات حادة بين الشمال المسلم والجنوب المسيحي، إضافة إلى صراع قبلي معقد. لقد أظهر هذا البلد أن غياب مؤسسات عادلة وشفافة يحوّل التنوع إلى مصدر صراع بدل أن يكون مصدر قوة.

هذه المقارنات تبيّن أن تسييس الهويات العرقية في غياب مشروع وطني جامع ليس مجرد خطر نظري، بل مسار عملي يؤدي إلى التفكك والصراع العنيف.

خاتمة

إن مستقبل موريتانيا رهين بقدرة نخبها على تجاوز هذه الثنائية القاتلة. فبدلًا من استثمار المظالم في بناء سرديات عنصرية متقابلة، ينبغي توجيه النضال نحو إصلاحات مؤسسية تعزز المواطنة المتساوية وتفكك تحالفات الفساد والزبونية. إن بناء دولة جامعة يتطلب خطابًا وطنيًا شاملًا يضع العدالة الاجتماعية في صميم مشروعه، بعيدًا عن الارتباط بالأجندات الخارجية أو الاستقطابات العرقية. والتجارب الإفريقية القريبة خير دليل على أن البديل عن الوحدة الوطنية هو الانقسام والصراع الذي لا يبقي ولا يذر.

بقلم: حمادي سيدي محمد آباتي