
الراصد : فيي وجدان الموريتاني ثنائية لا تفارقه: صوت القبيلة الذي يسكنه منذ الميلاد، وصوت الدولة التي تطالبه بالانتماء إلى وطن أوسع. وبين هذين الصوتين عاش المجتمع ممزقا؛ قلبه مع القبيلة التي تمنحه الأمان والهوية، وعقله مع الدولة التي تعده بالعدالة والمساواة.
كثيرًا ما بدا هذا التمزق كجرح قديم لم يندمل: فالقبيلة التي وُلدت قبل الدولة بقرون طويلة ما زالت تُمسك بخيوط النفوذ، والدولة التي وُلدت في منتصف القرن العشرين ما زالت تبحث عن ذاتها بين ركام الولاءات الضيقة.
هكذا ظل الموريتاني يعيش في منطقة رمادية: هو ابن وطن، لكنه أيضا ابن قبيلة. ومع مجيء الاستعمار ثم قيام الدولة الوطنية لاحقا، وُضع المجتمع أمام امتحان عسير:
كيف يمكن بناء كيان وطني جامع على قاعدة "المواطنة" في مجتمع لم يعرف إلا الولاء القبلي والتراتبية الاجتماعية؟
وكيف يُعيد تعريف ذاته في أفق وطني جامع لا تختزله العصبيات الضيقة؟
الاجتماع السياسي ما قبل الدولة
عاش المجتمع الموريتاني قبل قيام الدولة الحديثة ضمن إطار "النظام القبلي" الذي شكل العمود الفقري للحياة السياسية والاجتماعية، وكانت القبيلة بمثابة الوطن الصغير الذي يحدد هوية الفرد ويمنحه الحماية والانتماء، ويحدد في الوقت ذاته مكانته وحقوقه وواجباته. ومع مرور الزمن، تطور هذا النظام القبلي إلى ما عُرف بـ "النظام الأميري"، حيث ظهرت إمارات محلية بسلطة سياسية وعسكرية تمارس نفوذها على مجالات ترابية محددة.
بهذا الشكل، كان الاجتماع السياسي الموريتاني قبل الاستعمار يقوم على ثنائية: القبيلة كإطار للهوية والانتماء، والإمارة كإطار للسلطة والتنظيم؛ وهي ثنائية ستترك بصماتها العميقة على مسار تشكل الدولة لاحقا، وتفسر كثيرا من الصعوبات التي واجهتها موريتانيا في بناء دولة حديثة فوق أرضية اجتماعية موروثة من أنماط ما قبل الدولة.
الاستعمار وبداية الدولة الحديثة
حين بسط الاستعمار الفرنسي سلطته على موريتانيا، لم يواجه فراغا سياسيا، بل مجتمعا متماسكا في بنيته القبلية، موزعا على كيانات أميريه محلية، ومرتبطا بأعراف تقليدية راسخة. ولأن مشروع الاستعمار يقوم على السيطرة والهيمنة، فقد عمل على تفكيك هذه البنية وإضعافها، عبر ضرب القبيلة تارة، واستعمالها أداة للسيطرة تارة أخرى. فقد أبقى على نفوذ بعض الزعامات التقليدية ومنحها شرعية شكلية، لكنه في الوقت نفسه أفرغها من سلطتها الحقيقية، ليضع القرار النهائي بيد الإدارة الاستعمارية.
وبهذا الأسلوب المزدوج، رسخ الاستعمار نفوذه وجعل الدولة تُمثّله أكثر مما تُمثّل المجتمع. فالمؤسسات التي أنشأها، من مجالس إدارية وقوانين مكتوبة وبيروقراطية ناشئة، لم تُبنَ لتخدم المواطن، وإنما لتسهيل إخضاعه وتنظيم استغلال الثروات لصالحه.
وهكذا كانت لحظة "بداية الدولة الحديثة" لحظة ملتبسة: فهي من ناحية كسرت الإطار القبلي الضيق وفتحت أفقا لتجربة سياسية جديدة، لكنها من ناحية أخرى وضعت أساسا هشا لدولة غريبة عن مجتمعها، قائمة على القطيعة لا على الامتداد، وعلى التبعية لا على الاستقلال.
المختار ولد داداه وتحديات بناء الدولة
مع الاستقلال، وجد الرئيس المؤسس المختار ولد داداه نفسه أمام تحدٍّ تاريخي: وراثة دولة وُلدت من رحم الاستعمار، ومجتمع لم يعرف من قبل سوى سلطة القبيلة ونظام الإمارات. حمل الرجل مشروعا طموحا لتأسيس دولة وطنية حديثة، فأنشأ المؤسسات الدستورية، ووضع اللبنات الأولى للإدارة العمومية، وسعى لتوحيد البلاد تحت راية وطنية جامعة، غير أن جهوده على أهميتها، اتسمت بخلل جوهري: فقد انشغل بتحديث الدولة أكثر من تحديث المجتمع، فكانت النتيجة: تخلف المجتمع عن الدولة.
وربما كان المختار يدرك أن تحديث المجتمع لا يقل أهمية عن بناء الدولة، لكن السياق السياسي والاقتصادي، ثم الانقلاب العسكري الذي أطاح به لاحقًا، حال دون استكمال مشروعه. لقد أُجهضت المحاولة في مهدها، ليعود النفوذ القبلي من جديد إلى الواجهة، معززا بدينامية الانقلابات العسكرية التي اتخذت من القبيلة قاعدة للشرعية ومن التوازنات التقليدية أداة للتحكم.
الانقلابيون وإعادة القبيلة إلى الواجهة
بعد الإطاحة بالمختار ولد داداه عام 1978، دخلت موريتانيا مرحلة جديدة طبعها الحكم العسكري والانقلابات المتتالية. كان العسكريون الذين تولوا السلطة يفتقرون إلى الشرعية السياسية، فبحثوا عن أدوات بديلة تضمن بقاءهم في الحكم، ولم يجدوا أداة أنسب من استدعاء الولاءات القبلية وتوظيفها في إدارة الدولة.فأُعيد للقبيلة اعتبارها كمرجعية اجتماعية وسياسية، لا بوصفها موروثًا ثقافيًا أو رابطة اجتماعية، بل كوسيلة للتحكم وتفكيك المجتمع. وجرى إحياء العصبيات الضيقة، واستعمالها في خلق توازنات هشة تُضعف إمكانية بناء دولة مواطنة قوية.
في ظل هذا السياق، لم تعد الدولة تسعى إلى تجاوز القبيلة، بل اندمجت معها في علاقة تبادل مصالح: السلطة تحتاج القبيلة لتبرير وجودها وتأمين استقرارها، والقبيلة تحتاج السلطة لتوزيع الغنائم على أبنائها. فغابت فكرة المشروع الوطني الجامع، وحلّت محلها شبكة معقدة من الولاءات والانقسامات، عززت التفاوت الطبقي ورسّخت الخطاب الشرائحي والمظلوميات التاريخية.
المظلوميات التاريخية ومسألة الخطاب الشرائحي
في هذا المناخ الذي أعاد الاعتبار للقبيلة كأداة للهيمنة، وجدت المظلوميات التاريخية مجالًا لتتجدد وتتكاثر: فإرث الاسترقاق وما خلّفه من تفاوت اجتماعي لم تتم معالجته بوعي وطني جامع، بل ظل حاضرا في الذاكرة الجمعية، يُستدعى كلما أرادت بعض القوى تثبيت مكانتها أو فرض خطابها. ومع مرور الزمن، تشكل ما يمكن تسميته بـ "الخطاب الشرائحي"، الذي يقوم على تقسيم المجتمع إلى طبقات وشرائح، وإعادة إنتاج المظلومية في ثوب جديد.
هذا الخطاب، وإن بدا في ظاهره دفاعا عن الحقوق، إلا أنه في عمقه أسهم في إضعاف فكرة المواطنة، لأنه جعل الانتماء الشرائحي بديلا عن الانتماء الوطني. لقد تمّ تثبيت صورة موريتانيا كمجتمع ممزق بين "أسياد" و"أرقاء سابقين"، بين "قبائل عليا" و"قبائل دنيا"، بدل أن تكون دولة تسع الجميع على قدم المساواة، وهكذا تحوّلت المظلوميات من قضية عدالة اجتماعية قابلة للمعالجة إلى أداة سياسية تُستعمل لتقويض بناء الدولة الحديثة.
وما فاقم الأمر أن السلطة ذاتها كثيرا ما وظفت هذه الانقسامات، فمرة تدغدغ المشاعر القبلية، ومرة تفتح الباب أمام الخطاب الشرائحي، ومرة توزع الامتيازات وفق موازين الولاء لا على أساس الكفاءة أو المواطنة؛ وبذلك تراكمت الأزمات: فساد سياسي ينخر جسد الدولة، تفاوت طبقي يعمّق الإقصاء، وانقلابات عسكرية تعيد عجلة التاريخ إلى الوراء.
لقد أصبح واضحا أن تجاوز هذه الدوامة لا يمكن أن يتم إلا بطرح بديل حضاري شامل، يتمثل في دولة المواطنة؛ الدولة التي تنظر إلى جميع أبنائها باعتبارهم شركاء متساوين في الحقوق والواجبات، لا رعايا موزعين بين قبائل وشرائح.
من القبيلة إلى الدولة: المواطنة كبديل حضاري
لم يعد أمام موريتانيا خيار سوى الانتقال من ولاءات القبيلة الضيقة إلى أفق أوسع يضمن وحدة المجتمع وعدالة الدولة: دولة المواطنة. هذه الدولة ليست مجرد إطار قانوني ينظم الحقوق والواجبات على الورق، بل هي عقد اجتماعي جديد يُعيد تعريف العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين المواطن والدولة.
إن المواطنة هنا لا تعني إلغاء القبيلة كتراث ثقافي واجتماعي، بل إعادة وضعها في إطارها الطبيعي، بحيث تكون رابطة ثقافية لا سياسية، هوية اجتماعية لا بديلاً عن الدولة.
إن دولة المواطنة التي نريد لها سمات واضحة:
* العدل أساسها: حيث يقف المواطن أمام القانون مجردًا من كل امتياز قبلي أو طبقي، فلا يُحاسَب أو يُكافأ إلا بقدر عمله وكفاءته.
* الحرية مبدؤها: المواطن حر في التعبير والمشاركة والتنظيم، في إطار يحفظ الصالح العام ويصون الحقوق الفردية والجماعية.
* التنوع ثروتها: فالمجتمع الموريتاني بتعدد أعراقه ولهجاته وثقافاته ليس عامل تفكك، بل مصدر قوة إذا صيغ في إطار جامع.
* الفرص المتكافئة ركيزتها: التعليم والعمل والخدمات العامة تُبنى على مبدأ الاستحقاق والجدارة، لا على شبكات الولاء والمحسوبية.
* الذاكرة المتصالحة نهجها: تُواجه المظلوميات التاريخية بشجاعة، وتعترف بها كدروس للتجاوز والبناء، لا كأدوات لإعادة إنتاج الصراع.
* المشاركة روحها: المواطن شريك في القرار عبر مؤسسات ديمقراطية فاعلة، وليس مجرد تابع للسلطة.
* الرسالة الحضارية جوهرها: تنفتح على قيم العصر ومكتسباته، مع الحفاظ على الأصالة الثقافية والدينية التي تشكل هوية المجتمع.
بهذا المعنى، فإن بناء دولة المواطنة ليس ترفا سياسيا، بل ضرورة وجودية لبقاء الوطن نفسه. فمن دونها، سيظل المجتمع أسير القبيلة والشرائح والمظلوميات القديمة؛ ومعها وحدها يمكن أن يولد وطن جديد، عادل وقادر على احتضان جميع أبنائه.
خاتمة
إن الانتقال من منطق القبيلة إلى منطق الدولة لا يتم تلقائيا، ولا يمكن أن يُفرض بقرارات فوقية، بل يحتاج إلى شروط جوهرية تُمكن المجتمع من عبور هذه المسافة الحضارية بأمان. أول هذه الشروط هو إعادة بناء العقد الاجتماعي على أساس المواطنة، بحيث يصبح القانون هو المرجعية العليا، لا العصبية ولا الولاءات الضيقة. وثانيها هو ترسيخ العدالة الاجتماعية التي تضمن توزيعا منصفا للفرص والثروات، وتُضعف الحاجة إلى الاحتماء بالقبيلة كملاذ أخير. وثالثها إصلاح التعليم والإعلام بوصفهما الأداتين القادرتين على صياغة وعي جديد، يُعلّم الأجيال أن الانتماء للوطن يسمو على أي انتماء آخر. ورابعها هو محاربة الفساد السياسي الذي يعيد إنتاج القبيلة كأداة للزبونية والمحسوبية.
إن هذه الشروط ليست نظريات مجردة، بل خطوات عملية إذا لم تُنجز ستظل الدولة الحديثة في موريتانيا مجرد هياكل شكلية تسكنها روح القبيلة. وحدها دولة المواطنة قادرة على أن تؤسس لوطن عادل، قوي، يحتضن أبناءه جميعًا دون تمييز.
ومن هنا، يبرز السؤال الجوهري: هل نحن قادرون اليوم على استيفاء شروط هذا الانتقال، وبناء عقد اجتماعي جديد يضمن الشرعية ويحصّن الدولة ويجمع الجميع تحت سقف واحد؟ هذا ما سنناقشه في المقال الثالث من هذه السلسلة: "أزمة الشرعية والبحث عن عقد اجتماعي جديد".