الراصد : على الرغم من الإرادة الأخلاقية والسياسية الصارمة التي تٌسَخِرٌهَا السلطات العليا لقطع دابر الفساد والمفسدين فإن أصالة الفساد وتعدد مظاهره وتآزر القوى التي تقف من وراءه في بلادنا تجعل من مهمة القضاء عليه وتجفيف منابعه تحديا استراتيجيا لا مفر من مواجهته إذا ما أردنا فعلا لمشروع الإصلاح في مختلف أبعاده التنموية والاجتماعية والسياسية أن يكون ناجحا ومستديما . فليس الفساد في بلادنا ماليا وسياسيا فحسب وإنما هو كذلك أخلاقي واجتماعي وديني ، والأخطر من ذلك أنه ليس عبارة عن ممارسات ملموسة ومٌوَثَقَة يمكن معاينتها والتحقق منها عبر عمليات تدقيق شفافة ومستقلة وموضوعية وإنما هو في أحيان كثيرة عبارة عن ممارسات مٌشَفَرَة وغير مَكْتٌوبَة لا مجال لِلتَحَرِي عنها إلا على سبيل التخمينات والتقديرات .
وبغض النظر عن أشكال الفساد وأساليبه والقوى الفاعلة فيه فإن الأضرار المادية والاجتماعية والسياسية المترتبة عليه تجعل من الجمع بين التغاضي عنه وإرادة الإصلاح الشامل موقفا يتناقض في كل الأحوال مع مفهوم الإصلاح. ذلك أن انتشار الفساد لا يقتصر على هدم القيم الأخلاقية والدينية من خلال الترويض التدريجي لأفرد المجتمع على استحسان ممارسات الفساد بحيث تبدو كما لو كانت ممارسات طبيعية أو على الأقل " مكروهة " بالمفهوم الإسلامي الشرعي يمكن لكل مسئول الإقدام عليها من دون أن يتعرض لأية مسائلة أو عقوبة ، ولكن انتشار الفساد يؤدي أيضا إلى إجهاض أي مشروع للإصلاح مهما كانت درجة صدق وطموح وجدية الإرادة التي تتعهد بتحقيقه. لأنه ببساطة يَحٌدٌ من قدرة الحكومات على خدمة المواطنين من خلال تقويض سيادة القانون والمؤسسات العمومية والثقة في السلطات العليا . كما يٌضْعِفْ المجتمع من خلال إعاقة كافة الإمكانات الاقتصادية. فهو بمثابة كابح للتنمية ويحرم المواطنين من الرخاء والحقوق والخدمات والوظائف التي يفتقرون إليها بشدة والتي يستحقونها. وعندما يَسٌودٌ الفساد، تصبح الديمقراطية، التي تعتبر شرطا أساسيا للتنمية، مهددة . ولذلك فإن التَوْعِيَةَ بخطورة هذه الآفةوالحديث عنها ومناقشتها وعدم التعتيم عليها ومٌوَالاَةِ أصحابها تمثل الترياق الأكثر فعالية والخطوة التمهيدية الأولى للوقوف وجها لوجه أمام الفساد والمفسدين . ففي الأنظمة الديمقراطية الجادة لا هدنة ولا مجاملة ولا تغاضي عن ممارسات الفساد ، لا بد للسلطةالسياسية التي تحكم باسم الشعب أن تٌعْطِي الضوء الأخضر لمحاسبة الفاسدين وإسكات الأصوات التي تٌلَمِعٌ صورة المفسدين وتٌزَكِيهم وتٌرَوِجٌ لهم وتدعو لهم آناء الليل وأطراف النهار . فليس هناك حق باطل ولا باطل حق وإنما هناك كلمة حق يٌرَادٌ بها باطل وهذه الكلمة هي التي تَتَوَكَأ عليها بيوت عنكبوت الفساد والمدمنين عليه بحجة الحرص على الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي والإصلاح التدريجي للإدارة وغير ذلك من الحجج الواهية التي تٌعَرْقِلٌ المواجهة المباشرة مع الممارسات المختلفة للفساد . ومع أن خطورة الفساد تَكْمٌنٌ في تعدد أوجهه وأبعاده الاجتماعية والدينية والاقتصادية والثقافية إلا أن بٌعْدَهٌ السياسيوعلى نحو أقل الإداري يطغى ضَرَرٌهٌ على أبعاده الأخرى . فالفساد يٌقَوِضٌ الديمقراطية والحكم الرشيد وحقوق الإنسان ومشاركة المجتمع المدني في الحياة السياسية من خلال إضعاف المؤسسات العمومية التي تقوم عليها المجتمعات العادلة والمنصفة.ويشكل فساد الموظفين العموميين عائقاً كبيراً أمام قدرة الحكومة على تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين. وبمجرد إضفاء الطابع المؤسسي على الفساد، فإنه يصبح وسيلة لتعزيز نفوذ النخب الفاسدة في الدولة بسبب تمكينها من الإشراف بشكل مباشر أو غير مباشر على الشأن السياسي وتنظيم الإدارة. ويَحْدٌثٌ الاستيلاء على الدولة عندما تستخدم النخب القوية ذات النفوذ الفساد لصياغة السياسات والقوانين الوطنية لصالحهاسياسيا واقتصاديا وإداريا . وتَتَعَزَزٌ هذه الهيمنة عندما تتمكن رموز الفساد من مكافئة الأشخاص الذين يتمتعون بعلاقات جيدة معهم ، على الرغم من افتقارهم للمواهب ، وتٌعَاقَبٌ النخب الفاعلة الأكثر كفاءة وإنتاجية وصدقًا في المجتمع، والذين يجدون أنفسهم محرومين من الفرص بسبب قنوات التأثير المٌتَحَيِزَةٌلقادة الفساد وأذرعه .وهذا يسمح للفاسدين بالحفاظ على نفوذهم وإثراء أنفسهم ، مع الإفلات من العواقب القانونية المتعلقة بالمخالفات . اليوم، يعتبر الفساد، الذي يُعرَّف بأنه " إساءة استخدام الوظيفة العمومية لتحقيق مكاسب شخصية " ، على نطاق واسع خطراً على الأنظمة الديمقراطية . ونتيجة لذلك تَجْدٌرٌالإشارة إلى ضرورة قيام السلطات العليا بمجموعة من الإجراءات العاجلة لكبح تيار الفساد ومحاصرة رموزه وأدواته ، نذكر منها :
- تفعيل كافة القوانين الوطنية المتعلقة بالنظر في ظاهرة الفساد واعتباره العدو الأول للتنمية والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في البلاد
- سَنٌ قوانين جديدة تٌفْضِي إلى فصل المتورطين في الفساد من الوظائف الإدارية الحساسة والمركزية وحرمانهم منالتعيين فيها لسنوات عديدة عٌقٌوبَةً لهم ومٌكافأةً لمن سَيَحٌلٌونَ مكانهم من غير المشمولين بتهمة الفساد
- إطلاق حملات تحسيسية اجتماعية ودينية وثقافية للِتَوْعِيَةِبِحٌرْمَةِ المال العام والاعتداء على حقوق الآخرين
- إعادة النظر في رواتب جميع الموظفين لِتَقْلِيص الفجوة الكبيرة بينها لتحسينها وإعطاء كل ذي حق حقه وفق مبدأ العدالة كإنصاف ( Justice as Fairness )
- تحرير القضاء من التبعية للسياسة وتعزيز الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والقضائية والتشريعية ودعم استقلال هذه السلطات وتكامل الأدوار المٌوكَلَة إليها .
ليس الفساد مجرد استيلاء غير مشروع على الأموال العمومية أو تَمْكِين لأشخاص في مراكز قرار لا يستحقون إدارتها بل هو كذلك ثقافة اجتماعية وسياسية تٌخَرِبٌ العقول وتهدم القيم النبيلة وتٌنْبِئ بذهاب الأمم وزوالها ، ونتيجة لذلك فان منع الفساد ومكافحته تتطلب إتباع نهج شامل لا يمكن تحقيقه إلا في مناخ من الشفافية والمساءلة ومشاركة جميع الجهات الفاعلة في المجتمع. ما يَعْنِي أن عَلَى المثقفين والسلطات الحكومية والقطاع الخاص ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني والمواطنين أن يٌوَحِدٌوا الجهود لقطع دابر هذه الآفة التي أصبحت في الآونة الأخيرة سَبَبًا مباشرا مٌزَعْزِعًا للاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي في العديد من دول العالم ولاسيما الدول الإفريقية .
الدكتور / سيدي محمد يب أحمد معلوم
خبير في إدارة عمليات الاكتتاب والمسابقات