في المادة 93 خلاف لن يرتفع إلا بتعديل دستوري...

أحد, 05/02/2023 - 09:03
المستشار القانوني / أحمد ولد هارون

الراصد : عندما ثار الجدل قبل عامين ونصف حول المساءلة الجنائية لرئيس جمهورية سابق والجهة المخولة ذلك، حاولت أن أستدعي من الذكريات الدستورية المجمَّدة ما يعِين على إعداد بحث حول الممارسات الفضلى في مجال مساءلة رئيس الجمهورية.

وقبل أن يكتمل ذلك البحث المتكاسل والمتمدد يوما بعد يوما، نُشِرت كتابات في الموضوع جيدة، في مقدمتها مقال رصين لفضيلة الأستاذ المبرِّز، محمد محمود ولد محمد صالح. وكان مما خلص إليه أن من صلاحيات المحاكم العادية التي تتصدرها المحكمة العليا، ووفق القانون، أن تقول رأيها في الموضوع. فما كان مني إلا أن توقفت عن البحث والتفكير في موضوع كُفيت مُؤنته وتوقعت حسمه.
واليوم، وبعد إعادة طرح الإشكال دون تبسيط للجمهور العادي غير المختص، عدت إلى ذلك البحث غير المكتمل، وإلى ما كتبه الأساتذة وما نُقل عنهم هذه الأيام من آراء نيرة أبدوها. ولم يجلب لي ذلك كله إلا مزيدا من الحيرة والمَيْل إلى وجود فراغ في المادة 93.
وفيما يلي ملخص للبحث المذكور آنفا:
جاء في المادة 93 من الدستور الموريتاني، والمادة 68 (قديمة) من الدستور الفرنسي ما نصه:
لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن أفعاله أثناء ممارسة سلطاته إلا في حالة الخيانة العظمى.
لا يتهم رئيس الجمهورية إلا من طرف الجمعية الوطنية التي تبت بتصويت عن طريق الاقتراع العلني، وبالأغلبية المطلقة لأعضائها. وتحاكمه في هذه الحالة محكمة العدل السامية.
الوزير الأول وأعضاء الحكومة مسؤولون جنائيا عن تصرفاتهم خلال تأدية وظائفهم والتي تُكيَّفُ على أنها جرائم أو جنح وقت ارتكابها. وتطبق عليهم الإجراءات المحددة أعلاه في حالة التآمر على أمن الدولة وكذلك على شركائهم. وفي الحالات المحددة في هذه الفقرة، تكون محكمة العدل السامية مقيدة بتحديد الجرائم أو الجنح، وكذا تحديد العقوبات المنصوص عليها في القوانين الجنائية النافذة وقت وقوع تلك الأفعال.
وتتطابق هذه المادة - حرفيا - مع المادة 68 من الدستور الفرنسي، قبل تعديلها يوم 23 فبراير 2007. لا فرق بينهما إلا ما أحدثه تعديل 2017 الذي ألغى مجلس الشيوخ الموريتاني وأبدل كلمة "الجمعيتان" بكلمة "الجمعية الوطنية" وحذف كلمة "مطابق".
ويتضح من هذا النص الدستوري أن رئيس الجمهورية لا يُتهم، أثناء ممارسة مهامه، إلا بالخيانة العظمى، ومن قِبل الجمعية الوطنية، وأمام محكمة العدل السامية. أما الأفعال التي يرتكبها خارج النطاقين الوظيفي والزمني لوظيفته، فهي محل اللَّبس. يضاف إلى ذلك كله ضبابية الخيانة العظمى.
لقد أثار هذا اللَّبس نقاشا فقهيا وقضائيا في فرنسا، انتهى إلى استصدار رئيس الجمهورية والوزير الأول قرارا من المجلس الدستوري بخصوص إمكان تسليم رئيس الجمهورية لمحكمة العدل الدولية. وقد جاء في قرار المجلس الدستوري الفرنسي رقم 98-408 الصادر بتاريخ 22 يناير 1999 أن المسؤولية الجنائية لرئيس الجمهورية لا تمكن إثارتها، طيلة مأموريته، إلا أمام محكمة العدل السامية، سواء ما كان منها داخلا في نطاق وظيفته، وما كان خارج نطاقها. فرئيس الجمهورية، حسب المجلس الدستوري، خاضع طيلة مأموريته، وفي جميع مخالفاته، لنظام قضائي استثنائي.
غير أن محكمة النقض الفرنسية تصدت يوم 10 أكتوبر 2001 لقرار المجلس الدستوري المذكور، وحكمت في جمعية علنية بأن محكمة العدل السامية ليست مؤهلة إلا للنظر في الخيانة العظمى التي يرتكبها رئيس الجمهورية أثناء ممارسة مهامه.
"بما أن المجلس الدستوري لم يبت في قراره رقم 98-408 إلا في إمكانية تسليم رئيس الجمهورية لمحكمة العدل الدولية لمساءلته عن جرائم داخلة في مجال اختصاصها، فإن جميع الإجراءات المتخذة ضد أي جريمة أو جنحة أخرى تدخل في اختصاص المحاكم الجنائية العادية.
وبما أن رئيس الجمهورية ينتخبه الشعب ليضمن، على وجه الخصوص، السير المطرد للمؤسسات العمومية واستمرار الدولة، فإنه لا يمكن اتهامه خلال فترة ولايته ولا استدعاؤه ولا إحالته إلى المحاكم الجنائية العادية. ولذلك تعلق فترة تقادم الدعوى العمومية طيلة المدة.
لا يخضع رئيس الجمهورية لواجب المثول من أجل تقديم شاهدته؛ لأن هذا الإلزام مقرون بالإكراه المقرر في المادة 109 من قانون الإجراءات الجنائية، وما يترتب على ذلك من عقوبة جنائية.
وبناء على ما سبق، لا يقبل الطلب الموجه من قِبَل أي طرف مدني قصد الاستماع لشهادة رئيس الجمهورية."
وقد أدى هذا الخلاف حول التأويلات المتباينة للمادة 68 إلى تعديلها يوم 23 فبراير 2007، لتتحول من 68 إلى 67 وتصير كالآتي:
"لا يُسأل رئيس الجمهورية عن الأعمال التي يؤديها بصفته الرسمية طبقاً لأحكام المادتين 53-2 و 68.
لا يجوز أن يُطلب من الرئيس، أثناء ولايته، الإدلاء بشهادته أمام أي هيئة قضائية أو سلطة إدارية فرنسية. كما لا يجوز أن ترفع ضده أي دعوى مدنية، أو أن يفتح بحقه تحقيق، أو يلاحق قضائياً. وتُعلق جميع فترات التقادم طوال مدة الولاية المذكورة.
يمكن تنشيط كل المحاكمات والإجراءات التي أوقفت أو رفعت ضد الرئيس بعد شهر من نهاية ولايته."
لم تساير المادة 93 الدستور الموريتاني المادة الفرنسية التي هي مصدرها المباشر وقد تم تعديلها سنة 2007 لإزالة الغموض، ولم تكن في ذلك بدعا. بل إن شأنها في ذلك هو شأن المادة 183 من دستور الجزائر، و 101 من دستور السنيغال، و 157 من دستور ساحل العاج، وغيرها من المواد المستوحاة من الصيغة القديمة للمادة 68 من الدستور الفرنسي، ولم يتم حتى الآن تعديلها لسد الفراغ.
وخلافا للدساتير الإفريقية المذكورة، يعد الدستور التونسي الصادر يوم 26 يناير 2014 من أكمل الدساتير المنتمية إلى المدرسة الفرنسية وأوضحها في هذا الباب. فقد نص في الفصل 87 على إمكانية استئناف الإجراءات في حق رئيس الجمهورية بعد انتهاء مأموريته. وجعل أحكام المحكمة الدستورية مقصورة على العزل، وترك الباقي للمحاكم العادية. واستعاض عن لفظ الخيانة العظمى بلفظ الخرق الجسيم للدستور. بل إن الدستور التونسي الصادر سنة 2008، والمعمول به وقت بدء مساءلة الرئيس التونسي السابق، زين العابدين بن علي، وعائلته ومقربيه، كان أكثر وضوحا وتفريقا بين البعدين: الزمني والموضوعي لحصانة رئيس الجمهورية. فقد جاء في الفصل 41 منه أن رئيس الجمهورية يتمتع أثناء ممارسة مهامه بحصانة قضائية، كما ينتفع بهذه الحصانة القضائية بعد انتهاء مباشرته لمهامه، بالنسبة إلى الأفعال التي قام بها بمناسبة أدائه لمهامه.
وهذا نص الفصلين 87 و 88 من الدستور التونسي لسنة 2014:
يتمتع رئيس الجمهورية بالحصانة طيلة توليه الرئاسة، وتعلق في حقه كافة آجال التقادم والسقوط، ويمكن استئناف الإجراءات بعد انتهاء مهامه.
لا يسأل رئيس الجمهورية عن الأعمال التي قام بها في إطار أدائه لمهامه.
يمكن لأغلبية أعضاء مجلس نواب الشعب المبادرة بلائحة معللة لإعفاء رئيس الجمهورية من أجل الخرق الجسيم للدستور، ويوافق عليها المجلس بأغلبية الثلثين من أعضائه، وفي هذه الصورة تقع الإحالة إلى المحكمة الدستورية للبت في ذلك بأغلبية الثلثين من أعضائها. ولا يمكن للمحكمة الدستورية أن تحكم في صورة الإدانة إلا بالعزل. ولا يعفي ذلك من التتبعات الجزائية عند الاقتضاء. ويترتب على الحكم بالعزل فقدانه لحق الترشح لأي انتخابات أخرى."
أما إذا نظرنا في الدساتير غير المستمدة بشكل مباشر من الدستور الفرنسي، فسنرى - مثلا - أن المادة 159 من الدستور المصري على أن رئيس الجمهورية يحاكم أمام محكمة خاصة يرأسها رئيس مجلس القضاء الأعلى، وعضوية أقدم نائب لرئيس المحكمة الدستورية العليا، وأقدم نائب لرئيس مجلس الدولة، وأقدم رئيسين بمحاكم الاستئناف؛ ويتولى الادعاء أمامها النائب العام.
وتنص المادة 60 من الدستور السوداني تنص على أن رئيس الجمهورية ونائبه الأول يجوز اتهامهما أمام المحكمة الدستورية في حالة الخيانة العظمي، أو الانتهاك الجسيم لأحكام الدستور، أو السلوك المشين المتعلق بشؤون الدولة، شريطة صدور قرار بذلك من ثلاثة أرباع أعضاء الهيئة التشريعية القومية.
وفي أوربا، تتفق دساتير ألمانيا والنمسا واليونان وإيطاليا والبرتغال على أن المسؤولية الجنائية لرئيس الجمهورية لا تمكن إثارتها، أثناء ممارسة مهامه، إلا بعد اتهام البرلمان له. وحين يتهم البرلمان رئيس الجمهورية، تختلف الدول المذكورة حول مدى المسؤولية الجنائية للرئيس والجهة المختصة بمحاكمته. ففي اليونان وإيطاليا، لا يسأل رئيس الجمهورية عن الأعمال التي يمارسها أثناء ممارسة مهامه إلا في حالة الخيانة العظمى أو انتهاك الدستور؛ وعندئذ تتم محاكمته في محكمة خاصة. وفي اليونان يحاكمه قضاة من أعلى رتبة في النظام القضائي العادي. وفي إيطاليا تحاكمه محكمة الدستور والمواطنين. أما في ألمانيا، فيشترط القانون الأساسي لمحاكمة الرئيس الانتهاك المتعمد للقانون الأساسي وقوانين أخرى فيدرالية. ويميز الدستور الفيدرالي النمساوي بين نوعين من المخالفات التي يرتكبها رئيس الجمهورية أثناء ممارسة وظائفه، تتعلق الأولى بانتهاك الدستور، والأخرى بالجنايات والجنح. أما الدستور البرتغالي فيكتفي بالنص، دون تدقيق، على المخالفات التي يرتكبها رئيس الجمهورية أثناء ممارسة مهامه. في ألمانيا والنمسا، يتم الحكم على رئيس الجمهورية من قبل المحكمة الدستورية، بينما في البرتغال يحكم عليه من قبل أعلى سلطة في سلم القضاء العادي. في ألمانيا والنمسا، لا يمكن مقاضاة الرئيس دون موافقة البرلمان؛ بينما ينص الدستوران اليوناني والبرتغالي على تعليق الإجراءات الجنائية ضد رئيس الجمهورية طيلة ولايته. ولم يتم حسم هذا الإشكال - حتى الآن - بشكل نهائي في إيطاليا، لكن يبدو أن الفقه هناك أقر الحل نفسه.
وفي آسيا، تنص المادة 65 من دستور كوريا الجنوبية على أن البرلمان هو الذي بتهم الرئيس ويحكم عليه ويعزله. وقد أقال البرلمان الكوري رئيسة الجمهورية باك غن هيه في ديسمبر 2016. وبعد تثبيت المحكمة الدستورية للقرار وارتفاع الحصانة عنها، اتهمها القضاء العادي بالفساد وأدانها بالرشوة واستغلال النفوذ، وحكم عليها بالسجن 24 سنة وغرامة 17 مليون دولار.
وتنص المادة 117 من دستور البيرو على أن رئيس الجمهورية لا يتهم، خلال فترة ولايته، إلا بتهمة الخيانة العظمى، أو منع إجراء الانتخابات الرئاسية، أو انتخابات الكونغرس، أو الانتخابات البلدية، أو حل الكونغرس خارج الحالات المبينة في المادة 134 من الدستور، أو منع اجتماع، أو سير عمل الكونغرس، أو المجلس الوطني للانتخابات، أو الهيئات الأخرى التابعة لمنظومة الانتخابات. وقد أمر أحد قضاة البيرو العاديين بسجن أويانتا هومالا، رئيس الجمهورية من 2011 إلى 2016، هو وزوجته، 18 شهرا في قضية فساد وغسل أموال، بعد اتهامهما بالحصول على ثلاثة ملايين دولار غير شرعية، شهد بها مسؤولون سابقون في شركة بناء برازيلية. واتهما أيضا بالحصول على مبالغ من الرئيس الفنزويلي الراحل هوجو شافيز على نحو غير مشروع. وقبل ذلك عزل البرلمان ألبرتو فوجيموري، رئيس البيرو من 1990 إلى 2000، بتهمة الفساد وانتهاك حقوق الإنسان. وحكم عليه القضاء سنة 2015 بالسجن 8 سنوات بعد إدانته باختلاس المال العام. وعندما صدر في حقه عفو رئاسي سنة 2017 خرجت مظاهرات غاضبة أدت إلى محاكمته في قضية جديدة.
الخلاصة:
إن الفراغ والغموض حاصلان في النص الدستوري الموريتاني. والمادة 93 منه لم تفرق - لا تصريحا ولا تلميحا - بين الجهة المختصة بمساءلة رئيس جمهورية ورئيسِ جمهورية سابق عن أعمال قام بها أثناء مأموريته الرئاسية.
إن الأعمال التي يقوم بها رئيس الجمهورية أثناء مأموريته قسمان: قسم داخل في نطاق مهامه، يُسأل عنها مدةَ مأمورتيه وبعد انتهاء مأموريته. لكن التهمة الوحيدة فيها هي الخيانة العظمى، والمحكمة المؤهلة للنظر فيها هي محكمة العدل السامية. وقسم خارج عن نطاق مهامه، لا يُسأل عنه أثناء مأموريته. والخُلف بعدها في الجهة المختصة بمحاكمته: هل يحاسب عليها، كأي مواطن، في المحاكم العادية. أم تحاسبه محكمة العدل السامية التي كانت هي الجهة الوحيدة المختصة بمحاكمته وقت ارتكابه تلك الأفعال؟
إن التعديل المحدود الذي أجراه الفرنسيون على دستورهم سنة 2007، يمكن لجهة الاتهام في الملف الموريتاني المذكور أن تعُده - في ذاته - تأويلا حاسما للمادة 93، يترتب عليه ما جاءت به المادة الفرنسية الجديدة من مساءلة القضاء العادي - جنائيا ومدنيا - لرئيس الجمهورية السابق. وبالمقابل، يمكن للدفاع أن يتخذ من التعديل المذكور برهانا ساطعا على وجود فراغ وغموض في المادة الفرنسية القديمة، والمادة الموريتانية المستنسَخة منه حرفيا. ومن المعلوم أن غموض المادة القانونية يؤول لصالح المتهم.
إن أول ما على الدولة الموريتانية القيام به في هذا المجال، هو تعديل للباب المذكور من الدستور، تفاديا لأي لَبس مستقبلي.
إن متطلبات المنطق السليم، تفرض، في المستقبل القريب، كثيرا من التخصص العلمي والفني والخبرة العالية، للقضاء وأعوانه والمشرفين عليه، خاصة في المجلس الدستوري والمحكمة العليا ومحاكم الفساد. كما يتطلب الأمر استعانة الجميع بخبرات وطنية مالية ومحاسبية وإدارية عالية. بل إنه سبق لكل من غواتيمالا والهندوراس أن عبرت للأمم المتحدة وشركائها الدوليين عن حاجتها لمساعدة فنية في محاكمات فساد كبيرة، يعجز جهازهم القضائي والأمني عن إدراك تعقيداتها الفنية.
من صفحة أحمد بن هارون