محاربة الفساد والرشوة في موريتانيا بين الشعار والواقع

خميس, 19/01/2023 - 21:31

الراصد : "على الرغم من بعض المكاسب، لا يزال الفساد يمثل استنزافاً هائلاً للموارد التي تشتد الحاجة إليها للتعليم والصحة والبنية التحتية". رئيس منظمة الشفافية الدولية، هوجيت لابيل.

يعتبر الفساد داءً عضالا تكاد لا تخلو منه دولة، متقدمة كانت أم سائرة في طريق النمو، فهو يكلف الاقتصاد العالمي 2.6 تريليون دولار، أي 5% من الناتج القومي العالمي لسنة 2018 حسب تقرير المؤتمر الاقتصادي العالمي. ينتشر في مجالات الموارد الطبيعية، وخصوصا النفط والتعدين أيضًا، وبين الشركات المملوكة للدولة، حيث قد تكون الإدارة عرضةً لتأثير موظفي الحكومة والمسؤولين المنتخبين. نتيجة لذلك، الشركات المملوكة للدولة في القطاعات الحيوية، مثل الطاقة والمرافق والنقل، أقل ربحيةً وكفاءةً في البلدان التي ينتشر فيها الفساد. كما تعتبر المشتريات الحكومية من السلع والخدمات معقلا آخر للفساد والرشوة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى المبالغ الكبيرة التي تشملها الصفقات؛ ففي سنة 2019 كانت المشتريات العامة تمثل 13% من إجمالي الناتج المحلي، في المتوسط، بين أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تمثل 36 اقتصادا متقدما[1]، مقابل 40% لموريتانيا للسنة ذاتها[2]. وتعتبر المشتريات المتعلقة بالاستثمار العام حسّاسة بشكل خاص، لأن المشاريع الكبيرة غالبًا ما تكون لها ميزات فريدة، ما يجعل مقارنة التكاليف صعبة، ويسهل إخفاء الرشاوى وتضخيم التكاليف.

مرجعية محاربة الفساد في موريتانيا

لم تحظ قضية الفساد بالعناية الكبيرة في الأجندة الدولية قبل استراتيجية المنظمة الاقتصادية للتعاون والتنمية سنة 1999 ضد رشوة الموظفين الأجانب في الصفقات الدولية. وكذلك اتفاقية الأمم المتحدة لمحاربة الفساد سنة 2003[3]، والتي ظلت بدون إطار قانوني حتى العام 2016، حين صدر القانون 2016- 014 المتعلق بمكافحة الجرائم المرتبطة بالفساد.

جاءت بعد ذلك اتفاقيات محاربة الفساد العربية والأفريقية، والتي انضمّت إليها موريتانيا، وصادقت عليها وكذلك الاتفاقيات الثنائية الكثيرة التي تربطها بدول شقيقة وصديقة للتعاون في المجال ذاته، وتبادل المعلومات وتسليم المجرمين. وبطبيعة الحال، لا تشكّل موريتانيا استثناء بهذا الخصوص، حيث كان مؤشر مدركات الفساد قد وصل إلى 28 نقطة من 100 لتحتل الرتبة 140 من أصل 180 دولة في طبعة 2021 مقابل 134 من 180 دولة في السنة 2020، وهو ما يعني تراجعا في محاربة الفساد حسب هذا المؤشّر. كما أنها احتلت رتبة متأخرة (125 من أصل 130 دولة) حسب مؤشّر سيادة دولة القانون لسنة 2021.

وتأتي هذه النتائج المتواضعة، على الرغم من الالتزام المعلن لمحاربة الفساد والرشوة بدءا من سنة 1978، حيث جرى أول انقلاب عسكري على الحكم المدني الذي تولى دفّة الحكم بحزب واحد منذ استقلال البلاد في بداية ستينيات القرن الماضي، ومرورا بالرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز الذي كان يُسمّى، في بداية حكمه، رئيس الفقراء، وانتهاء بالرئيس الحالي السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، والذي اتخذ من محاربة الفساد فرس رهان على الرغم من احتفاظه بمعظم أعضاء الفريق الذي كان يعمل مع سابقه. ويوجد 12 من هؤلاء رهن الاتهام والتقديم للمحاكمة في الأيام القليلة المقبلة، على خلفية ما يسمّى ملف العشرية الذي تمخض عن عمل لجنة التحقيق البرلمانية التي شكّلت سنة 2019، بهدف النظر في عمل الحكومة خلال عشرية حكم الرئيس السابق (2009 - 2019). ويوجّه القضاء الموريتاني إلى هؤلاء تهما تتعلق جلها بالفساد والرشوة وغسيل الأموال والإثراء غير المشروع، وتحويل ممتلكات عمومية إلى ملك خاص.

وفي سبيل جهودها لمحاربة الفساد، عزّزت الدولة الترسانة القانونية الوطنية المجسّدة في الأحكام الواردة في قانون العقوبات، وفي قانون الإجراءات الجنائية، بقانون لمكافحة الفساد، وقانون جديد لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، الصادر في سنة 2019. وجرت مراجعة النظام القانوني للصفقات العمومية وتحيينه، وإنشاء سلطة لتنظيم الصفقات العمومية، يتكوّن مجلسها من ممثلين، بأعداد متساوية، عن القطاعين، الحكومي والخاص، والمجتمع المدني، من خلال المرسوم رقم 122-2020 في 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2020. وسمحت التدابير المؤسّسية بإدخال إصلاحات جوهرية على البنى الهيكلية لأجهزة مكافحة الفساد، من خلال مراجعة اختصاصاتها، ومنحها صلاحياتٍ واسعةً في مجال الاطلاع على المعلومات والتجميد والحجز، وحماية الشهود والمبلغين تشجيعا للكشف عن مخالفات الفساد، حيث أنشأت إطارا مؤسّسيا تجسّد في عدد من الهيئات المسؤولة عن مكافحة الفساد، منها المفتشية العامة للدولة، والمفتشية العامة للمالية، والشـرطة المكلَّفة بمكافحة الجريمة الاقتصـادية والمالية، والمحكمة الابتدائية المكلَّفة بجرائم الفساد، زيادة على الأجهزة والهيئات المُتخَصِّصة في إنفاذ القانون في مجال مكافحة الفساد، سيما هيئة النيابة العامة المُكلَّفة بمكافحة الفسـاد؛ والمحكمة الابتدائية المكلَّفة بالجرائم المتعلِّقة بالفساد؛ والمديرية المركزية لشرطة مكافحة الجريمة الاقتصادية والمالية، ولجنة تحليل البيانات المالية. وفي السياق نفسه، جرى إنشاء مكتب لتسيير الممتلكات المجمّدة والمحجوزة والمصادرة، وتحصيل الأصول الجنائية ومنحه صلاحياتٍ مهمة في إطار الاستجابة لطلبات التعاون الدولي المتعلقة بضبط الأموال والممتلكات المنهوبة واستردادهما، وتمت مراجعة صلاحياته، ليؤدّي دوره على الوجه الأكمل من خلال المرسوم رقم 006 بتاريخ 31 يناير/ كانون الثاني 2020. ويوجد فريق برلماني يهتم بالشفافية ومكافحة الفساد، وفي هذا الإطار، يقوم البرلمان الموريتاني بدور فعال في مكافحة الفساد من خلال تشكيل لجان التحقيق البرلمانية. كما أنشئت محكمة العدل السامية، وهي مختصة في محاكمة الرؤساء والوزراء السابقين. وانتسبت موريتانيا للمبادرة الدولية للشفافية حول الصناعات الاستخراجية والمواد الهيدروكربونية (EITI)، كما انضمت للمبادرة الدولية للشفافية في قطاع الصيد (FiTI)  التي تشرف على تطبيقها هيئة ثلاثية الأطراف من أعضاء حكوميين وممثلين عن القطاع الخاص وممثلين عن المجتمع المدني.

وإذا كانت موريتانيا قد شهدت فسادا كبيرا خلال السنوات التي سبقت الحكم الحالي، لا يبدو أن تغيرا كبيرا قد حصل، حيث ارتفع سقف الصفقات الخارجة عن اختصاص لجان إبرام الصفقات العمومية إلى 400 مليون أوقية قديمة، وذلك في كل ما يتعلق بقطاعي الصحة والتعليم. ولا تشكل الصفقات التي تتجاوز 400 مليون في قطاعي الصحة والتعليم سوى 15% من حجم النفقات، حسب إحصائيات سلطة تنظيم الصفقات، أي أن 85% من النفقات التي لها صلة بالصحة أو التعليم ستمرّر بالطرق المباشرة خارج المساطر التنافسية[4]. كما أن آلية التعيين المرتبطة بالاعتبارات الجهوية والقبلية والسياسية بقيت على حالها، إن لم تكن أشد في الوقت الراهن.

وكغيرها من الدول، تأثرت موريتانيا تأثرا بالغا بجائحة كوفيد 19، وما رافقها من صرف زائد في مجال الصحة والتعليم لم يخل من شوائب فساد، حيث زاد حجم صفقات التراضي وسقفها. واستجابة لتداعيات الجائحة، جرى إنشاء الصندوق الخاص للتضامن الاجتماعي، ولمكافحة فيروس كورونا في شهر إبريل/ نيسان 2020 بمبلغ أربعة مليارات أوقية جديدة، أي 110 ملايين دولار تشكل نسبة مشاركة الحكومة 46%، شركاء التنمية 25%، الخواص والمؤسسات 27.6%، والمساهمات العينية 0.69%[5]. إلا أن هذه الجهود لم تنعكس بشكل جلي على مؤشرات التنمية المستدامة المختلفة، حيث بلغ دليل التنمية البشرية لموريتانيا 0.527 سنة 2022 متراجعا بالمقارنة مع 2019 حيث بلغ 0.542[6]. كما احتلت الرتبة 147[7] حسب مؤشّر جودة الحكامة (42.1) من أصل 180 دولة لسنة 2021 ورتبة 108 من أصل 165 حسب مؤشر الديمقراطية[i] للسنة ذاتها، وتبوأت الرتبة 143 حسب مؤشّر الحرية لسنة 2021[8]. ورتبة 150 لمؤشر الحرية البشرية لسنة 2021[9]. كما تبوأت موريتانيا الرتبة 165 حسب مؤشّر الأداء البيئي لسنة 2022[10] بنسبة تغير سلبية قدرها (-3%) خلال السنوات العشر الأخيرة.

تجارب ناجحة في محاربة الفساد والرشوة

لئن كان الفساد منتشرا انتشارا واسعا في موريتانيا (وفي العالم)، فهناك تجارب ناجحة يمكن الاستئناس بها، والاستفادة في الحرب الضروس على عدو التنمية ومخرّب البلاد، حتى لا تبقى موريتانيا، بمقدّراتها الطبيعية وموقعها الاستراتيجي، دولة غنية وشعبا فقيرا، بل لتبقى دولة غنية ويصبح شعبا غنيا. ومن التجارب التي تتقاطع في تركيزها على سيادة القانون والشفافية في الإجراءات وتبسيطها وكفاءة الموظفين والاستفادة من التقدم التكنولوجي والتعاون الدولي، أن نيوزيلندا كانت رائدة في وضع عمليات تتسم بالشفافية لإعداد الموازنة، وذلك بعد أن وافقت عام 1994 على قانون المسؤولية المالية الذي وفر إطاراً قانونياً لإدارة الموارد العامة تتسم بالشفافية.‏ وبالاعتماد في نيوزيلندا على الكفاءات والتزام مبدأ الشفافية وعدم وجود أي شخص فوق المساءلة، كان القضاء كبيرا على الفساد، مع التزام الشفافية في اختيار أصحاب المناصب، بناء على الجدارة والاستحقاق والنزاهة. وبذلك نجحت سنغافورة في أن تصبح في مصاف الدول صاحبة أعلى نصيب للفرد من الدخل القومي[11]. وبدأت تنزانيا عام 2015 تجربة إشراك طلاب المدارس في الحملة ضد الفساد في أرجاء البلاد، حيث انتشرت "نوادي مكافحة الفساد التي أنشئت في المدارس، ومعاهد التعليم العالي فساعدت على ترسيخ ثقافة النزاهة بين الطلاب كما تلقى القائمون على المبادرة مئات المكالمات عبر أرقامهم الساخنة التي يستخدمها الناس للإبلاغ عن الفساد، كما حققوا مع المبلّغ عنهم، وحوكم المتورّطون في الرشوة في أحيان كثيرة[12]. وأنشأت سلطات ما بعد الإبادة الجماعية في رواندا مجلس المناقصات الوطني، ليحل محل نظام منح العقود التاريخي والمثقل بالفساد، ما أسهم في زيادة اللامركزية، وجعل عملية التعاقد أكثر استقلالية. كما أصلحت هيئة الإيرادات الرواندية جباية الضرائب، وأنهت الامتيازات التي كان يتمتع بها السياسيون ورجال الأعمال البارزون، وكبار الضباط في السابق.. وبشكل مواز، استبعدت السلطات ستة آلاف موظف وهمي من كشوف المرتبات العامة، واستبعدت مثل هذا العدد من الموظفين غير المؤهلين[13].

وكانت تشيلي أحد البلدان التي استخدمت أحدث التقنيات لإيجاد أحد أكثر نظم المشتريات العامة شفافية في العالم. وقد جرى تدشين موقع "شيلي كومبرا" عام 2003، وهو نظام إلكتروني عام للمشتريات والتوظيف مفتوح أمام الجمهور، وهو يعتمد على برنامج على الإنترنت. وقد اكتسب سمعة عالمية في مجال التميز والشفافية والكفاءة. ويخدم النظام الشركات والمؤسّسات العامة وكذلك الأفراد من المواطنين، كما أنه، إلى حد بعيد، أكبر موقع للتعاملات بين الشركات في هذا البلد، ويضم 850 مؤسّسة لها أنشطة مشتريات. وفي عام 2012، أكمل مستخدمو الموقع 2.1 مليون عملية مشتريات، وأصدروا فواتير بقيمة 9.1 مليارات دولار. كما أنه كان محفزاً لاستخدام شبكة الإنترنت في جميع أنحاء البلاد[14].‏

وقد تمثلت الفلسفة الكامنة وراء تدابير عديدة نوقشت أعلاه، وترمي إلى مكافحة الفساد في القضاء على فرص الفساد عن طريق تغيير الحوافز، وذلك من خلال سد الثغرات والقضاء على القواعد التي تنطوي على مفاهيم خاطئة، تشجع على السلوك الفاسد. ولكن من المرجح أن يكون النهج الذي يركّز فقط على تغيير القواعد والحوافز، مصحوباً بعقوبة مشدّدة على نحو كاف في حالة خرق القواعد.

خاتمة

ويبقى نجاح جهود محاربة الرشوة والفساد واستمرارها في موريتانيا مرهونا بمدى استفادة النظام القائم من التجارب الناجحة في ظل التحديات الراهنة والمتمثلة في: وجود فجوة بين التزام السلطات العليا مجسدة في رئيس الجمهورية بمحاربة الفساد والمستويات التنفيذية الأخرى، عدم تفعيل الترسانة القانونية الموجودة، وغياب هيئة مركزية لمحاربة الفساد يعهد إليها بوضع رؤية واضحة واستراتيجية لمحاربة الرشوة والفساد، إضافة إلى ضعف القدرات الفردية والمؤسسية اللازمة ونقص الموارد المالية والبشرية المخصصة لأجهزة الرقابة والمتابعة، وضعف الوعي حول مخاطر الفساد وسبل مواجهته وعدم مشاركة الجهات المعنية في هذه الجهود، كالهيئات الحكومية والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني، ورواد الرأي والجامعات والمؤسسات البحثية.