لا تختلف الحياة في السجن كثيرا عن الحياة خارج السجن، فكلا الحياتين سجن خلف قضبان الاهمال والسلطوية وعدم الاكتراث وسوء التصويب والغلظة في التخطيئ
لكل إعادة تفكير "عقلانية" فوائد وإيجابيات، وإعادة التفكير في ما تعانيه موريتانيا من مشاكل ومنغصات، واختلالات إدارية ومنهجية، وفي ظواهر العنف، والكراهية، والضغائن، والاحقاد، والرغبات الجامحة في الانتقام، جميعها اليوم صارت مُلزمة لإعادة التفكير، بل إن إعادة النفكير فيها ضرورة حتمية، وليست ترفا فكريا، ولا دربا من دروب البلاغة، والخطابة، والاستعراض المعرفي أو التنظير، فالتلاسن الحاد بين الساسة "يحمل جلّه طوابع عنصرية"، وتراشق العوام بالالفاظ العنيفة والعبارات الجارحة، يحمل طوابع عنصرية، ويحيل غالبا الى صدامات بينية تتحول الى احتقان عصبي وإثني مشحون بحمية الجاهلية. لذلك، فإن إعادة التفكير في مختلف هذه الازمات بمثابة البحث في صميم و عمق سيرورة الحياة الانسانية، بمختلف تجليات السلوك الآدمي لأي مجتمع تتعدد فيه المشارب والشرائح والتطلعات الضيقة.
"لا يعدو التفكير او السلوك العنيف عن ردة فعل دافعها انتقامي لأسباب ثقافية او اقتصادية او حقوقية ولو أن العدل سائد بين الناس لانتفت ظواهر سلبية واختلالات وأزمات منهجية وأخلاقية تؤثر على التنمية واللحمة الاجتماعية"
إن الاعتقاد السائد بكون العنف سلوكا غريبا عن الانسان اعتقاد مردود وغير منطقي، فالعنف جزء لا يتجزأ من الانسان، وانفعال لصيق بانفعالاته، لكن الناس تخلط بين الفطري، والمُكتسب، فالتسامح وجمالية الخير، والقيم الاخلاقية والانسانية، اكتسبت كلها صفة المرغوبية لفرط سعي الانسان إلى اكتسابها، ولأن الانسان نسي ما هو عليه وعمل على تعويضه بما "يريد ان يكون عليه" و لعل سنّ الشرائع و وضع القوانين ليسو سوى تأكيدا على أن العنف ميزة لصيقة بالكائن البشري، فإذا كان هذا الكائن مستعصيا على كل تحديد يروم إدراك ماهيته فيُعرّف أنه الكائن المدني، أو الكائن الاجتماعي، إذ يميل إلى الاجتماع بطبعه، كما يوصف بالكائن السياسي، أي الذي ينزع إلى تسييس وجوده، وينعته الخطاب الديني بالكائن العابد أو "المتدين" وهو الكائن الذي به نزعة إلى المقدّس، فيمكن وسمه أيضا بالكائن العنيف الذي يتأصل فيه العنف و يعتبر إمكانا من بين إمكانياته المحسوسة لديه والثابتة.
صحيح أن العنف هو انكشاف الغضب المكبوت داخل الانسان، غير أن الانسان حين يلجأ إلى العنف فلغرض إبراز وجوديته، والارتقاء بكينونته، والتعريف بشخصيته، فهو يستعمل العنف ليتّخذ مسافة ممكنة عن العنف المضاد، ولكي يثبت حقا ما أو يجعل الآخر يستشعر قيمية هذا الحق.
إن الممارسة السياسية في عمقها ليست سوى صراعا مع الجانب العنيف في الانسان، وكدٌ واجتهادٌ في سبيل الحصول على اكتفاء ذاتي، ومحددات قيمية ومعنوية، فكيف يمكن تصريف وإعلاء عنف الشعوب بشكل لا يستفز الشعب و لا يسلب مصالح المستفيدين من الامتيازات التي يمنحها المجال السياسي او الاقتصادي لهم على حساب عموم أفراد الشعب؟ الجواب : "بالعدل والانصاف"
صحيح أنه لا يوجد مجال سياسي او اقتصادي باستطاعته إشباع جميع الرغبات والاهواء، لكن الدولة المؤسسية أوجدت لإدارة شؤون كافة أفراد الشعب، ومراعاة مصالحهم، وتلبية حاجياتهم، وتوفير متطلبات وآليات التأطير والتوعية والتأهيل للمشاركة الفاعلة في تدبير الشأن العام. وحين نطالب بالعدل والانصاف فمعناه أن تكون لأفراد الشعب كافة الحقوق المدنية والقانونية والدستورية، والقدرة على التفكير و المساءلة الأصيلة للسياسي و السياسة المعتمدة، وأن يكون عامل قياس الرقي والاتزان والوطنية والفاعلية الايجابية والاهلية هو ما يملكه الفرد من وعي، ونضج فكري، وتحصيل معرفي، وضوابط أخلاقية.
ما من شك في أن نمو الوعي لدى أفراد المجتمع يحتاج إلى وقت طويل جدا لكي يكتمل أو يقترب من الإكتمال، خاصة في مجتمع لا يمكن نعته إلا بالمجتمع الذي يعيش على درجة من الوعي الصفري، فهو مجتمع يغلب على تفكيره طابع الجاهزية السطحية، والإندفاع، والتطرف، والدوغمائية، وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، إلى جانب استشعار الظلم الممنهج "الذي لوحده" يكفي مبررا للانفعالات السلبية. فخطاب المجتمع اليوم هو خطاب مليئ بالعواطف، و ذو شحنات سيكولوجية، وضغائنية، لهذا يصير التفكير في اختلالاته ومشاكله الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لزاما وضرورة، لاعتبار العنف ظاهرة اجتماعية تقتضي تحليلها في عمقها وليس التعامل معها كسلوك سيكولوجي شاذ، أو كانفعال دافعه جنائي أو جنحي، أو أنها مجرد فعل مجرم قانونا دون البحث في مسبباته ودوافعه.
نحن نحتاج إلى تغييرات راديكالية في بنيتنا الوضعية والتأسيسية كي نخرج من ضيق الافق إلى رحابة التصريف والتصويب، والتخطيئ العقلاني، فحين نبحث في ماهية السياسات المعتمدة على صُعد التسيير والتدبير والتقرير، نلاحظ اختلالات منهجية مقرونة بأذيال الخيبة والفشل والاخفاق، ونصطدم بحجم الفساد الاداري والاخلاقي الذي تسبح البلاد فيه منذ النشأة حتى اليوم.