الراصد: في خضم السياسة و في منعرجات النقد و أمام عواصف الإختلاف؛ قد يغيب عنا الحضور المناسب لقيمة الوطن و معناه.
الوطن هو الجميع ليست كلمة تقال باللسان على منصة مهرجان أو تكتب بالبنان في مقال محكم البنيان.
بل هي واقع و مصير و مبدأ.
فالمعارضة الديمقراطية لا معنى لها إذا لم تأخذ بالحسبان مصلحة الوطن و الوطن فقط.
و الموالاة مثلها، لا معنى لها إذا كانت لا تعتبر ولاءها للوطن فوق كل ولاء السياسي.
لا بد إذن من إرتداء عباءة الوطن في كل فكرة أو قول أو عمل؛ و إلا غاب المعيار الفاصل في كل محاور البناء و التنمية.
حين نكتب فإننا نكتب للوطن أولا؛ لتاريخه و جغرافيته؛ و لا نكتب لمجرد تأييد أو تفنيد.
لقد عشنا في هذا الوطن و لا وطن لنا سواه.
جلسنا على مقاعد الدرس نفسها التي عانت من فساد التعليم الذي نكتب عنه الآن.
و شاركنا في مسابقات الشهادات الوطنية نفسها التي نكتب عن إختلالاتها الآن.
و خضنا المسابقات الوظيفية نفسها التي ننتقد شفافيتها الآن.
و كأن شيئا لم يتغير.
لكن يبقى الوطن فوق الجميع.
قد نتمرد في نقدنا للتسيير الخاطئ حد الجنون.
و نصرخ غاضبين في وجه كل المفسدين ما دام للفساد قلب ينبض.
لكن سنتمسك بوطننا حتى آخر رمق.
تراب وطننا و نسميه أقدس من أن يدنسهما إختلاف في الآراء و الأذواق.
و مدنه و أريافه و أزقته أغلى من كل كعكة يتقاسمها سكارى أكلة المال العام.
فليذهب المتزلفون و المتعجرفون بالمال و الشهرة و تذهب أنت بولائك لوطنك و وفائك لأرضه و سمائه و هوائه.
قد يقول القائل و ما فائدة حب الأوطانا إذا لم يكن للعيش الكريم فيها مكان.
أقول إن خبز وطني الحافي أغلى من جنفة الغير المكللة لحما المتدفقة ثردا؛ و عريشه أظل من قصور كسرى و قيصر.
و لقد صدق إبن الرومي حين قال:
ولي وطنٌ آليتُ ألا أبيعَهُ
وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا
وحبَّبَ أوطانَ الرجالِ إِليهمُ
مآربُ قضاها الشبابُ هنالكا
فقد ألفته النفسُ حتى كأنهُ
لها جسدٌ إِن بان غودرَ هالكا
و صدق القائل :
بلادي و إن جارت علي عزيزة
و قومي و إن ضنوا علي كرام
إن الوطنية إيمان في القلب و ليست إسما على ورق.
و إن خير من نتأسى به هو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ففي صحيح الترمذي عن عبد الله بن عباسٍ ( رضي الله عنهما ) أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة : "ما أطيبكِ من بلد ، وأحبَّكِ إليَّ ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ "
إن الذين يعزفون على وتر السياسة و يتمايلون على أنغامها ؛من أجل تحقيق أهداف خاصة؛
حري بهم أن يعزفوا على وتر الوطن فأنشودته أكثرا أسرا للنفوس و راحة للقلوب.
و قد تكون مصالحهم تلك؛تضر نسيج و إنسجام الوطن الحبيب...! فيتناقض المقصد الخاص مع المقصد العام و الفرع مع الأصل!.
ولا يعني ذاك العزوف عن السياسة؛ بقدرما هو توطين للسياسة؛ و توجيه لها حتى تكون سياسة وطنية بإمتياز.
لقد ذهبت بنا الديمقراطية بعيدا حتى أصبح بعضنا يفضل تأزيم الوضع لأغراض سياسية بحتة.
و ذهب بنا التحزب و التخندق إلى حد إعتبار الوطن قطعا مترامية و جهات متباينة.
الوطن هو الجميع.
هو تلك الأرض التي حين يأتيها فصل الصيف يتشبث بها أهلها رافعين أكف الضراعة يستسقون الله.
و تلك المدينة التي تخرج عنها ايام الخريف لتستريح من ضوضائها ثم تعود بعد ذلك و أنت تشتاق حتى سماع أزيز شاحاناتها المزعج.
و أولئك الأحبة الذين تمنحهم من وقتك و قوتك و صحتك ما أستطعت، ليعوضوه لك بمجرد بسمة السرور التي تبدو على وجوهم.
الوطن معنى سام و ليس فقط حالة إقتصادية و سياسية و إجتماعية؛ يترنح عليها لاعبوا كرة الأهداف الخاصة الضيقة؛ لتحقيق أهواءهم في لحظة إنفصام عن الذات و الوطن.