الراصد : في الآونة الأخيرة كثر الحديث عن الحركات النسائية عبر العالم وتحدث في الأمر من لم يكن له سابق عهد بالبحث عن تلك التيارات النسائية الجارفة لرواسب الهيمنة والاستغلال.. والنظّر لها من لم يكلّف نسفه عناء دراسة الموضوع من مصادره العلمية واتجاهاته النضالية، ومن لم يقرأ كتابا في دلالة التسمية ومشتقاتها الاصطلاحية، ورغم هذا كله وتزامنا مع ظرفية استفحل فيها العنف بمختلف صنوفه صارت كلمة "النّسويّة" كلمة مشحونة بمعان الكفر والإلحاد والشذوذ.. وأصبحت وصفا مسلطا على رقاب النساء اللواتي يطالبن بالعدالة والإنصاف ورسمِ قانون رادع للوحوش البشرية التي تتربص بهن الدوائر مسندة ظهرها لنظام الغاب الذي سنته القبائل والعشائر في لحظات غابرة من تاريخ السلطة الذكورية البدائية ..!!
وانطلاقا من هذا ومحاولة منا لرفع اللبس الذي غطى الرؤية وحجب الحقيقة عن نضال مشروع رغم تعدد آلياته وتنوع اتجاهاته، فإن الأمانة العلمية التي نسعى لتحقيقها والخلفية النضالية التي لن نتخلّى عنها فرضت علينا تقديم رأي قد يكون متواضعا وليس نهائيا لكن حسبه من الموضوعية والأمانة أن يفصّل القول في موضوع أثار جدلا قد لا ينتهي بمشاركتنا برأي فيه، لكنه يفتح المجال لتساؤلات قد تسهم في التخفيف من سلبية شحنة وصف "النّسويّة " وتزيح عن بعضنا عقدة الخوف من نعت التسمية، تلك التسمية التي يتم إطلاقها في وجه أي مسعى نضاليّ يرمي حجرا في مياه ظلت راكدة ولقرون عديدة آن لها أن تتحرك لتشرب الحركات النسائية زلال الحياة بعزة.
وحسبنا من قراءتنا لدلالة التسمية أنها عرفت تطورات عبر أزمنة مختلفة كانت المرأة الغربية في مواجهة عنيفة مع الكنيسة والمجتمع التقليدي.. حتى كان لتطوير الفكر وتأليف الكتب بنظريات جديدة وجريئة أثر بالغ في تطوير التسمية مثل:" كتاب “الجنس الآخر” لسيمون دي بوفوار، والذي وضعت فيه أسس مفهوم الجندر، بعبارتها الشهيرة: (لا تولد المرأة امرأة بل المجتمع هو الذي يعلمها أن تكون امرأة).".
وإذا اعتمدنا وصف صاحبة بحث:"مفهوم النسوية دراسة نقدية في ضوء الإسلام" حين اعتبرت التيار الراديكالي قد شوّه النسوية وابتعد بها عن النظم الطبيعية في قولها:"كما أن النسوية الأنثوية الراديكالية المتطرفة قد اتخذت من مصطلح الجندر قاعدة تنطلق منها إلى إلغاء كل الفوارق الطبيعية، أو المختصة بالأدوار الحياتية بين الرجال والنساء، ونتج عن ذلك تحول في الدعوة من المساواة المطلقة إلى المساواة التماثلية بين الرجل والمرأة، فلا اختلاف بينهما في الأدوار والخصائص، وإنما الاختلاف كان من صنع المجتمع".
فإن الأمر لا يعدو كونه اختلافا في الخصوصية الحضارية نحن لسنا ملزمين بتقلديهم شبرا بشر لكننا لن نتخلى عن حقوقنا المسلوبة خوفا من اتهامنا بالنسوية الراديكالية..
قد لا يتسع المجال لاستعراض الحركات النسائية في العالم لكي نحدد نسويتنا ولسنا بحاجة لذلك، لكن يمكننا القول بأن كلمة نسوية يقصد بها كل خطاب سواء كان أدبيا أو سياسيا أو حقوقيا يحمل همّ المرأة ويتبنّى قضيتها فهو نسوي سواء كان صاحبه رجلا أو مجموعة رجال أو نساء أو مركز دراسات أو شيئا مختصا بالنضال في حق المرأة فيطلق عليه نسوي، ونجد تعددا كثيرا في التيارات التي أطلق عليها النسوية إذ لا يجمعها إلا الهدف.
ففي هذا المجال نجد الحركات الغربية التي استيقظت قبلنا فطالبت بالعدالة والمساواة.. لكن بطريقتها ومنهجها، وفي عالمنا العربي الإسلامي تعددت أيضا التيارات النسائية وتطور اسلوبها النضالي لكنه ظل محكوما بخصوصية كل مجتمع على حدة.
و نجد باحثات عربيات خصصن كتبا وأبحاثا ذات قيمة علمية كبيرة في تحديد التسمية ودلالتها قد لا يتسع المقام لذكرها بل نكتفي ببعض النماذج كالكتاب الجديد الصادر حديثا عن دار الحوار السورية بعنوان "سرديات النسوية" للناقدة والباحثة المغربية سلمى براهمة حيث تقول في هذا المقام: "ظهر مفهوم النسوية في اللغة الإنجليزية في أواخر القرن التاسع عشر، "لتسمية الحركة النسائية التي كانت تشهد شعبية وتألقا كبيرين" في ذلك الوقت، إلا أن النسوية كفكر ونظرية "لم تكتمل ملامحها إلا في ستينيات القرن العشرين".
"وتستند الكاتبة إلى التعريف الذي وضعته الباحثة الأردنية خديجة العزيزي (1941 – 2016)، التي عرفت مصطلح النسوية بأنه يُطلق على "الفكر المؤيد لحقوق النساء، والداعي لتحريرهن من القمع الذي تمارسه السلطة الذكورية ضدهن".
وتذهب الباحثة سلمى عبد الستار أبو حسين إلى القول في بحثها: قراءة في المدرسة النسوية وتياراتها"وبالرغم من مرور الحركة النسوية بالعديد من المراحل، إلا أن مصطلح المدرسة النسوية يشير في مجمله إلى "السرد الزمني للحركات والأيديولوجيات التي تهدف للمناداة بحقوق المرأة"، وقد اختلفت النسويات حول نطاق وطبيعة هذه الحقوق، باختلاف الإطار الزمني والثقافي والجغرافي للطرح، ولكن معظم المؤرخات النسويات أجمعن على أن جميع الحركات التي تعمل على الحصول على حقوق المرأة ينبغي اعتبارها حركات نسوية، حتى إذا لم يطلقوا هذه التسمية على أنفسهم".
وانطلاقا مما سبق يجب أن ننبه إلى القول – قبل أن نختم الموضوع لنعود لمواصلته في سلسلتنا التي بدأناها بحلقتنا هذه والتي لم يسعفها الكمّ في توضيح ما نسعى له - إن اتفاقنا في الهدف مع هذه الحركات التي مرت بمراحل وتطورت عبر محطات - سنفصّل القول فيها في حلقات لاحقة- لا يعني انسجامنا في آلية تحقيقه نظرا للتبّاين في الخلفيات العقدية والمنطلقات الحضارية والمشارب السياسية، ففي النسوية عندنا نعتمد منطلقات الكليّات القرآنية ونضال الصحابيات ومبايعتهن وهجرتهن وجهادهن قبل أن يتحول المجتمع الإسلامي بقيادة عربية أحيت موروث القبيلة في نظرتها للأنثى إلى يوم أصبح الملك عضوضا والسلطة وراثية وحل السيف محل الشورى، واختفت معالم المرأة الإنسان إلى أنثى الجمال والمتعة والغواية..
يتـــواصــــل...
Dr/: Tarba Amar