الراصد : في يوم 16 مارس 2019 تسبب إطلاق نار من طرف جندي موريتاني إلى وفاة شيخ موريتاني في انبيكت لحواش ، وفي يوم 28 مايو 2020 تسبب إطلاق نار من طرف جندي موريتاني آخر في وفاة شاب موريتاني في قرية ويندنيك التابعة لمقاطعة أمبان.
دعونا نجري مقارنة سريعة بين هاتين الحادثتين الأليمتين
من حيث التوقيت : حادثة أمبان وقعت ليلا (الساعة التاسعة)، وحادثة انبيكت لحواش وقعت في وضح النهار.
من حيث عمر الضحية : في حادثة أمبان فإن الضحية هو شاب عمره 35 سنة، وفي حادثة أنبيكت لحواش فإن الضحية هو شيخ طاعن في السن .
من حيث العدد: في حادثة أمبان كان الأمر يتعلق بمطاردة مجموعة من المهربين حسب بيان الجيش، وفي حادثة انبيكت لحواش فكان الأمر يتعلق بشيخ أعزل يبحث عن قطيع سائم.
على مستوى السياق العام: جاءت حادثة أمبان في ظل إغلاق كامل لحدود بلادنا والتي يتجاوز طولها 5 ألاف كلم، وتأتي عملية الإغلاق هذه في إطار التصدي لوباء كورونا. عملية الإغلاق هذه تعرضت لانتقاد إعلامي واسع خلال الأيام الماضية، وذلك بسبب فشلها في بعض الحالات من منع دخول المتسللين. أما حادثة انبيكت لحواش فقد جاءت في ظرف ينشغل فيه الإعلام بقضايا أخرى غير الإرهاب والأمن.
على مستوى ردود فعل الجيش: في حادثة أمبان أصدر الجيش بيانا صحفيا بعد 15 ساعة فقط على وقوع الحادثة، وفي حادثة انبيكت لحواش أصدر الجيش إيجازا صحفيا بعد مرور خمسة أيام على الحادثة، وبعد انتهاء تحقيق أجرته الضبطية القضائية بأمر من وكيل الجمهورية.
على مستوى توصيف الحادثة : في حادثة أمبان جاء في بيان الجيش : " وقد تمكنت الدورية من القبض على أحد المهربين في حين لاذ الآخرون بالفرار. وخلال ملاحقتهم ترصد أحدهم جنديا بنية الاعتداء عليه فأطلق الجندي طلقة تحذيرية باتجاه المعتدي أصابته للأسف إصابة مميتة." وفي حادثة انبيكت لحواش جاء في الإيجاز الصحفي الصادر عن الجيش : "أن السيد محمد فال ولد سید النافع القاطن في انبيكت لحواش كان في بحث عن قطيع سائم وقد أثار اقترابه من منطقة محظورة شكوك عناصر الحراسة فحاولوا إيقافه. وخلال المحاولة حدثت ردة فعل غير متوقعة من الضحية تسببت في حالة إرباك انطلقت خلالها دون قصد رصاصة أودت بحياته."
إن أي مقارنة سريعة بين وصف الجيش لملابسات الحادثتين ستظهر بأن التبرير في حادثة أمبان يعد في غاية التماسك إذا ما قورن بالتبرير المتعلق بحادثة أنبيكت لحواش.
عن ردود الفعل السياسية على الحادثتين
في حادثة أنبيكت لحواش لم يصدر أي بيان من أي حزب سياسي حسب علمي، وفي حادثة أمبان أصدر كل من حزب تواصل واتحاد قوى التقدم والتكتل وإيناد والعميد المصطفى ولد بدر الدين بيانات منددة بحادثة أمبان، وكان ذلك بعد ساعات قليلة من نشر خبر عن الحادثة، ومن المتوقع أن تتوالى البيانات خلال الساعات القادمة.
كان حزب تواصل هو أول حزب يصدر بيانا منددا بالحادثة، على الأقل كان هو الأول من حيث توقيت النشر، وقد وصف الحزب العملية بأنها تتعلق "بمقتل مواطن موريتاني رميا بالرصاص"، وقد عبر من خلال البيان بأنه "يدين بشدة هذا الفعل البشع الذي يظهر فيه استخدام مفرط لقوة"، وقد دعا الحزب في بيانه " كل الموريتانيين إلى رص الصفوف ووحدة الكلمة واستحضار الأخوة الإسلامية في وجه دعاة التفرقة" . نفس الدعوة جاءت من حزب اتحاد قوى التقدم الذي حذر في بيانه " كافة المواطنين من التأثر ببعض الخطابات والشائعات المشبوهة، التي تسعى إلى تسميم الأجواء والمساس بوحدة الشعب وسكينته". ولم يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لحزبي التكتل وإيناد، فقد دعا الحزبان في بيانهما المشترك كافة المواطنين "إلى الوقوف بحزم ضد كل ما من شأنه أن يثير الفتنة والشحناء بين مكونات الشعب وشرائحه".
الآن لنطرح الأسئلة التالية : لماذا سارعت هذه الأحزاب إلى التنديد بحادثة أمبان، وهي التي تجاهلت في وقت سابق حادثة انبيكت لحواش؟ هل للأمر علاقة بانتماءات الضحية وبمكان وقوع الحادث؟ ولماذا أصرت هذه الأحزاب على تجديد الدعوة بضرورة الابتعاد عن الشحن العرقي بين مكونات المجتمع؟ ألا تمثل هذه الازدواجية التي تعاملت بها هذه الأحزاب السياسية مع الحادثتين نوعا من الشحن العرقي؟
من المحتمل جدا أن تتكرر مثل هذه الحوادث الأليمة، فمثل هذه الحوادث يتم تسجيله في كل بقاع العالم، والمطلوب من الأحزاب السياسية ـ وخاصة المعارضة منها ـ في حالة وقوع أي حادثة من هذا النوع أن تندد بقوة، وأن تطالب بالتحقيق العاجل وبمواساة ذوي الضحايا. هذا هو ما يطلب من الأحزاب السياسية، ولكن الملاحظ أن هذه الأحزاب تصمت صمت القبور أمام حوادث معينة، وتندد ـ وبأقسى العبارات ـ بحوادث أخرى، وذلك على الرغم من التشابه بين تلك الحوادث والذي يكاد أن يصل إلى درجة التطابق. وإذا ما استمرت هذه الازدواجية وهذا الكيل بمكيالين فسيأتي اليوم الذي سيتم فيه تصنيف هذه الحوادث الفردية على أنها تدخل في إطار ممارسة عنصرية يقوم بها الجيش وعناصر الأمن ضد مكونة معينة من مكونات المجتمع الموريتاني.
قد يعتقد البعض بأن في الأمر مبالغة، ولمن يعتقد ذلك فإليه هذا المثال والذي يتضمن معلومة قد تفاجئ الكثيرين منكم.
اليوم يكاد يُجمع الرأي الوطني على أن التعقيدات الحاصلة في عمل الوكالة الوطنية لسجل السكان، هي تعقيدات موجهة بالأساس ضد مكونة بعينها من مكونات الشعب الموريتاني، وبأن المتضرر الأكبر من تلك التعقيدات هو ولايات الضفة، ولذا فقد أصبح من الطبيعي جدا أن يركز الخطاب السياسي للمعارضة عندما يتحدث عن التعقيدات الحاصلة في الوثائق المؤمنة عن مدن الضفة وعن مكونة بعينها دون المكونات الأخرى.
الآن إليكم هذه المعلومة التي ستفاجئكم، وهي تتعلق بالنتائج التي توصلت إليها اللجنة التي تم تشكيلها لدراسة كل المشاكل المتعلقة بالوثائق المؤمنة، وهي اللجنة التي ترأسها الوزير السابق والمستشار الحالي برئاسة الجمهورية السيد تام جمبار. هذه اللجنة توصلت إلى أن عدد الذين لم يحصلوا في الحوض الشرقي على وثائقهم المدنية نتيجة للعراقيل التي تم وضعها من أجل التأكد من انتمائهم الموريتاني يفوقون عدد الذين تم حرمانهم من وثائقهم بسبب نفس التعقيدات في ولايتي لبراكنة و كوركول، ويعني هذا بأن التعقيدات التي تضعها الوكالة الوطنية لسجل السكان لم تكن موجهة إلى مكونة معينة، ومع ذلك فقد أصبحت هناك "حقيقة " لا يمكن التشكيك فيها، وهي أن تلك التعقيدات موجهة بشكل خاص إلى مكونة بعينها، وإلى ولايات محددة دون غيرها.
لقد ساد هذا الاعتقاد الخاطئ بسبب الازدواجية في التعامل الإعلامي والسياسي خلال السنوات الماضية مع "ضحايا" وكالة الوثائق المؤمنة، فعندما تكون الضحية من مكونة معينة، فيتم التعامل مع تلك الحالة بصفتها خبرا يستحق النشر، وبأنها تدخل في إطار الممارسة العنصرية للدولة، وهو الأمر الذي يستحق التنديد من السياسيين المعارضين على الأقل. أما إذا كانت الضحية من مكونة أخرى، فإن الأمر في هذه الحالة لا يرقي إلى مستوى الخبر، ولا يستحق "تفاعلا" من السياسيين، فهو لا يعدو كونه مجرد نتيجة لتعقيد عادي من التعقيدات اليومية التي تطبع عمل وكالة الوثائق المؤمنة.
أمثلة عديدة يمكن تقديمها في هذا المجال، ولكن المقام لا يتسع لها، ولذا فسأكتفي بمثال واحد. في شهر سبتمبر من العام 2011 حرمت تعقيدات وكالة الوثائق المؤمنة شخصيتين سياسيتين تنتميان لنفس الحزب السياسي، وكلاهما شغل منصب وزير في وقت سابق، حرمتهما من أوراقهما الثبوتية . الأول حُرم هو شخصيا من أوراقه الثبوتية لأن أمه مولودة في الخارج، والثاني حُرمت زوجته لأن أمها مولودة في الخارج. الأول لم يتحدث أحد عن حرمانه من أوراقه إذا ما استثنينا وسطه العائلي الضيق، أما الثاني والذي يتعلق الحرمان بزوجته لا به هو، فقد جُعِل من قضية حرمان زوجته من أوراقها المدنية خبرا تتداوله المواقع، وقضية رأي عام يتفاعل معها الجميع.
ما حدث من تمييز إعلامي وسياسي مع الوزيرين السابقين هو نفسه ما حدث من تمييز بين الشيخ الذي قتل بسبب إطلاق نار خاطئ في انبكت لحواش والشاب الذي قتل بسبب إطلاق نار خاطئ في أمبان.
إذا استمر هذا الحال على حاله، فسيأتي اليوم الذي ستصنف فيه الأخطاء التي يرتكبها بعض الجنود أثناء مزاولتهم لمهامهم الأمنية على أنها ليست أخطاء عادية ومعزولة، وإنما هي نتيجة لفعل عنصري منظم موجه ضد مكونة بعينها.
ألم يحن الوقت لأن يتوقف بعض الإعلاميين والسياسيين عن هذا التمييز بين الضحايا ؟
حفظ الله موريتانيا...
محمد الأمين الفاظل