كنا ثلاثة ...جمعنا حب العلم والمعرفة في محظرة شيخنا "أحمدو يسلم" ــ حفظه الله ــ الذي كان
مثالا للعالم العامل , لولا تعصبه الشديد لمذهبه وعقيدته , وكرهه الصريح لكل من يخالفه الرأي في تصوفه.... أقف أحيانا حائرا ومتسائلا : كيف لهذا الامام الحبر أن يكون متعصبا لأمر محل خلاف بين علماء الامة , وكيف له أن يُوالي فيه ويعادي فيه..
ثم لا ألبثُ أنْ أسلم بأن شيخي أدرى بنفسه وأعلم...
أما زميلاي فكانا مثالا لطلبة العلم المجتهدين..
ــ "سيداتي" له ذاكرة قوية , وحافظة لا يفلت منها شيء ..
نلجأ اليه كلما احتجنا الى نص أو شاهد في مسألة معينة..
حَفِظ المتون ..بل حفظ جل شراحها ..
أتقن حفظ القرآن تجويدا.. وترتيلا...
أطلقنا عليه لقب "المسجلة"
ــ "إبراهيم"... طالب شديد الذكاء ..حادّ الفهم..
أصغر الثلاثة سنا...وأكرمهم يدا..
مرِحٌ.....سريع الغضب...
كانت أمه ــ رحمها الله ــ تعاملنا معاملة أبنائها..
توصينا به خيرا..
تخاف عليه لسرعة غضبه...
كانت رغم أميتها تقول :
ولدي...أترضى بإلغاء عقلك ...وترك زمامك للشيطان..
ذات مرة كاد يفتك بزميل لنا في المحظرة لأنه سخر من عيونه الصغيرة
شيخنا يعتبره موضع ثقته...يرافقه في حله وترحاله...
ويؤثره على الجميع...
الشيخ يقسم وقته ثلاثا....
ــ بعد صلاة المغرب وحتى منتصف الليل لتدريس المتون بكل أنواعها وأشكالها
تتخلها صلاة العشاء
ــ ثم يتفرغ لعبادته ومناجاته...له محراب مظلم يصلي فيه وأحيانا ينام ساعة أو ساعتين ...يتوارى عن الانظار...حتى مطلع الفجر...
ــ يصلي بالناس... ثم يتفرغ لتدريس العلوم القرآنية...
لا يشرب الشاي..لكنه يستعمل الشم...
يصلي الضحى متأخرا.. يذهب الى البئر ...وفي الطريق
يمر ب"خديجة" شقيقته الكبرى...
مسكينة... نظرها ضعيف..
كنا ــ يغفر الله لنا ــ نأكل من مدخراتها من "التيشطار" واتمر" حين يعضنا الجوع..
ــ أما أنا فكنت أشد الثلاثة كسلا....وأقلهم تحصيلا..
حلمي الوحيد أن أصبح مثل الشاعر أحمدو ولد عبد القادر..
..حفظت كل أشعاره ..خاصة..الوطنية والقومية..
إبراهيم يجدّ ويجتهد كي يأتي اليوم الذي يتفرغ فيه لعمل أبيه في تربية المواشي..
سيداتي..ليس مستعجلا مثلنا لترك المحظرة...لكنه يحدثنا عن عمل والده
في شق الارض وزراعتها... وحفر الآبار وسقايتها..
كنا نلمس السعادة في حديثه...كأن به حنينا أبديا للحرث والمحراث..
تركتُ بعد فترة 5 سنوات جو المحظرة فيما يشبه الهروب..
لم أخبر شيخي...ولم يعلم الا زميلايَ فقط..
انقطعت أخبارهما...تنقلت في العاصمة بين عدد من التيارات والحركات.. دون أن أعي حقيقة ما يطبخ فيها في البداية.... ثم هجرتها بعد أن أدركت ألاعيبها واستغلالها للساذجين أمثالي...
علمت بعد سنوات أن سيداتي هجرَ المحظرة وانضم الى حركة متطرفة للزنوج تنشط في الخارج..
استغربت...بل تفاجئت....لم أصدق ما سمعت حتى تأكدت..
ابراهيم أصبح أشد تطرفا وعنصرية منه كما علمت ...انخرط ـ كناشط ـ في منظمة متطرفة معروفة!!!
في يوم 28 / 11 / 2011 حضرتُ مبكرا لأخذ موقع متقدم لمشاهدة العرض العسكري الرائع الذي أقامته قواتنا المسلحة بمناسبة عيد الاستقلال على طول شارع جمال عبد الناصر...
عندما بدأ العرض ..ودوّتْ اصوات جنازير الدبابات كنت أركض بلا وعي...أصيح...أطير..أصفق عند مرور كل كتيبة ...كل سرب من الطائرات
...كل رتل من المدفعية ..أو قاذفات الصواريخ...
فجأة ....سيداتي جلّلو... نظرت اليه....دققت النظر..هو بعينه...
يبكي...يحمل الاعلام... يرفعها بيديه..
عانقته...انطلقنا...نسابق العرض...نردد...
كن للإله ناصرا..وأنكر المناكرا..
أمامنا مباشرة....يركض ابراهيم ولد ورزك يرددها....ودموع الفرح تملأ عينيه..
وضعنا أيدينا حوله..انطلقنا....بعد نهاية العرض..تذاكرنا الايام الجميلة...ضحكنا..بكينا...
تعاهدنا على نبذ الفرقة...نبذ التطرف..
سالت الدموع....طال العناق...
كأننا ثلاثة في واحد..
قصة بقلم/ محمد محمود محمد الامين