
الراصد : منذ أن وُجدت الدولة الحديثة، وهي في صراع دائم بين الذاكرة والمستقبل؛ الذاكرة تستدعي الألم، والمستقبل يطلب الصفح، وبين الاثنين تتأرجح الأنظمة، تارةً تدفع لتسكت، وتارةً تسكت لتدفع.
وفي حياة الأمم، كما في حياة الأفراد، لحظات يختلط فيها الألم بالواجب، والعاطفة بالمسؤولية، وحين تضعف الدولة أمام هذا الخليط، تفقد بوصلتها، وتتحول الذاكرة من جسرٍ إلى المستقبل إلى سلاحٍ في يد من يتقن المتاجرة بالدموع.
ها نحن اليوم أمام مشهد جديد من هذا النمط؛ وهو إعلان الحكومة صرف 26 مليار أوقية تعويضاً لضحايا أحداث 1989.
مبلغ ضخم، يكفي لشراء عشرات المسيرات، يُفترض أنه لإغلاق جرحٍ قديم، لكنه في الحقيقة يفتح سؤالاً أكبر؛ هل يمكن للمال أن يُطفئ نيران التاريخ؟ وهل يُمكن للأمم أن تُبنى على التسويات بدل المصارحات..؟
لقد طويت هذه الصفحة ـ كما شهدنا بأعيننا وذاكرتنا ـ في أكثر من محطة.. في عهد العقيد الراحل إعلي ولد محمد فال، أعلن المعنيون أنفسهم أن الملف انتهى، وأن الإنصاف تحقق، وأن الذاكرة ارتاحت، ثم حين تغيرت الأنظمة وتبدلت الوجوه، عاد الملف نفسه ليُطرح من قبل من لم يكتوو بناره، وكأن شيئاً لم يكن؛ وفي عهد الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، تكررت المشاهد ذاتها: بيانات، وصلوات واستقبالات، وعودة، واعتذارات رمزية؛ ثم جاء محمد ولد عبد العزيز فمدّ يده، وسوّى، وعوّض، وأعاد الاعتبار، وظنّ الجميع أن صفحة 1989 أُغلقت إلى الأبد.
لكننا نكتشف اليوم أن الذاكرة، حين تُستعمل وسيلة ضغط، لا تُشفى.. فكلما تنازلت الدولة ارتفع سقف المطالب، وكلما دفعت من جيبها، دفعت من رصيد مكانتها.
لقد تحولت قضية وطنية مؤلمة إلى آلية ابتزاز سياسي واقتصادي، تُستدعى عند الحاجة لتذكير الدولة بعجزها الأخلاقي المزعوم، وكأنها كائن فاقد الذاكرة لا يملك الحق في طيّ صفحاته.
وهنا، يجب أن نقول ما لا يُقال عادة..
ففي أحداث 1989، لم تكن هناك ضحية واحدة، ولا جهة واحدة تمثل البراءة المطلقة، كانت تلك المواجهات صراعاً بين فصيلين، أحدهما سبق الآخر بخطوة في مسار التوتر، والآخر ردّ بطريقة جعلت النار تتسع.. ولو أن المنتصر بالأمس كان هو المنهزم، لربما كنا نعيش اليوم نسخةً أكثر قسوة مما عشناه.
ثم إن ضحايا الناطقين بالحسانية في تلك الأحداث كانوا أكثر عدداً وأعمق جرحاً، لكنهم لم يُشكلوا لجاناً، ولم يرفعوا شعارات، ولم يبتزوا الدولة، لأنهم ـ ببساطة ـ كانوا يعتبرون الجرح جزءاً من امتحان الوطن، لا وسيلة للمساومة معه.. فمن يعوض هؤلاء..؟ من يعيد لأسرٍ موريتانية فقدت أبناءها في الضفة الأخرى لأنهم موريتانيون..؟ ومن يُنصف الذين نُهبت ممتلكاتهم وأُحرقت بيوتهم في السنغال بتحريضٍ من عنصريين موريتانيين، كانوا جزءاً من المشهد الذي صنع تلك الفتنة..؟
إن ما جرى في السنغال يومها لم يكن سوى انعكاسٍ لصراع داخلي موريتاني نُقل إلى أرضٍ أخرى، كانت الأيادي التي أوقدت النار موريتانية قبل أن تكون سنغالية، وكانت اللغة التي صاغت الكراهية حسانية وفلانية وولوفية في آنٍ معاً.
الدولة الموريتانية منذ تأسيسها واجهت تحدياتٍ أعقد من ذلك، لكنها لم تفقد توازنها إلا حين خضعت للابتزاز باسم الذاكرة.. فالدول التي تخشى من أبنائها لا تُبنى، والدول التي تدفع لتشتري السلم لا تحققه، لأنها كلما دفعت أكثر، اشترت بذلك عدواً جديداً.
العدالة ليست تعويضاً مالياً، ولا هي اعتذارٌ رسمي يُقرأ في حفل.. العدالة أن يتساوى الجميع أمام الذاكرة، كما يتساوون أمام القانون.
فأي عدالة تُكرّم بعض الضحايا وتُهمل آخرين، هي في حقيقتها ظلمٌ جديد باسم العدالة القديمة.. وأي دولة تُسلّم نفسها لضغط جهةٍ أو طائفةٍ أو جماعة، تفقد هيبتها، ثم تفقد ثقة الناس فيها.
إنّ الابتزاز بالذاكرة هو أسوأ أنواع الابتزاز، لأنه يقتل روح الوطن في قلبه، يجعل الناس ينظرون إلى الماضي كرصيدٍ للمطالبة، لا كدرسٍ للتجاوز.
ولأن الدولة كما علّمنا التاريخ ليست جمعية خيرية ولا صندوقاً للتعويض، بل فكرة ناظمة تحمي الجميع بعدلٍ واحد، فإن عليها أن تقول بوضوح، أن زمن الدفع مقابل الصمت قد انتهى.
إن الدولة، حين تكون قوية بعدلها، لا تحتاج إلى شراء الولاء، وحين تكون عادلة، لا تخاف من النقد.
أما حين تتحول إلى ماكينة UTM تدفع المال لإرضاء الضمائر المتعبة، فإنها تمهّد لانفجارٍ قادم، لأن الذاكرة حين تتغذى على التعويض لا تشبع أبداً.
لقد آن الأوان أن نطوي الصفحة لا بالمال، بل بالحقيقة؛ فالتاريخ لا يُغلق بمرسوم، ولا تُرمم الجراح بميزانية؛ والذين يصرّون على إبقاء الجرح مفتوحاً، لا يريدون العدالة، بل يريدون استمرار الفوضى التي تغذيهم.
إن الدولة أكبر من الجميع، وإذا لم نُدرك هذه الحقيقة اليوم، فسنستيقظ يوماً لنجد أن الوطن كله أصبح رهينةً في يد من يملك أكثر الأصوات بكاءً، لا من يملك أنظف القلوب إخلاصاً.