
الراصد : تثير التعيينات الحكومية وما يصاحبها من تدوير للوزراء وإسناد المناصب لأبناء المسؤولين السابقين نقاشا واسعا في الأوساط السياسية والإعلامية. هذا الجدل يرتبط في جوهره بسؤال محوري حول مدى اعتماد الدولة على الكفاءة والجدارة في اختيار المسؤولين، أو ما إذا كانت هذه التعيينات تعكس خيارات سياسية محسوبة، حتى وإن جاءت على حساب الكفاءات المستقلة.
ينظر البعض إلى تدوير الوزراء كآلية لضمان الاستمرارية في السياسات الحكومية، حيث يتيح بقاء نفس النخبة في المشهد نوعا من الانسجام في إدارة الملفات الحساسة. غير أن الوجه الآخر لهذه الممارسة يتمثل في الجمود، إذ تتحول المناصب العليا إلى دائرة مغلقة تعيد إنتاج نفس الشخصيات، مما يقلل من فرص تجديد الدماء وضخ رؤى جديدة في العمل الإداري والسياسي.
أما ظاهرة توريث المناصب لأبناء الوزراء والمسؤولين السابقين، فهي تطرح إشكالية تتجاوز مسألة الكفاءة لتلامس الشرعية نفسها. فبينما يرى البعض أن أبناء المسؤولين قد يمتلكون خبرات مكتسبة بحكم قربهم من دوائر القرار، يعتبر آخرون أن هذا النمط يكرس صورة سلبية عن غياب تكافؤ الفرص، ويعزز الانطباع بأن الولاءات العائلية تتغلب على معايير المساواة والجدارة.
وهنا يبرز التساؤل: هل نحن أمام غياب حقيقي للكفاءات، أم أمام خيار سياسي محسوب؟ في بعض السياقات تلجأ الأنظمة إلى إعادة تدوير نفس الأسماء لضمان الولاء والانضباط، وهو خيار قصير المدى يوفر استقرارا ظاهريا، لكنه يضعف الثقة المجتمعية ويخلق شعورا بالإقصاء لدى الكفاءات المستبعدة. أما الادعاء بغياب الكفاءات فهو مبرر يصعب الدفاع عنه، خاصة في ظل وجود طاقات شبابية مؤهلة أثبتت جدارتها في مجالات متعددة.
تداعيات هذه السياسات على الحوكمة ليست بسيطة. إذ يؤدي حصر المناصب في دائرة ضيقة إلى تكريس البيروقراطية وإبطاء مسار الإصلاح الإداري، فضلا عن إضعاف قدرة الدولة على بناء جهاز حكومي حديث قادر على مواجهة التحديات التنموية. والأخطر من ذلك أن استمرار هذه الممارسات يوسع الفجوة بين النخبة السياسية والمجتمع، ويغذي شعورا باللاعدالة بين الكفاءات التي لم تتح لها الفرصة.
إن النقاش حول توريث المناصب وتدوير الوزراء لا يرتبط بأشخاص بعينهم بقدر ما يرتبط بمبدأ الحوكمة الرشيدة. فالدول التي تراهن على الكفاءات المستقلة تحقق عادة قفزات نوعية في التنمية والإصلاح، بينما تظل الدول التي تعيد إنتاج نفس النخب عالقة في دائرة الاستمرارية الشكلية. وبين غياب الكفاءات المزعوم والخيار السياسي المحسوب، يظل التحدي الأكبر هو وضع معايير شفافة تضمن أن يكون المنصب العام مسؤولية وطنية لا امتيازا شخصيا أو عائليا.