الراصد : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس منّا من دعا إلى عصبية، وليس منّا من قاتل على عصبية، وليس منّا من مات على عصبية”
لا عيب مطلقًا في تحسين وتطوير وتغيير المواثيق والدساتير والمعاهدات والاتفاقيات وغيرها، إذا استدعت الضرورة ذلك، استجابة للتحديات والمستجدات التي لا تهدأ.
إن التغيير، في سياق التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المستمرة، يعد ضرورة ملحة من أجل ضمان استقرار الوطن ورسوخ أركانه، والمضي قدماً نحو بناء الدولة القانونية القوية والديمقراطية الحقيقية.
من يرى غير ذلك، لا يتحدث بمنطق العصر ولا يعبر عن الوعي السياسي الرشيد، بل يضل الطريق ويسقط في فخ الجمود الفكري. إن فقدان القدرة على قراءة الحاضر بتمعن هو نقص في بصيرة التنوير، غيابٌ عن القدرة على الاستشراف والاستعداد لما هو آت.
لقد شهدت العديد من البلدان حول العالم تغييرات جذرية في دساتيرها ومواثيقها بما يتناسب مع متطلبات الاستقرار والتوازن الداخلي، لتمكين دولها من التحول إلى كيانات قوية، قادرة على مواكبة تحديات الحداثة. هذه التغييرات لم تكن تتعلق فحسب بمواكبة التحولات العالمية، بل كانت أيضًا ضرورة لتعزيز وحدة الدولة وشعبها، وجعلها دولة قانون عادلة تحترم حقوق الجميع.
الشعوب المتحضرة، التي تدرك تمامًا أهمية المسؤولية الوطنية، هي التي تنفتح على هذه التغييرات بروح من التفاؤل والثقة، لتأسيس دولة عادلة ومستقرة. هذه الشعوب لا تتردد في التغيير لأن رؤيتها للمستقبل قائمة على الولاء للوطن والالتزام برفعه فوق أي اعتبار آخر. أما الشعوب التي تتبع الأهواء أو تتسرع في الحكم، فإنها تكون في الغالب مشدودة إلى المصلحة القَبَلية الضيقة، مكرسة الانقسامات الداخلية، وغافلة عن المصلحة العليا التي يتطلبها بناء الدولة الحديثة.
وفي موريتانيا، تتأكد يوماً بعد يوم حقيقة أن السياسة أصبحت وسيلة لتحقيق المكاسب الشخصية والسياسية، وأداة للتواجد في مفاصل الدولة بغرض الاستفادة من الموارد العامة.
إن الفساد قد نخر جسد الدولة، وحول العديد من السياسيين إلى مجرد أدوات في يد “لوبيات” الفساد التي تسيطر على مفاصل الاقتصاد الوطني. بينما يعاني المواطنون في الأحياء الفقيرة والداخل البعيد عن مراكز التجمع الكبرى من تدهور الخدمات الأساسية، يتنعم البعض في أحياء النخبة بعيدًا عن معاناة الغالبية العظمى.
اليوم أصبحت القبلية، التي كانت في السابق سمة من سمات المجتمع، عقبة كأداء أمام مسار تطور الدولة. ففي عالم السياسة الموريتاني اليوم، لا يزال الولاء القبلي يشكل حجر الزاوية في العديد من المعاملات السياسية. تسعى كل قبيلة، بغض النظر عن حجمها أو قوتها، إلى تكريس حضورها في الساحة السياسية، وتعمل على تعزيز نفوذها بالسطو على المال العام عبر تحالفات قد تكون في الغالب الأعم متناقضة أو غير متكافئة، ولكنها تصب في مصلحة تعزيز قوتها داخل النظام السياسي.
هناك قبائل تتمكن بالقوة الغاشمة تارة وبالمكر والدهاء أحيانا أخرى من أداء اللعبة السياسية بمهارة، فتقدم إلى الواجهة من لا يمتلك القوة التقليدية، ولكنه يملك قدرة على التنافس بحدّة وجرأة، بينما هناك قبائل أخرى، رغم كثرتها وثرائها النظري، تعيش في صراع داخلي دائم على خلفية الصراع على الزعامة والريادة، مما يجعلها عاجزة عن توحيد صفوفها. وهذا التنافر الداخلي يضعفها ويجعلها بعيدة عن التأثير الفعلي في صياغة القرار السياسي عند كل موسم.
ومع استمرار هذه اللعبة السياسية القَبَلية يزداد اليوم خطر تحول الوطن إلى ساحة صراع بين الطوائف، حتى تهدد وحدته الداخلية. وإن هذه “المواسم السياسية” التي يتزاحم فيها الأفراد، لا تساهم في تقدم البلاد بقدر ما تؤدي إلى إحياء الطائفية والقبلية والشرائحية، مما يهدد بعودة ممارسات قديمة لم تعد تتناسب مع متطلبات العصر.
إن السياسة، في صورتها المتبعة، تمثل تراجعًا واضحًا عن فكرة بناء دولة القانون الحديثة وترسيخ دعائم الجمهورية. فبدلاً من أن تكون السياسة أداة للتنمية والازدهار، تظل أداة للفساد والاستغلال والعبث بمقدرات الدولة، حيث يتراجع الولاء للوطن ليحل الولاء خالصا للقبيلة والفئة.
إن معالجة هذا الوضع تتطلب شجاعة سياسية ووعيًا جماعيًا، قادرًا على مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل. وإن توطيد الوحدة الوطنية يتطلب تجاوز هذه الانقسامات والتركيز على مصالح الوطن العليا، بعيدًا عن الحسابات القبلية الضيقة.
في الختام، فإن موريتانيا اليوم في حاجة ماسة إلى “تجديد” في السياسة وأخذا بعهودها ومواثيقها والممارسة السياسية في التطبيق وحصد النتائج؛ “تجديد” يترجم إلى إصلاحات دستورية شاملة تعزز من قوة الدولة، وتحترم مبدأ القانون، وتنهي تأثيرات القبلية السلبية على الحكم. وبالطبع فإن الانتقال إلى دولة حديثة يتطلب إرادة سياسية حقيقية وقرارات شجاعة تعلي من شأن المصلحة الوطنية على حساب المصالح القبلية والفئوية الضيقة الهدامة.