المصالح العامة بين *الأهوية* و الأمزجة السياسية

أحد, 12/01/2025 - 21:06

الراصد : كانت محطة السفر الوحيدة في الثمانينات قرب المطار القدبم بلكصر..يسافر منها المتجهون إلى المناطق الجنوبية والمناطق الشرقية..وكانت تلك الفترة هي العصر الذهبي لفئة (الصمصارة)، نظرا لمركزية النقل، وقلة السيارلت، وكانوا يأخذون من المسافر ثمن ما يحمل مهما كان صغره وخفته..
شاع في تلك الفترة هذا الكاف الذي لا أعرف هل هو صحيح وزنا:
كان وصار وأن
نواسخ غير الصمصار
أنسخ من أن وإن
وانسخ من كان وصار
مرة زاد الناقلون أسعار التذاكر، فازدحمت المحطة بالركاب..أما المسافرون على خط انواكشوط النعمه فقبلوا الزيادة، وتعللوا بأن ما سيقضونه من الوقت انتظارا لتسوية المشكل، والحوار، ورفض التسرع بالسفر، كل ذلك أيسر منه أن يربحوا الوقت، ويربحوا ما سينفقونه على أنفسهم من طعام، وشراب، وما سيتعرضون له من الشمس، والرياح في المحطة..
وأما المسافرون من انواكشوط إلى بوكى، وكيهيدي وباقي مناطق الضفة فرفضوا الاستجابة للزيادة، وصبروا على ظروف المحطة والانتظار القاسية، ولما يئس الناقلون من ثنيهم عن الممانعة والإضراب، رضخوا للنقل بالتذكرة القديمة، فكنا نسافر إلى آجوير، وأغشوركيت، وألاك في سيارات بوكى، وكيهيدي لأنها أرخص من سيارات النقل إلى آجوير، وأغشوركيت، وألاك...
لا تستغرب فأغلب مجتمع (البيظان) أمة بدوية، مستهلكة، مسرفة، لا تفكر في غد، ولا في المصالح الآجلة،.وأغلب مجتمع الزنوج أمة منتجة، واعية، تلتزم بوعودها، تعي أن ما تخسره في يوم، أو أسبوع في الممانعة، ستعوضه، وتربحه الأجيال في المستقبل..
هذا يقودني إلى سؤال طرحته منذ وقت، وما زال مطروحا.. 
لماذا يكون(اباص) لمدن إلى ألاك أقل من (اباص) أغشوركيت إلى ألاك، والمسافة متساوية، أما الطريق بين أغشوركيت وألاك فمعبد(طريق الأمل)، وأما الطريق بين لمدن وألاك فصحراوي وعر..
والمسافر من أغشوركيت إلى ألاك يستطيع أن يسافر عن طريق الأمل دون الارتباط بسيارات النقل المحلية، وأما المسافر من لمدن فليس له من الوسائل إلا سيارات النقل المحلية نظرا لعزلة المدينة، وبعدها عن الطريق المعبد..

الجواب أن الفروق بين سكان الحيين شبيهة بالفروق بين سلوك مجتمع (البيظان) في بداوته، وفوضاه، وأنانية الفرد فيه، وبين وعي مجتمع الزنوج، وانحيازه للمصلحة العامة، بدل المصلحة الخاصة...
فالمسافر من أغشوركيت يقبل أن يدفع أضعاف التذكرة لأن هدفه شخصي، آني، همه أن يصل في الوقت المناسب، وليرحل بقية السكان كلهم إلى الجحيم، ضعيفهم، ومريضهم، وفقيرهم الذي لا يملك ثمن التذكرة..
أما المسافر من لمدن فمستعد لإلغاء سفره، أو تأجيله رفضا لزيادة غير مبررة، وتضامنا مع من لا يملكون ثمن التذاكر الغالية، وحرصا على مصلحة عامة مستمرة..
سكان لمدن مستعدون أن لا يستهلكوا اللحوم إذا كانت غير مرضيةٍ جودةً وصحة، ومستعدون لرفض شراء الخبز إذا لم يستجب للمعايير المطلوبة جودة، ووزنا..
لأنهم يتشاورون، ويعيشون بروح الجماعة، وإن اختلفوا في آرائهم، أما نحن فأشتات، بعضنا مؤمن باكتفاء عقلي خطير، مقتنع بعصمة رأيه، يعيش حرية شخصية مفرطة، وحالة غرور ورضى عن النفس خطيرة..
فالتاجر سلطة مستقلة يبيع ما يشاء بما شاء..والناقل سلطة مستقلة يحدد ثمن تذكرة الركوب بما شاء متى شاء..والجزار سلطة مستقلة يمنح الخصية والفرسن هوية(لحم الفلكه) كما يشاء، والخباز سلطة حرة يصنع من الخبز أحجاما، وأشكالا كأرجل النمل وسيقان الجراد المحروقة كما يشاء، إلا من حفظ الله من هؤلاء جميعا...

رحم الله الصالح المصلح الشيخ أحمد محمود ولد الغلاوي، كان درعا واقية من المضاربات، والانتهازية، والتلاعب بالأسعار...كان يثبت أسعار اللحم، وأسعار النقل، وأحجام الخبز وأشكاله..ويسعى في غير هذا من الحفاظ على سلامة الناس. وحماية المرافق العامة....

اليوم ظهر أمر خطير يضاف إلى ما ذكرنا سابقا، فقد أصبح المضارب يتقوى بطائفته السياسية، ورئيس حلفه، ويستطيع أن يفعل ما يشاء دون التفات، لأن انتماءه السياسي يمنحه الحصانة من دعوات الإصلاح، ويقنع حلفاءه السياسيين أن استهدافه عقوبة على انتمائه، وأنه استهداف لمنتسبي حلفه جميعا، والحلف السياسي يحرص على أن لا يخسر منتسبا ولو جلب ذلك ضررا عاما..
وهكذا تغيب المصالح العامة بين الأهوية، والأمزجة السياسية الدوارة دوران كراسي الحلاقين.