تطوُّع أمْ تَحايل؟. ......ا

جمعة, 13/12/2024 - 07:30

الراصد : التّطوع التزام هادف، يعزّز المواطنة، ويقوي المشاركة المدنية للفرد.. 
عرفنا بعض التجارب الجمعوية المدنية، صعودا للنجاح وهبوطا للفشل، لكنها تراجعت عموما لصالح الموجة الجديدة، والتي يقع التركيز فيها على العون المباشر للأشخاص (الفقير، المريض..) وليس على تحسين وسائل العون (المشاريع، البنى التحتية الصحية والاجتماعية) وهو ما يقلل من تأثيرها البعيد ويعقِّدُ مهمة الرقابة.

نعرف في وقتنا هذا حالة انفجار مريب في عالم العمل التطوعي، ..كَمٌّ هائل من الجمعيات المعلومة والمجهولة، و الفِرَق والتكتلات والقوافل، و"تَلَتُوهات" التحصيل الرقمي، إلى فيديوهات وصوتيات الاستعطاف التي تكسر القلب باقتناص الشعور الإنساني والديني.. 
عرفنا الظاهرة الأولى منذ سنوات ولا تحتاج لكثير من التفكيك، فمعلوم أنها تُساس أغلب تَشعُّباتها من قبل تيار بعينه وبكل شُعبه التي من مَحاسنها أنَّها لا تتصادق إلا مع نفسها،.. ومعلوم أنَّها كانت وما تزال نشاطا كامل الأهلية في الاقتصاد السياسي الديني، بزنس كبير، له منافع طويلة الأجل ومكاسب مالية وعاطفية ثابتة في الزمن.. ولا يظهر منه إلا رأس جبل الجليد، بعضها كان ولا زال يستخدم داخليا، أما جديدها فإجراء تحويلات هائلة قُدَّت من قوت المواطنين،  قبائل ومجتمعات باسم العون والتطوع من بلد فقير إلى بلدان أخرى! .. ذاك لاهي انخلوه اعل زر، فهو عمل سياسي محسوب ومؤطر ولا نملك حيَّاله حق القلق، لأن الاعتراض عليه ردة أخلاقية ومعنوية يترتب عليها حد الجلد باللسان والبنان مادام وُضع في قالب الجـ.هاد والانتصار لإخوة الدين!.. 

 لنقلق إذن في حدود المسموح لنا والمباح علينا، لنقلق من الظاهرة  المُوازية وغير المؤطرة، فحتى لو استفادت من بعض تقنيات الأولى في التحصيل خصوصا العامل الروحي، إلا أنها أمتع منها لأنها قائمة على التحايل الفردي، وقد اختلط فيها الحابل بالنابل، وفيها من لم يَسمع أصلا بأصحاب الظاهرة الأولى.

سأقتصر هنا على جانب مد يد العون "الصدقة".
فالمُسلَّمُ به، أنَّ البلد يعيش حالة فقر مدقع، وأن فئات كثيرة لا تصلها وسائل العون الرسمية، وأنها لأسباب اجتماعية خارج منظومة التكافل الاجتماعي التقليدي الصلبة، وبحاجة لأنشطة هذه المنظمات. 
لكن المسلم به أيضا أنَّ الطمع جزء منَّا، وأنَّنا أمة تتغذى عليه، وبه خَلَقنا نخبة تتوارثه، و نخلق به اليوم قطاعا غير مصنف من «تطوُّع الطَّمع»، وقوده من زُمر شباب الصَّدريات الصفراء والبرتقالية، تَشْحتُ باسم المساكين لتتصدق عليهم ولتعتاشَ على صدقاتهم وذاك هو الدافع الأهم!،.. وإلاَّ كيف ينجذب هذا الكمّ الهائل تفضيلاً واقتصارًا نحو «تطوع الصدقة» بالذَّات دون غيره من أنماط التطوع؟!،.. ليجعل من نفسه جزء من بنية تُجيِّر أموال الزكاة وتشحتُ الخلايجة والتجار والمؤسسات، وتزرع صناديق التحصيل في الصيدليات والبقالات،.. وتتسول باسم أطفال السرطان عند مُلتقيات الطرق، وآخر صرعاتها الدوران على البيوت، «بابًا - بابا» ليُذَكِّروا الغافلين من أهلها بحق السَّائل والمحروم في أموالهم .. هل يليق هذا التحفيز المُخجل على العالة ومد اليد بشبابنا بناة مستقبلنا!..
لأسباب شخصية أمضيتُ فترة من رمضان سابق أتردَّدُ مساء على مستشفى أمراض القلب القديم، وقت الزيارة، وكان فضولي يتبعني، لاحظتُ اجتياحا كثيفا لفرق من الشباب تترى في شكل موجات، بصدريات ملونة، تحمل عشرات الألقاب توزع إفطار الصائم، ووقفتُ على التالي: التوزيع فوضوي، مصحوب بصخب المراهقة والتجاذب اللفظي مع المرضى ومرافقيهم حول التصوير الدعائي، التركيز على الغرف القريبة من المدخل وإهمال البقية، الإفراط في التوزيع يوم الجمعة لدرجة تكدس الأطعمة في الممرات في بَطرِ أُمَّة الفقر.. وغياب تام للتوزيع في بعض الأيام.. وفي الساحة سيارة تحمل لافتة طبع عليها علم الإمارات وعبارة "عملية إفطار الصائم" ، فيها سيواتْ من ازريگ وشمن امبورو...مَلْحُوهُم!

الانطباع: أنَّ العملية سطحية، مظهرية، غايتها الأولى تبرير تمويلٍ مَّا كيْفَما اتَّفق، والحصيلة: أنَّ صناعة العمل التطوعي في بلدنا ليست صناعة من خواء، بل بعضها عن وعيٍ سياسي واعلامي وانتخابي وفيه الحسنات مقابل الأصوات،.. وبعضها عن وعي منفعي حتى لو غُلِّف بِحسٍّ ديني وفيه الحسنات مقابل العائدات.
تحصيل هذه الجماعات ذكيُّ الاستهدافِ ومنهجيٌّ جدًّا،.. مثلاً، يتم جذب بعض سيدات المجتمع العلوي بفرز دقيق: تاجرات، زوجات أثرياء أو موظفين كبار، تجمعهن أنماط من الفراغ وضعف الزاد المعرفي بل الجهل المزمن أحيانا، والإحساس بالذنب من الغفلة وفرط الانشغال بالدنيا ومغريتاها، ومتعطشات لتقديم كفّارة من الوقت والمال ... يبدأ الاستقطاب بحلقات دعوية وتعليمية في بيت من بيوتهن، ستتبدَّى الدروس لاحقا من خلال الإيحاءات أنها مجرد ترغيب مدروس في الإنفاق على أعمالٍ منَ البرِّ تُشبع حاجتهن لتقمص أدوار الخير،.. فتفتح لهن الجمعية منفذا إلى الله، ووساطة مع "صلاح الدَّارين"!.. 
بالمناسبة لبَّيتُ مرة دعوة لحضور درس من حلقات (الدعوة-التعليم) من باب الفضول، وفي جوٍّ "اكلاسْ" كانت السيدة المُحاضِرة "مُعتاده حتَّ" لغة وأسلوبا ومعرفة،.. لكنها للأمانة بارعة في مجالها، فقد أوصلت قلوب البطرونات المعدنية لحدِّ الحشرجة والنشوة الروحية، ببعض البكائيات التراجيدية التي تَمازج فيها الخيال بالأسطورة بعذاباتٍ من قصص الفاقة لساكنة الأحياء الهامشية.. طبعًا، تُخلق نجومية هاته "المُحاضِرات" ضمن مقاييس بهرجة نجوم وسائل التواصل الاجتماعي في هذا الميدان ويلقبن الشيخة فلانة والشيخة علاَّنة.
لا نستغرب إذن نَشر غسيل العمل الخيري، وشجاراتهم العدوانية، التي تخذل كل من أعطى والتقى،.. ومن الحُسنى محاسبتهم على تصرفاتهم في الودائع، وعلى خيانة الأمانة لصالح التربح الشخصي، فهذا حق عام تجب حمايته ..
 
من أطرف ما حصل معي ذات حضور لهذا الزَّيف، أنْ وزَّعت المشرفات علب اكيلنكس تحضيرًا لبكاء الحاضرات بعد كسر قلوبهن، اعتذرتُ عن أخذه، فليس في نيتي أصلا مشاركة كورال البكاء، ولا حتى التطوع بفلس، وضحكت كثيرا من برمجة التَّأثر الروحي... عوالم غريبة.

تحياتي.