الراصد : ليست مصادفة أن يثور نقاش حول قضايا هذا الوطن عقب عملية سياسية أجهزت على الكثير من آمال حل الأزمة متعددة الجوانب التي نشهدها في هذا البلد الذي ينجرف بسرعة مخيفة نحو هاوية سحيقة من اللا يقين بشأن المصير..!
ومن المطمئن أن مثير هذا النقاش هو شاب وطني، ومثقف عضوي مميز: المهندس محمد ولد جبريل.
ولكن ما طرحه من أفكار مهمة يثير عدة إشكالات:
أولا: لماذا قضية الحراطين؟
ماهي قضية الحراطين؟
التهميش، الاستغلال، الفقر، الجهل، المرض، قتل الأمل..؟
أليس هذا ما تعاني منه الغالبية العظمى من هذا الشعب؟
ولماذا تصبح هذه قضية الحراطين وحدهم؟ وأين الفئات الأخرى: بيظان وزنوج؟
لا أحد ينكر أن الحراطين خضعوا لمظلومية تاريخية لا تزال تلقي بظلالها، وتجعلهم أكثر الفئات المهمشة غبنا، ولكن لا أحد صار بإمكانه تجاهل اتساع مساحة الغبن والتهميش والذي لا تسلم منه فئة أو مكون عرقي، وذلك بسبب استئثار التحالف: العسكر / التجار/ النافذون الاجتماعيون بكل خيرات هذا البلد.
ثانيا: النظرية الفكرية لقضية الحراطين؟
على عكس صديقي جبريل فإنني أتلمس مواطن فكرية في النضال الحالي لبعض الجهات والتي ترفع قضية الحراطين، وربما يعتقد صديقي أن هذه الجهات تناضل من منظور حقوقي بلا خلفية فكرية، ولكنني سأحاول أن أعطيه مؤشرات على أن فكرا شوفينيا عنصريا حارقا بدأ يطبع مسار نضال البعض من هؤلاء؛ وأول ما أبدأ به وهو التجرد من أي التزام تجاه كل قضايا الاستغلال والتهميش للأعراق الأخرى، والتنسك في قضايا تهميش الحراطين واستغلالهم وتفقيرهم وتجهيلهم وغض الطرف عن نفس القضايا لدى الأعراق الأخرى.
إن نظرة "الأغيار" التي بدأت تتشكل في تفاصيل الحياة اليومية نتيجة هذا التأطير الفكري الممنهج لدى الحراطين، وهي نظرة قد لا تخصهم وحدهم، فلكي أكون أمينا تتوفر لدى البيظاني عندما يقدم خدمة معوضة لصاحب عمل زنجي أو حرطاني، أو مقدم خدمة زنجي تجاه الأعراق الأخرى، ولكنها أصبحت ملموسة بشكل لافت في العقد الأخير باستثناءات محدودة لدى الأمناء النزيهين.
ينضاف إليها تلك التصرفات التخريبية للمتظاهرين كلما سنحت الفرصة، بسبب النقمة العرقية والشعور بالغبن، وحتى أعمال الانتقام التي تتجسد في السجون، والتي يروح ضحيتها حراطين لقوا أنفسهم - بسبب غبن وإهمال المجتمع - سادة الكارتلات المنظمة في السجون، فيعمدون إلى الانتقام من أي زائر للسجن من العرق الملعون (البيظان)..!
ثم إن هذه الرشحات "الفكرية" العنصرية تتبلور لدينا، بوعي أو بدونه، عندما نتوهم أن هناك عرقا مخلصا سيكون عليه تحمل العبئ التاريخي بجعلنا (جميعا) نعيش فجأة في ظل دولة وطنية لا غبن فيها ولا تمييز ولا إقصاء..!
ثالثا: إعادة إنتاج البنية
إن محاولة سك هوية عرقية/ ثقافية مختلفة عن المجتمع المستعبد للحراطين والتعسف في إيجاد مميزات ثقافية خصوصية بعيدا عن ذلك المجتمع المستبد هي سمة مميزة حاولت حركة نضال الحراطين خلال العقدين الأخيرين، وأنا- وإن كنت أقر بخصوصية ثقافية للحراطين، ولكن داخل إطار ثقافة مستعبديهم من البظان - أعتبر تلك المحاولة تعويضا نفسيا، ومؤشرا على الانكسار تجاه الظلم التاريخي للحراطين، إذ أن مؤداها سيكون في أحسن الأحوال ترميما للبنى الاجتماعية التقليدية، وليس محاولة تقدمية تحل المشكلة جذريا، فما الذي سيتغير فعلا عندما تكون للحراطين هوية ثقافية خصوصية، وما الظلم الذي سيختفي عندما تكون لهم قبيلة يهنأ أفرادها ممن لديهم حظوة لدى النظام عندما يستوزرون، أو يتم الكف عن نقدهم بسبب أنهم حراطين فقط..؟!
لعل ذلك ما عناه انجلز عندما قال: "إن الذين ينتقدون الفلسفة يقعون في أسوأ فلسفة".
رابعا: النضال للإنسان المهمش
إن أي نضال لفئة معينة أو عرق أو شريحة سيكرس التمييز بطريقة أو بأخرى، ولن يكون مآله في النهاية سوى المحاصصات، وأي نضال لا يستحضر تكافؤ الفرص لجميع المواطنين، وتقديم معايير الاستحقاق والكفاءة على الوجاهة والاعتبارات الخصوصية هو نضال يعزز البنية السائدة، ويسعى لتغيير شكلي.
تحياتي...
عن مجموعة التحرير الواتسابية