الراصد : قبل فوات الأوان...
ميثاق لبناء المستقبل
نداء لجميع الموريتانيين
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد بات من الواضح، في نهاية ولاية رئاسية خصص معظمها لإعلانات لم تتجسد على أرض الواقع أن النظام الحالي، لا ينصبُّ جل اهتمامه إلا في إرضاء الوجهاء والنخب الفاسدة، إذ لم يعد باستطاعته إحداث القطيعة التي كان يتطلع إليها الشعب الموريتاني ولا يبدو أنه قادر على خلق ديناميكية تحقق تلك الشعارات المعلنة بسبب غياب الرؤى والبرامج الحقيقية، فضلاً عن وجود حكومة تفتقر إلى الجدية والحماس اللازمين لخلق طفرة تنهض بالوطن، بينما يقتصر طموحها على مواصلة النهج الذي سبقها في الوقت الذي استفاد فيه هذا النظام عند توليه للسلطة سنة 2019 من انطباع إيجابي يعكس تفاؤلا بتغيير في نهج الحكم،
بيد أن الأمور تدهورت بشكل كبير خلال الخمسية الأخيرة، فباستثناء بعض الإجراءات الرمزية، لم تكن هناك إنجازات ملموسة تذكر. والأسوء من ذلك أصبح قدرة رئيس الجمهورية وحكومته على التحرك لمعالجة الأوضاع موضع تشكيك من لدن كثيرين. ويغذي هذا التصور عدم كفاءة الحكومات المتعاقبة، التي أثبتت عجزها عن تجسيد التزامات الحملة الانتخابية 2019 في مشاريع واقعية كبرى باستطاعتها انتشال البلد من المأزق الذي يتخبط فيه، كما عجز أيضًا عن إحداث القطيعة المطلوبة مع أباطرة الفساد المالي والاداري والسياسي المتصدرة للمشهد من الأنظمة السابقة، حيث ظلوا هم المستفيدين م هذا الوضع القائم.
لقد ساهم هذا الفشل في انتشار الإحباط واليأس بين المواطنين، الذين أصبحوا يميلون للنزعات الضيقة، بسبب الشعور بالحرمان والغبن والتهميش وفقدان الأمل في قدرة النظام على القيام بالإصلاحات المطلوبة.
في المقابل، يستمر بعض الفاعلين السياسيين في الترويج لخطاب يحرض على التفرقة، وهذا أيضا يزيدنا بعدا عن حلم الإصلاح والاستقرار المنشودين، وتجعل هذه الظاهرة مستقبل البلد في مهب الريح، حيث لم يعد المواطن يثق في جدوى الانخراط في القنوات السياسية الحزبية التي تعمل في إطار الشرعية كسبيل لتحقيق التغيير الذي يطمح إليه، في ظل تسارع وتيرة الفساد وضعف المعارضة التقليدية بل غياب دورها التوعوي في تأطير الشارع، بالإضافة إلى ذلك، تُظهر عدةُ مؤشرات وجودَ نقمة كبيرة ضد النخب وكذلك إحباطا عميقا بسبب سياسات النظام الرامية إلى كسب الرهانات الانتخابية عبر شراء الذمم وضمان ولاء الوجهاء والمفسدين وتوزيع الامتيازات والوظائف بينهم، وغض الطرف عن الفساد الذي يذهب جزء كبير من ريعه في تدجين النخبة وشراء الولاء على حساب التنمية والاستجابة لتطلعات المواطنين. فلم يعد الشعب، خاصة الفئات المهمشة، يستطيع التحمل والصبر أكثر، في ظل تراكم المظالم. ففي الوقت الذي وصلت فيه خيبة الأمل إلى ذروتها، تزداد الفجوة بين المطالب الشعبية وضعف مستوى الأداء الحكومي وتتسع الهوة بين النخبة المتمسكة بنهجها والغارقة في امتيازاتها وغالبية المواطنين الذين يكافحون من أجل لقمة العيش التي يتطلبها البقاء..
أزمة طموح
يتغذى الاستياء من التأثير المتراكم لارتفاع الأسعار، وتدني الأجور، مع استشراء البطالة والفقر والفساد الذي يبدد موارد الدولة، ناهيك عن ضعف ولوج المواطنين إلى الخدمات الأساسية، من ماء وكهرباء وصحة وتعليم، وذلك حتى على مستوى العاصمة نفسها. ومما يزيد من نقمة المواطن كون الدخل القومي للبلد تضاعف خلال عقد من الآن (2010-2022) ليفوق عشرة مليارات دولار، وهو ما يجعله ضمن قائمة الدول ذات الدخل المتوسط، دون أن يواكب ذلك أي تطور في البنية التحتية أو في الخدمات العامة داخل البلد. ونتيجة لذلك، لا يزال جزء كبير من السكان لا يتمكنون من الوصول إلى الخدمات الأساسية، بما فيها الماء والكهرباء حتى في العاصمة نواكشوط. ويعود جزء كبير من هذه المشاكل إلى تأثير الفساد، وغياب رؤية تنموية طويلة المدى، فضلا عن عدم التخطيط، وبطء تنفيذ البرامج الحكومية وكذلك إلى رفض القطيعة مع مسالك الفساد وكذلك غياب الجدية في قطع دابر المفسدين..
لقد فشل هذا النظام طيلة الحقبة الرئاسية المنتهية في مواجهة التحديات التنموية، متذرعا تارة بآثار جائحة كورونا وتارة بتبعات حرب أوكرانيا، حتى أصبح العمل الحكومي يقتصر على تصريف الأعمال، دون رؤية جادة، مكتفيا بإعادة إنتاج نموذج حكامة مبني على تدوير المفسدين وتمكينهم من مفاصل الحكم وتوزيع غنائم الدولة على أساس المحاصصة والزبونية، حيث تميزت نشرات الإعلام الحكومي خلال هذه الفترة بمضاعفة أخبار حفلات وضع حجر الأساس وتقديمها كإنجازات مهمة، رغم عدم تنفيذ أي مشاريع بنيوية من شأنها إنقاذ البلد من وضعه الراهن. كما لجأ النظام، في سابقة خطيرة تعبر عن تراجع واضح في احترام الحريات، إلى تبنى ما سُمي بقانون الرموز، الذي يهدف إلى تكميم الأفواه ومنع المواطنين من حقهم في التعبير عن مواقفهم من السياسات الحكومية في بلدهم. اذ يسلط القانون المذكور الضوء على الهوة بين شعب يطالب بحماية حقوقه وتحسين ظروفه الحياتية، ونخبة حاكمة تطمح لحماية رموزها بدل الإستجابة لتطلعات المواطنين.
هذه المعادلة لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، حيث لا بد من خلق ديناميكية للإصلاح تبعث الأمل في النفوس، خاصة أن كل المؤشرات توحي أن فئات واسعة من المجتمع، وفي مقدمتها الشباب، بدأت تصاب بالإحباط نظرا لإنعدام الآفاق. وفي هذا الصدد، يعتبر ازدياد أعداد الراغبين في الهجرة وانتشار الخطابات الشعبوية والعدمية، مؤشران يستدعيان القلق. فإذا اقتنع الجيل الصاعد بأنه لم يعد له مستقبل في وطنه وأن العنف هو السبيل الوحيد للتغيير، فمآل البلد سيصبح لا محالة في مهب الريح..
مشروع التغيير
هذه الظروف تملي علينا اليوم الانخراط في مشروع يهدف إلى إنقاذ البلد، نظرا لإخفاق الحكومات المتعاقبة في تنفيذ سياسات تنموية ناجعة وفي ظل الإحباط السائد بين المواطنين. فلم يعد ممكنا ترك البلد بين أيادي هذه الطبقة الحاكمة الغارقة في الفساد والضالعة فيه, كما أنها تعاني من أزمة طموح، حيث يقتصر أُفقُها على إدارة الأزمات وتصريف الأعمال.
إننا، كغيرنا من الغيورين على المصلحة العامة لبلادنا، نعتبر أن لدينا مسؤولية أخلاقية تجاه مستقبل هذا البلد، حيث لا يسمح لنا ضميرنا الوطني أن نبقى متفرجين بينما تسير الأمور نحو الهاوية. فنحن لا نرضى بأن نترك الدولة فريسة بين مخالب المفسدين ورغم ذلك لا نقبل بأن تصبح المشاريع الشعبوية بديلا مقبولا لقد أصبح ملحا خلق ظروف ملائمة للتغيير على أساس رؤية وطنية متكاملة تتجاوز تسيير الوضع القائم وتؤسس لمشروع شامل يسعى لتحقيق المواطنة وتكافؤ الفرص وتوزيع أكثر عدلا للثروة الوطنية، في ظل سيادة القانون
. ويتبنى المشروع مقاربة شاملة لإعادة تأسيس العقد الاجتماعي بمشاركة جميع الفئات على أساس مبادئ العدل والمسؤولية والمساءلة. كما يهدف إلى توحيد تطلعات الفئات الاجتماعية المهمشة وتعزيز العدالة الاجتماعية، من خلال مكافحة الإقصاء والتمييز وإيجاد حل توافقي للنزاعات العالقة التي تُقوض الوحدة الوطنية، بما في ذلك حل قضية ما يعرف بالإرث الإنساني وإدماج جميع المواطنين في سجلات الحالة المدنية.
ويجب، في هذا الصدد، أن نعمل على مراجعة الأولويات واستثمار المزيد من الموارد لتلبية تطلعات الفئات الأكثر هشاشة وحرمانا، خاصة شريحة الحراطين، للتخلص من رواسب الرق، من خلال برامج ضخمة وهادفة، تتناسب مع حجم التحدي. ويجب أن تستند هذه البرامج على استراتيجية متعددة الأبعاد للقضاء على هذه الممارسات المشينة وإعادة تأهيل ضحاياها لمعالجة المظالم الموروثة من الماضي وتعزيز التماسك الاجتماعي.
ينادي المشروع، الذي سيتم الإعلان عن مقترحاته المفصلة لاحقا، بضرورة إصلاح النظام التربوي الذي يشكل أساس أي نهضة وطنية. ذلك أن معدل النجاح الضئيل في امتحان البكالوريا خلال السنوات الأخيرة يشكل مؤشرا مقلقا بالنسبة لمستقبل البلاد، مما يتطلب التطوير العاجل لسياسة فعالة لتحسين جودة التعليم والرفع من قدرته على تكوين القوة العاملة التي تحتاجها الدولة لتنميتها.
كما يستدعي التغيير إعطاء الأولوية للشباب كفاعل أساسي في التنمية، عبر تطوير سياسة طموحة، تركز على خلق فرص العمل وتعزيز المواهب وتوسيع دائرة المشاركة. وستمكن هذه المقاربة من مواجهة البطالة والهجرة الجماعية اللتين تضربان الشباب وتشكلان تهديدا لمستقبل البلد.
وينبغي أيضا إيلاء نفس الاهتمام لتمكين المرأة لتتمتع بجميع حقوقها، لا سيما في المناطق الريفية.
نحن ندرك أن الطريق طويل للتأثير على نمط قيادة البلد، لكن النجاح وليد الطموح وروح المبادرة. فعلينا أن نغتنم الفرصة الراهنة، التي قد لا تتكرر وأن نتعلم من أخطاء الماضي وإخفاقاته.
الهدف خلق بيئة مواتية لبناء المستقبل، باعتبار السلطة وسيلة لتحقيق مقاصد سياسية واقتصادية واجتماعية وليست غاية في حد ذاتها, هذه الخطة تمر عبر تكاتف الجهود والعمل في الميدان لتوسيع الوعي على امتداد التراب الوطني وتعبئة الأغلبية الصامتة، التي عزفت عن المشاركة السياسية، من أجل إحياء الأمل، خاصة لدى الشباب، وتوحيد صفوف من يسعون لتصحيح المسار.
خيار الإصلاح
لقد اصطدمت حتى الآن المحاولات لتوحيد الأصوات المنادية للإصلاح بالمطالب الفئوية التي تؤلب الموريتانيين ضد بعضهم البعض، وتصنفهم حسب الانتماء الاجتماعي والعرقي. ذلك الخطاب يصب في مصلحة استمرار الوضع الراهن ويؤخر أجل التغيير، نظرا لرفضه من طرف الأغلبية الصامتة ولحظوظه المحدودة في تحقيق الإجماع. كما أن النظام يخشى نهجا إصلاحيا يوحِّد مختلف الفئات أكثر من مشروع شعبوي لا يمكنه أن يقدم بديلا مقبولا للجميع، إذ أن الفشل في توحيد مطالب التغيير من خلال مقاربة شاملة هو ما أضعف حتى الآن الجهود للتغلب على منطق الهوية والانتماء واستبداله بمشروع يستجيب لتطلعات الجميع وقادر على إحداث التناوب السياسي.
لم يعد الحد الفاصل اليوم يفرق بين المعارضة والموالاة، وإنما بين المصلحين والمدافعين عن استمرار الوضع القائم. هذا الخط يمر الآن داخل صفوف المعارضة والنظام، كما يفصل في المجتمع بين المستفيدين من الفساد ومن يتوقون للتغيير. لذا فمن الضروري توحيد جهود دعاة الإصلاح لإستبدال النخب الفاسدة، والتي ما دامت في السلطة لن يحدث أي تغيير، بنخب جديدة، تحمل أفكارا وقيما بديلة وتضع خدمة المواطن فوق كل اعتبار. ويتطلب هذا الهدف تكوين كتلة وازنة من المصلحين، مستعدين للعمل على المدى الطويل لإحداث التغيير المطلوب، تتكون مبادرتنا من نساء ورجال مدركين لحساسية الموقف، ويملكون الكفاءة والشجاعة الضرورين لمواجهة العقبات وإحياء الأمل.
في هذا الصدد وإيمانا بضرورة القطيعة مع أساليب الماضي من فساد وزبونية ومحاصصة، قررنا إطلاق إطار جديد للتفكير والعمل لبناء المستقبل المنشود، ندعو الغيورين على مصلحة البلد إلى الالتحاق به والمشاركة في إنجازه. كما نتوجه إلى كل من يحلمون بدولة قوامها العدل والمساءلة ويوافقهم هذا النهج للمساهمة الفاعلة في هذه المبادرة.
بلدنا لا يحتاج بالضرورة إلى زعيم مُلهمٍ بقدر ما يحتاج مشروعا جماعيا، قادرا على كسر الجمود والخروج من دائرة الاستقطابات الاجتماعية لتعبئة الموريتانيين لإستئناف عملية البناء واستعادة قدرة الدولة على الاستجابة لتطلعاتهم..
تمر بلادنا بلحظة دقيقة من تاريخها المعاصر، حيث تواجه تحديات تنموية كبيرة وتستعد لدخول مرحلة استغلال الغاز، وهي مرحلة لا تتلاءم مع التردد والمجاملات، بل تستدعي خيارات حاسمة ومقاربة طموحة للتعاطي مع التحديات والاستفادة من الفرص، مما يتطلب قطيعة مع ممارسات الماضي، وتأسيس نظام حكامة رشيدة ، مبني على مشاركة الجميع وعلى الشفافية والمساءلة حتى لا تعصف تداعيات اليأس والقنوط باستقرار البلد.
اليوم أكثر من أي وقت مضى، علينا أن نتدارك الأمور قبل فوات الأوان