الراصد: توفي مؤخراً الفيلسوف الأرجنتيني المكسيكي ذو الأصول الأوروبية «أنريك دوسل»، أحد أهم فلاسفة نقد الكولونيالية و دعاة أخلاقيات التحرر التي تشكّل المحور الفلسفي في الفكر اللاتيني الأميركي.
ما نلمسه لدى دوسل هو المزج بين الفلسفات التفكيكية في نقدها للذاتية والوعي و التاريخانية والنظريات ما بعد الاستعمارية في أميركا الجنوبية التي سلكت نقد المركزية الغربية من حيث سردية الحداثة الكونية. ولا تبدو الرابطة بديهية بين الاتجاهين، ففلسفات ما بعد الحداثة في نسختها الغربية هي نتاج و أثر السيرورة الفلسفية الاجتماعية الغربية نفسها، في حين أن النظريات النقدية للكولونيالية تندرج في نطاق البحث عن حداثات و كونيات بديلة خارج هيمنة النماذج الفكرية والتاريخية الغربية.
و مع ذلك لا يمكن الفصل بين المسارين، بل إن التيار ما بعد الكولونيالي يتغذى أساساً من الأفكار التفكيكية التي قوضت المرتكزات المرجعية للحداثة الأوروبية، إلى حد أنه أصبح من المشروع التساؤل عن مدى أصالة و طرافة نقد المركزية الغربية في الأطروحات و المقاربات الجنوبية التي ترفع شعار القطيعة مع الهيمنة الغربية. في سياقنا العربي الإسلامي، برز التيار النقدي للغرب في كتاب المفكر الإيراني جلال آل أحمد (المتوفى سنة 1969) «نزعة التغريب» الذي اعتبر فيه الثقافة الغربية «وباء» يستهدف الروح و العقل و يؤدي إلى الاغتراب و الاستلاب.
و لقد تأثر في هذا الكتاب بأفكار الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر في نقده للتقانة وثقافة الاستهلاك وطغيان العلم كرؤية للوجود و العالم. و مع أن النظرية التفكيكية دخلت مبكراً في الحقل الثقافي العربي، فإنها ظلت أساساً حبيسة الدراسات النقدية و اللسانية، و لم تتأسس عليها أطروحة نقدية للمركزية الغربية في أبعادها الفلسفية و التاريخية.
و نلمس هنا فرقاً كبيراً مع الفكر الإفريقي الذي ساهم مساهمة هامة في النظرية النقدية للكولونيالية منذ فرانتز فانون في الستينيات إلى أشيل بمبة و فلوين صار في الوقت الراهن.
ما نعنيه بنقد الكولونيالية ليس النقد الأيديولوجي السائد في الأدبيات العربية المعاصرة، بل أوجه الحفر و النظر في سيرورة الكونية الحداثية الأوروبية في مقوماتها الفلسفية و المجتمعية و التاريخية.
لقد تم هذا التوجه في الفكر الأفريقي واللاتيني الأميركي من خلال أسئلة ثلاثة كبرى: أولاً، هل يمكن التفكير في نمط من الحداثة خارج نموذج الوعي الذاتي بما يقوم عليه من مرجعية مغلقة على الهوية التأملية و الإرادة المطلقة؟ لقد بينت الأبحاث التأريخية للفلسفة أن هذا النموذج له خلفياته اللاهوتية الخاصة بالعصر اللاتيني الوسيط ولا يشكل قطيعة فكرية كونية، بل إن اتجاهات فلسفية كثيرة معاصرة تسعى إلى تجاوزه و تعتبر أنه براديغم عقيم و فقير. بيد أن هذا النموذج هو الذي كرس في الآن نفسه قيم الحرية والإرادة الفاعلة و المسؤولية الشخصية التي هي مرتكزات الحداثة السياسية..
فكيف يمكن استيعاب هذه القيم خارج نموذج الوعي؟ ثانياً، كيف يمكن بلورة مقاربة تاريخية بديلة عن نزعة التقدم الغائي التي طبعت الفكر الأوروبي الحديث في تمديده لمسار المجتمعات الغربية بصفته قانون تطور البشرية الكوني؟
ما نلمسه لدى الفيلسوف المشهور هيغل هو بناء فلسفة لتاريخ الإنسانية تنطلق من محطات الوعي (الأوروبي) من الكونية المجردة إلى الذاتية الواعية انتهاءً بالدولة الشمولية المطلقة التي هي مرحلة اكتمال التاريخ و غاية التحرر الإنساني في قمته المطلقة. لقد وجهت النظريات الجديدة ضربة قاصمة لهذا النموذج التاريخاني، و أفسحت المجال أمام قراءات بديلة لتاريخية المجتمعات غير الغربية، خصوصاً في علاقاتها بشكل الدولة المركزية و الديناميكيات الأهلية، بما يدعم النظرية ما بعد الكولونيالية.
ثالثاً: كيف يمكن التفكير في علاقة مختلفة عن مسار الحداثة الأوروبية بين الدين والمجال المدني، باعتبار أن مسار العلمنة القانونية والاجتماعية شكّل حسب عبارة عالم الاجتماع الأميركي «بيتر بيرغر» استثناءً أوروبياً خالصاً. في المجتمعات الهندية واللاتينية الأميركية، بل في الولايات المتحدة الأميركية نفسها، يشكل الدين محور الهوية الاجتماعية وأرضية القيم المدنية المشتركة.
و من ثم فإن استغلاله الأيديولوجي هو في نهاية المطاف نمط من نزع القداسة عنه وتحويله إلى محور تصادمي في المجتمع بدل أن يكون عامل التحام و تضامن كما هو الواقع في التجربة التاريخية الإسلامية قبل نشوء الحركات المتطرفة والمأدلجة.
في أميركا الجنوبية ظهر تيار «لاهوت التحرر» الذي هو أحد تجليات الفكر ما بعد الكولونيالي، و في أفريقيا جنوب الصحراء بلور عدد من الفلاسفة أطروحة «الأخلاقيات المقدسة الحيوية» مرتكزاً للسلم المدني و الأهلي. أما الفكر العربي فما يزال غريباً عن هذه الاتجاهات والآراء.
أ.د السيد ولد أباه / مفكر موريتاني.