الراصد : لقد أظهرت تجربة العقود الثلاثة الماضية؛ أن الإختلالات الجوهرية التي صاحبت تجربة الانتقال الديمقراطي في موريتانيا؛ أدت إلى انحراف عميق للممارسة الديمقراطية في هذا البلد؛ فبدل أن تقود تجربة الانتقال الديمقراطي إلى تعزيز البناء المؤسسي للدولة الموريتانية؛ أدت تلك التجربة إلى هشاشة وتآكل ما كان موجودا من مؤسسات على ضعفه أصلا ؛
وبدل أن تقضي على البنى التقليدية المناقضة لوجود الدولة؛ أعادت إحياءها وتقوية حضورها في الحياة العامة؛ فازدهرت القبلية وأصبحت السلطة الحاكمة تتعامل بشكل رسمي مع الزعامات القبيلة؛ وحولتهم إلى وسطاء بين الدولة والمجتمع؛ وأغدقت عليهم بالامتيازات؛
وبدل القضاء على التفاوت الطبقي؛ زادت الهوة بين فئات المجتمع وتعمق التفاوت الطبقي؛ وأصبح الخطاب الشرائحي التحريضي؛ هو المسيطر على المشهد السياسي؛ وزعماؤه ينشر لهم السجاد الأحمر وتتم مكافأتهم بالمناصب السياسية؛
وبدل تعزيز الوحدة الوطنية وتحقيق الاندماج الاجتماعي؛ توسع الشرخ بين مكونات المجتمع؛ وأصبحت السلطات تتعامل مع أصحاب الخطاب العرقي العنصري؛ بوصفهم زعماء وطنيين؛
وبدل إعتماد الكفاءة والنزاهة في إختيار موظفي الدولة ومسؤوليها السامين؛ حلت المحسوبية والزبونية وسياسة الترضيات؛ في التعينات العمومية محل الكفاءة والنزاهة والأمانة؛
وبدل النزاهة والشفافية في الحياة العمومية؛ تعمق الفساد وأصبح بنيويا تديره أعلى سلطة في الدولة؛ وصار رموز الفساد؛ يتقدمون الصفوف ويتصدرون المشهد السياسي؛ بل هم "الزعماء" في نظر العوام من الناس؛ لما يمتلكون من وسائل الدولة؛ ولما يتمتعون به من حظوة لدى رأس السلطة في الأنظمة المتعاقبة خلال العقود الثلاثة الماضية؛
وبدل أن تكون الأحزاب السياسية هي العمود الفقري للعمل السياسي وأداة لخلق الوعي في صفوف المجتمع؛ أصبحت أداة للفساد وتكريس الخطاب العرقي والشرائحي والقبلي.
موريتانيا اليوم دولة تتشظى وتتحلل مؤسساتها وتتآكل ماديا ومعنويا وتتراجع على كافة المستويات؛ بفعل سوء تدبير الشأن العام؛ الذي صاحب وصول العسكر إلى السلطة وظل يتعمق مع الأنظمة المتعاقبة على السلطة؛ إلى جانب ما تواجهه من تحديات حارقة؛ صلبة وناعمة؛ وما يتهددها من مخاطر جيوستراتيجية في عالم مضطرب؛
وما لم تتم معالجة الإنحرافات التي صاحبت تجربة الانتقال الديمقراطي؛ بصفة جدية وعاجلة؛ والتي تعززت مع الزمن؛ خلال العقود الماضية؛ ستتحول موريتانيا إلى دولة فاشلة على غرار نظيراتها في منطقة الساحل والصحراء؛ والتجربة اللبنانية والعراقية في المنطقة العربية؛ التي أنتجتها المحاصصة؛ ليست عنا ببعيد ؟