الراصد : الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
السياق
توجه الخطاب الشرعي العام؛ تتساوى فيه المرأة مع الرجل، ويتمايزان في خصوصية التكاليف الجزئية، بحسب الحقيقة الجبلية لكل منهما، رحمة من الشارع الحكيم بالمرأة، دون حظر للقيام بدورها في بناء الأسرة على وجه المكارمة، والمحافظة على كيان المجتمع بطريق الاحترام المتبادل، والمساهمة في تدبير الشأن العام، والنظر إليها باعتبارها شخصا مؤهلا لحمل أمانة الدين، والقيام بالمهام على سبيل المفاعلة..
وقد بين ذلك بيانا وافيا في نصوص الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة؛ رفعا للإبهام وجلاء للأفهام، وإن كان ثمة دخن في المسألة؛ فمصدره الإبتعاد عن المنبع الصافي للمنهج الشافي، أو بعد الشقة عنه، وكذا اختلاف السياق التاريخي لنشأة صنوف التأويل وألوان الأقاويل..
إن الأمة الإسلامية كلها في ميزان حسنات امرأة، صدقت إذ كذب الناس، وأعانت بمالها إذ منع الناس، إنها أمنا أم المؤمنين خديجة بنت خويلد عليها السلام؛ عن عبدالرحمن بن أبي ليلى:(( أنَّ جبريلَ كانَ معَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بحراءٍ فجاءت خديجةُ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يا جبريلُ هذِه خديجةُ فقالَ جبريلُ عليهِ السَّلامُ أقرئها منَ اللَّهِ السَّلامَ ومنِّي)). الشوكاني، در السحابة، [مرسل] إسناده رجاله رجال الصحيح، أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف»، والطبراني في «الكبير» باختلاف يسير.
من ثبتت وآوت ونصرت وأنفقت، كان مالها البلسم الذي خفف وطأة الحصار في شعب بني هاشم، وهي امرأة تاجرة – رضي الله عنها- تعمل وتكسب المال وتعامل الرجال.
قد يقول قائل كان ذلك في صدر الإسلام والمسلمين في ضعف وحاجة، إليك الدليل من السنة القولية لخير البرية عليه الصلاة والسلام، والمتن والسياق شاهدين والثناء على المواساة بالمال من غير مين، والحديث في الصحيح؛
عن عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها-:
((كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا ذكَرَ خَديجةَ أَثْنى عليها، فأحسَنَ الثناءَ، قالت: فغِرْتُ يومًا، فقُلْتُ: ما أكثرَ ما تذكُرُها حَمراءَ الشِّدْقِ، قد أبدَلَكَ اللهُ عزَّ وجلَّ بها خَيرًا منها، قال: ما أبدَلَني اللهُ عزَّ وجلَّ خَيرًا منها، قد آمَنَتْ بي إذ كفَرَ بي الناسُ، وصدَّقَتْني إذ كذَّبَني الناسُ، وواسَتْني بمالِها إذ حرَمَني الناسُ، ورزَقَني اللهُ عزَّ وجلَّ ولَدَها إذ حرَمَني أولادَ النِّساءِ)). أخرجه البخاري، ومسلم بنحوه مختصراً، وأحمد واللفظ له.
إن السياق التاريخي لنشأة الاحتفاء باليوم العالمي للمرأة، سياق مغاير من حيث المبدأ لما كانت عليه الحال في المجتمعات المسلمة التي احتفظت ببقية من المروءة إلى عهد قريب،
حيث خرج آلاف النساء سنة 1856م، للاحتجاج في شوارع مدينة نيويورك على الظروف اللا إنسانية التي كن يجبرن على العمل تحتها،
وفي 8 مارس 1908م عادت الآلاف من عاملات النسيج للتظاهر من جديد في شوارع مدينة نيويورك لكنهن حملن هذه المرة قطعاً من الخبز اليابس وباقات من الورود في خطوة رمزية لها دلالتها واخترن لحركتهن الاحتجاجية تلك شعار «خبز وورود». طالبت المسيرة هذه المرة بتخفيض ساعات العمل ووقف تشغيل الأطفال ومنح النساء حق الاقتراع.
وبدأ الاحتفال بالثامن من مارس كيوم المرأة الأمريكية تخليداً لخروج مظاهرات نيويورك سنة 1909 وقد ساهمت النساء الأمريكيات في دفع الدول الأوربية إلى تخصيص الثامن من مارس كيوم للمرأة وقد تبنى اقتراح الوفد الأمريكي بتخصيص يوم واحد في السنة للاحتفال بالمرأة على الصعيد العالمي بعد نجاح التجربة داخل الولايات المتحدة.
إن المرأة المسلمة لم تكن معنية بهذا اليوم، إلا بقدر المشاركة في رفع الحيف الواقع على بنات جنسها من المستضعفات في العالم، ولكن اجترار النزعة الأنانية المادية السائدة في الغرب، وتراجع الوازع لدى كثير من حملة الكل، وتغير الأحوال وفساد الأخلاق وضياع المروءات؛ أدى إلى وقوع المرأة المسلمة بين تنازع نداء الفطرة وإكراهات الواقع.
ثم إن طلب المرأة للتمكين الاقتصادي؛ لا يعدو كونه شعورا بعدم الأمان الأسري في مجتمعات لا توفر منظومتها القانونية والإدارية والمالية متطلبات الحياة الكريمة للأبناء في حال التفكك الإجتماعي، لذلك كان لزاما علينا العناية بحقوق المطلقة والأولاد، تنزيلا للأحكام الشرعية في واقع الناس؛ فنفقة الأبناء واجبة على الآباء، ولا تسقط بالطلاق، وتستمر إلى أن يبلغوا قادرين على الكسب، وأما ربات الخدور من الأيامى فلا سائل ولا معيل.
وعليه فلا مناص من تجسيد القوانين الفقهية في الحياة العملية، وإيجاد قواعد تنظيمية متوافقة مع مقتضيات الشريعة الإسلامية، تصون الكرامة، وتحقق للمرأة الإسهام الفاعل في البناء الحضاري.
ولا يخفى أن المرأة قد لا تكون محتاجة لأن عندها من يكفيها مؤنة الكسب، وإنما لديها مال يجب عليها المحافظة عليه بالاستثمار والتجارة.
العرض
إن رسالة الإسلام الخاتمة للرسالات السماوية اشتملت على كل معاني المساواة بين المكلفين؛ لذلك اتسم الخطاب الشرعي بالعموم، في تقعيد القواعد وتوضيح المقاصد وتبيين الأحكام العامة، قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.[1]
إن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة للثقلين كما صرحت به النصوص، وقد أعياهم الإتيان بمثل ما جاء به من الذكر الحكيم، يقول الله سبحانه جل من قائل: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾.[2] ، وهذا الإعجاز حجة عليهم ودال على عظيم قدر الفرقان وبديع أسلوبه لأنه تنزيل الحكيم الحميد، وفيه أيضا بيان عموم توجه الخطاب القرآني إلى بني الإنسان ذكرهم وأنثاهم وقد صرح بذلك في مواضع كثيرة؛ أذكر منها على سبيل المثال: قول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾.[3] ، يقول صاحب التحرير والتنوير في قوله تعالى: ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾؛« قَصْدُ التعميم والرد على من يحرم المرأة حظوظا كثيرة من الخير من أهل الجاهلية».[4]،
ثم إن حظر أي حضور للمرأة في تدبير الشأن الخاص للأسرة أو العام للمجتمع؛ تحجير لا محل له في سياق القواعد العامة للشرع الحنيف، واستصحاب عدم أهليتها لكل أمر ذي بال؛ ليتعارض مع عموم الخطاب التكليفي؛ إذ لو كانت شخصا قاصرا لما أمرت بحمل أمانة التكليف، وأي أمانة تعدل استقبال الأوامر والنواهي من لدن الشارع الحكيم،
ومنع المرأة من حق المساهمة في تنوير المجتمع إنما يندرج تحت التصورات الجاهلية واستحضار لنمط تحجر العقل والشعور في أزمنة غابرة كان مصير المرأة الوأد حية أو الإقصاء والتهميش في أحسن الأحوال؛ فيقضى الأمر في غيبتها ولا تستأذن وهي شاهدة، ولا حظ لها في عظائم الأمور فما بالك بغير ذلك من الأحوال التي تتولاها بنفسها عادة نحو التنشئة والتربية والإرشاد والتوجيه، ولم تكن لها مكانة ولا شأن يذكر ولا يقبل منها صرف ولا عدل في عرف المجتمع الجاهلي؛ وهو ما أبطله الإسلام، يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.[5] ، وقوله تعالى: ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾:« تبيين للعموم الذي دلت عليه(من) الموصولة، وفي هذا البيان دلالة على أن أحكام الإسلام يستوي فيها الذكور والنساء، ما عدا ما خصصه الدين بأحد الصنفين، وأكد هذا الوعد كما أكد المبين به».[6]
وقال سبحانه وتعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾.[7]؛ يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى: «﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾، بعضكم من بعض في الثواب والأحكام والنصرة وشبه ذلك».[8] ، وقال ابن جزي في تفسيرها: « النساء والرجال سواء في الأجور والخيرات».[9]
ولا يجد المتتبع كثير عناء في الملاحظة؛ أن نصوص الوحي تتسم بشمولية التعاليم، وما يرد في الإسلام من الأوامر والنواهي تُفصِح عن تناول شرع الله لكل أوجه حياة الإنسان: السلوكية والتربوية بصفة خاصة والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بشكل أعم ، ودون تمييز بين جنس وآخر إلا ما كان من الأحكام الجزئية المتعلقة بخصوصية كل وفقا لطبيعته الخلقية، ومحافظة على وظيفته الأصلية من تعمير الأرض والسعي في إصلاحها طبقا للمنهج الرباني القويم، ومع ذلك لا يسد باب التعاون على البر والتقوى أمام أحد من أفراد المجتمع المسلم، بل وجه القرآن الكريم إليه وأمر به، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.[10] فالتعاون على كل بر وتقوى مطلوب ولا تقتصر مهمة التبليغ على الرجال دون النساء.
وقد كان من المنح الإلهية والمنن الربانية إرسال نبي الرحمة إلى كل الناس بالخير والهدى والنور والرفق بالإنسان والجان والحيوان والجماد وقصة حنين الجذع خير شاهد؛ عنْ أنَسِ بْنِ مَالكٍ- رضي الله عنه- { أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ إِلَى لَزَق جِذْعٍ وَاتَّخَذُوا لَهُ مِنْبَراً فَخَطَبَ عَلَيْهِ فَحَنَّ الجِذْعُ حَنِينَ النَّاقَةِ فَنَزَلَ النَّبي صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ فَمَسَّهُ فَسَكَنَ}.[11]
أرسل رسوله بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وجاءت رسالته بمبادئ العدل والرحمة لكل العالم، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [12] يقول ابن جزي في تفسير الآية: « والمعنى على كل وجه: أن الله رحم العالمين بإرسال سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه جاءهم بالسعادة الكبرى، والنجاة من الشقاوة العظمى، ونالوا على يديه الخيرات الكثيرة في الآخرة والأولى، وعلمهم بعد الجهالة وهداهم بعد الضلالة».[13]، ويقول القرطبي في تفسير الآية: « قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق».[14]، ويقول الآلوسي مبينا حال كون الرحمة هنا عامة: « استثناء من أعم العلل أي وما أرسلناك بما ذكر لعلة من العلل إلا لترحم العالمين بإرسالك. أو من أعم الأحوال أي وما أرسلناك في حال من الأحوال إلا حال كونك رحمة أو ذا رحمة أو رحما لهم ببيان ما أرسلت به».[15]، ومن بديع وصفه صلى الله عليه وسلم بالرحمة: وقوع الوصف مصدرا يفيد المبالغة في هذا الاتحاد بحيث تكون الرحمة صفة متمكنة من إرساله[16]، ويستدل لهذا المعنى ما أشار إلى شرحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:{ وإنما بعثني رحمة للعالمين}.[17]، والتعريف في (العالمين) لاستغراق كل ما يصدق عليه اسم عالم.[18]، والمرأة ليست استثناء من العالم، وإذا علم عقلا توجه رسالة الإسلام إليها؛ فهم ضرورة مشاركتها في التبليغ تحقيقا لصون مقاصد العقلاء عن العبث في الاستنباط.
إن المرأة في الإسلام لها مكانتها السامقة تجسدت في مساواتها مع أخيها الرجل في عموم التكاليف الشرعية وخص كلا منهما بأحكام تفصيلية مراعاة للقدرة الجبلية.
وفي الحقوق والواجبات لهن مثل الذي عليهن، وقد فرض لهن الشارع من الحقوق المعنوية والمالية ما يزيد على الذكور رفعا لقدرها وصيانة لها عن التعرض لمشقة الكسب؛ فجعلها محمولة النفقة في كل الأحوال فلا تجب عليها النفقة بل تجب لها ولو كانت غنية، كما خفف عليها الأحكام الشرعية في أوقات الضعف الإنساني؛ الحيض، النفاس..
وقد أعطى الشرع الحنيف للمرأة من الحقوق، ما يرفع قدرها، ويحفظ لها كرامتها الإنسانية، وأناط جل حق بر الوالدين بحسن صحبتها، فلها ثلاثة أرباع البر تقديرا لقيمة الأمومة، واعتبارا لما تعانيه الأم من ثقل الحمل، وفقد طاقة الجسم تغذية للجنين من دمها وعظمها، وآلام المخاض، ومعاناة وبذل جهد في فترة الرضاع، والصبر على التربية، وتوفير الحنان والرحمة بالصغار، والسهر على المداواة، وتقديم الرعاية والحضانة، يقول الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي، قال: { أُمُّكَ} ، قال: ثم من، قال: { أُمُّكَ} ، قال: ثم من، قال: { أُمُّكَ} ، قال: ثم من، قال: { أَبُوكَ} .[19]
إن ما أودعه الله من الرحمة والحنان في قلب الأم أهلها لوظيفتي التربية والحضانة للأبناء؛ فتتحمل ثقل الحمل رغم ضعفها بكل طيب نفس وانتظار للفرح بالمولود، قال الله سبحانه: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾.[75] يقول الزمخشري: « والمعنى: أنها تضعف ضعفا فوق ضعف، أي: يتزايد ضعفها ويتضاعف، لأن الحمل كلما ازداد وعظم، ازدادت ثقلا وضعفا».[76]
ومن لطائف الإشارات القرآنية في معاني الرحمة الجبلية للأم؛ قوله تعالى: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾.[77]، يقول صاحب التحرير والتنوير: « وجملة يرضعن خبر يراد به التشريع، وإثبات حق الاستحقاق، وليس بمعنى الأمر للوالدات والإيجاب عليهن».[78]، فعبر بفعل المضارع دون الأمر تنبيها على الحنان الخَلقي للأم، وفي حق الوالد عبر بفعل الأمر دلالة على الوجوب؛ يقول القرطبي في تفسيره: « وفي هذا دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد».[79]، وإذا علم أن الواجبات الأسرية في الشرع الحنيف وزعت بعدالة وتكامل، وأن الأوامر لا تتعارض؛ فإن الواجب التربوي يناط بالأم، والقيام بالنفقة والرعاية يناط بالأب.
إن الواجب التربوي يجعل المرأة تتولى أشرف الأعمال وأنبلها؛ ألا وهو بناء شخصية الطفل والعناية بسلامة فطرته، وغرس القيم والأخلاق الفاضلة في النفس، ولها الدور الأبرز في صيانة تماسك الأمة وصلاح الأجيال الناشئة، والحماية من الانزلاق نحو الهاوية أو التردي في مزالق الرذائل..
إن المرأة المسلمة لا تقل عن الرجل المسلم في التكليف وإنما يختلفان في المهام، ولا يتفاوتان في المكانة وإنما يتمايزان في اختلاف أعباء تكوين النواة الأولية للمجتمع، هذا من حيث الأصل، والعلاقة بينهما علاقة قائمة على التكامل لا التنازع.
إن وظيفة المرأة الأساسية هي إعداد أبنائها إعدادا ملائما، وهذا من أبرز واجباتها، بل إن أول ما يتبادر إلى الذهن من واجبات المرأة الأسرية، هو العناية بالأبناء، فالأم: هي المدرسة الأولى للطفل.[80]
وكونها مدرسة لا يتعارض مع مهمة تعليم الخير، بل يعضدها ويقويها ويرفع من مستوى الاستيعاب والفهم السديد والقدرة العلمية والبصيرة العملية.
ثم إن مهمة التبليغ عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم تتسم بالشمول لجميع الأمة المحمدية، وإنما التفاوت في مستوى الاستيعاب والفهم السديد والقدرة على الاستنباط فرب مبلغ أوعى من سامع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم النحر: {لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ}.[32]، ويكفي المشتغل بتبليغ العلم الفوز بدعوة خير البرية عليه الصلاة والسلام: {نَضَّرَ الله امْرأ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُو أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِل فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ}.[33] والمراد من الحديث: « أن فتوح الله على العباد مختلفة، فهناك أناس أعطاهم الله الحفظ ولم يعطهم الفهم، ومنهم من أعطاهم الله الفهم ولم يعطهم الحفظ، ومنهم من جمع لهم بين الاثنين».[34]، قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.[35]، وفي الحديث دليل على أهمية فهم النصوص الشرعية لمن أراد سلوك سبيل العارفين من العلماء، وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ}.[36]
إن واجب حفظ الدين وتبليغه للناس لا يختص به الذكور دون الإناث؛ فدرجة الوجوب واحدة ولكن التمايز يكون بحسب الطاقة والمواهب والإمكانيات والمسؤوليات ونطاق التأثير والقدرة العلمية والبصيرة؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.[37] ؛ أي « أدعو إلى الله ببصيرة متمكنا منها، والبصير: صاحب الحجة لأنه بها صار بصيرا بالحقيقة، وفي الآية دلالة على أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الذين آمنوا به مأمورون بأن يدعو إلى الإيمان بما يستطيعون».[38]
فمتى ما توفرت الاستطاعة والبصيرة كان التبليغ دون اعتبار لجنس المكلف إلا في القيام ببعض الوظائف الخاصة المبينة بالسنة النبوية المطهرة وأقوال أهل العلم نحو الإمامة للمصلين؛ فقد منعها مالك -رحمه الله ورضي عنه- كما ذكره الباجي: « أما الأنوثة فإن المرأة لا تؤم رجالا ولا نساء».[39]، ويجوز لها إمامة بنات جنسها عند الإمام الشافعي والإمام أحمد -رحمهما الله تعالى-: « يجوز للمرأة أن تؤم النساء وتقف وسطهن».[40] ولكل رأي دليله من السنة؛ فالأول يستدل بحديث الإمام مسلم عن أبي مسعود الأنصاري مرفوعا: {يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتابِ الله}[41]، قال عياض: « هذا الحديث حجة في أن المرأة لا تؤم، لأن لفظ القوم خاص بالذكور» نقله الأبي.[42]، والرأي الثاني؛ يستدل بما رواه الشافعي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق أن أم سلمة رضي الله عنها أمت نساء فقامت وسطهن. ورواه عبد الرزاق والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها.[43]، ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة، ويبسط الخلاف رداءه على مسائل أخرى نحو الولاية العامة والقضاء، إلا أن بعض العلماء انتصر لتولي المرأة القضاء في كل الأمور قياسا على الفتيا؛ لإجماع العلماء على جواز تولي المرأة منصب الإفتاء الديني أي التبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه أمانة أعظم ومكانة أكبر ومهمة أخطر من ما دونها من المهام والوظائف والمسؤوليات؛ لأن تحمل وظيفة الرسل والأنبياء في التبليغ عن الله لا تضاهيها مرتبة علمية ولا دينية؛ وقد أمرت بذلك أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، قال الله جل جلاله:﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾.[44] وقام بها غيرهن من الصحابيات في العهد النبوي الشريف؛ وما قامت به فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها في الإقدام على عرض الإسلام على أخيها عمر -رغم إظهاره لمقارعة الدين- دون إحجام ولا تقهقر خير شاهد على ذلك.[45]
ومن صفات المؤمنين والمؤمنات في كتاب الله تعالى التعاون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة أركان الدين من الصلاة والزكاة وكل أنواع الطاعات، ويتساوون في الثواب على الأعمال الصالحة، يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.[46] يقول السمرقندي في تفسره: « بعضهم معين لبعض في الطاعة».[47]
والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر رباني ومنهج قرآني لا يفرق بين رجل وامرأة من المكلفين بشرط أن يكون صالحا له ويعلم كيف يرتب الأمر وكيف يباشر[48]؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.[49] يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾: أي: « منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير».[50]
وقوله صلى الله عليه وسلم: { مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُ فِي الدِّينِ}.[51]
ولا تستثنى المرأة من عداد الأمة المأمورة بنشر الخير أو التفقه في الدين، وليست نشازا في توجيه النصح لكل مسلم؛ عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { الدِّينُ النَّصِيحَة}، قلنا: لمن، قال: { لله وَلرَسُوله وَلأَئِمَةِ المسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ}.[52]
ثم إن النساء يعدلن نصف المجتمع أو أكثر خصوصا مع تزايد الهجرات وتعدد أسباب تراجع أعداد الرجال، فكيف لا تتصدر إحداهن لعملية تبصيرهن، والقيام بالتفقه في أمور الدين لبنات جنسها، وخاصة إذا علم بديهة أن للمرأة من الأمور الجبلية والعوارض الحياتية ما لا تفقهه إلا أختها تحس إحساسها وتتقن تصور أحوالها وتفهم واقع تصرفاتها في حاضر وقتها..
ولقد نالت المرأة المسلمة شرف السبق باعتبارها من المهاجرين الأول مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تعاظم خطر مضايقة دعوة الإسلام، وبدأ الأذى يشتد على الزمرة المؤمنة دون الرد بالمثل أو الدفع عن النفس، بل أمروا بالصبر والاحتساب والإعراض عن أهل الشرك.
ولما رأى نبي الرحمة عليه أفضل الصلاة والسلام ما يصيب أصحابه رجالا ونساء من التنكيل والفتنة عن الدين، بعد أن اشتد أذى مشركي قريش على المسلمين في مكة أشار عليهم بالهجرة حماية لأنفسهم ومحافظة على الدعوة من الوأد في المهد، وكانت في شهر رجب في السنة الخامسة للبعثة النبوية، وبلغ عدد المهاجرين في الهجرة الأولى عشرة رجال وخمس نسوة، وفي الهجرة الثانية كانوا نحو ثلاثة وثمانين رجلا وثماني عشرة امرأة.[53]
ويبرز الحضور الفاعل للمرأة المسلمة المهاجرة بدينها جنبا إلى جنب مع أخيها الرجل في نصرة الحق والذب عنه وحمل أمانة نشر الإسلام، في ظل مجتمع لا يعطي المرأة دورا ولا حقا حتى في إبداء الرأي، فكيف بالخروج والهجرة؟،
إنه الإنصاف والعدل والرحمة والسماحة.
ومن المهاجرات رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجرت مع زوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه[54]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما: {إِنَّهُمَا لأَوَّلُ مَنْ هَاجَر بَعْدَ لُوطٍ}.، وأم سلمة بنت أبي أمية رضي الله عنها، وأسماء بنت عميس بن النعمان رضي الله عنها زوج جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وفاطمة بنت صفوان بن أمية بن محرث رضي الله عنها، وسودة بنت زمعة بن قيس رضي الله عنها[55]،وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها[56]، وفاطمة بنت المجلل بن عبد الله بن أبي قيس رضي الله عنها، وأم حرملة بنت عبد الأسود بن جذيمة رضي الله عنها[57]، وسهلة بنت سهيل رضي الله عنها زوج أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة رضي الله عنه[58]، وغيرهن..
واختار لهم الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام أرض الحبشة، لأن بها ملكا عادلا لا يظلم عنده أحد، وقد قال النبي صلى الله عليه لأصحابه:{إِنَّ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ مَلِكًا لا يُظْلَمُ أحدٌ عِندَه- وَهي أَرْض صِدْق[59]-؛ فالحَقوا ببِلادِه حتى يَجعَلَ اللهُ لكم فَرَجًا ومَخرجًا}.[60]
وبعد أن باءت محاولات قريش في استرداد المهاجرين بالفشل، حاول وفد قريش التنقيص من شأن المرأة، والاستهزاء بالدين الإسلامي الذي يمنح من لا تبري الرمح ولا تحمل السيف ولا تأتي بالسلب ولا تقوم بالتكسب –حسب زعمهم- الحق في إبداء الرأي والإرث والمشاركة في بناء كيان الأمة والتعاون على التقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فعدد عليه جعفر رضي الله عنه أمور الإسلام[61]، ومن أجلها مقاما بروز مكانة المرأة واحترامها ومساواتها مع الرجل في الحقوق والواجبات الأساسية؛ أصل الخلقة، والكرامة الإنسانية، وتوجه الخطاب الشرعي العام، الأجر والثواب على العمل الصالح، العقوبة على المعصية، حفظ الكليات، الأهلية، التملك، التصرف، الذمة المالية، المشاركة في تدبير الشأن العام، رعاية البيت، المحافظة على كيان المجتمع، جلب المصالح ودفع المفاسد،
ويكون التمايز في امتثال الخطاب الشرعي الخاص؛ المبني على اعتبار تقسيم الأعباء، والرحمة بالمرأة ومراعاة أوقات الضعف الجبلي؛ من حمل وولادة وإرضاع؛ وجعلها وظائف كبرى للمحافظة على إعداد الإنسان الصالح؛ جسميا ونفسيا وروحيا..
وتبيان هذه المسلمات؛ يسرت نجاح سفارة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، واستمع النجاشي والقساوسة لآيات من سورة مريم عليها السلام، ولم يتسنى لهم مقاومة أثر كلام الله تعالى المعجز الذي وقع قويا على قلوبهم وبصائرهم، فما تمالكوا أن أنهمرت دموعهم غزيرة فياضة، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)﴾.[62]
وقد أسلم النجاشي رضي الله عنه، ولما مات قال النبي صلى الله عليه وسلم: {استَغفِروا لأَخِيكُم}.[63]، ونزل فيه قول الله تعالى: ﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.[64] (199).
ومنذ ذلك الحين بدأ التاريخ يسطر وقائع وصول دين الرحمة والسماحة والسلام إلى ربوع العالم، وبالرغم من وصول دعوة الإسلام باكرا مع طلائع المهاجرين الأول، إلا أن فشو الصورة الناصعة له عن المرأة تأخر نسبيا، بسبب تجذر العادات والتصورات غير المنصفة..
ثم ظهر الدين وبدأت الشعوب تتلقاه بالقبول، وكانت المرأة كما الرجل تبذل الجهد في تلقي العلوم الشرعية مقتدية في ذلك بالعالمات في صدر الإسلام.
وعلى مر الأزمنة المتعاقبة لم تذكر التراجم حضورا بارزا للمرأة العالمة، وإن كان يلمس أثره في الخلف من الفقيهات، ويعد الشح في تناول سير العالمات سببا في ندرة المصادر والمراجع العلمية التي تناولت هذا الموضوع.
وظل بقاء الأمر على سابق عهده، ولم تنل المرأة العالمة المكانة اللائقة بها في تدبير الشأن الديني، وبقي حضورها ضعيفا على المستوى الرسمي، إلا أن تجربتها في السياق التاريخي كانت رائدة ولكن الإبراز والتقدير استمر على حال الجمود، وفي أحيان كثيرة غاب عنه التدوين، ولا يزال يحتاج إلى التأطير والمواكبة والتفعيل.
ولا يمكن الحديث عن حضور النساء العالمات في المساهمة في صناعة الفقه والفكر، دون الإشارة إلى التغييب المثير للتساؤل من إغفال كتب التراجم لذكر العنصر النسائي من عالمات عاملات، وإن ذكرن كان الاختصار حظهن من الذكر، وأما كتب طبقات المذاهب فغياب سيرتهن هو البارز للمتتبع دون عناء، ويمكن رد ذلك إلى قلة التدوين في هذا الجانب..
ولإزالة لبس الاستفهام، حاولت الترجمة لعالمات بارزات؛ كن أمثلة حية على الحضور الفعلي للمرأة في تدبير الشأن الديني، على سبيل المثال لا الحصر؛
تجلى حضور النساء الفقيهات النوعي بين ممارسي الإفتاء في العهد الأول في الدور الريادي للعالمة المحدثة الفقيهة الصديقة بنت الصديق أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما التي عدها أهل العلم ضمن الصحابة المكثرين من رواية الحديث والتصدر للفتوى والتعليم، وكانت رضي الله عنها أفقه نساء الأمة على الإطلاق لأخذها عن أفضل الخلق وحبيب الحق ومعلم البشرية النبي المعصوم سيدنا محمد عليه صلوات الله وسلامه، وقد جمعت من أنواع العلوم الجمة في تسع سنين هي مدة إقامتها معه صلى الله عليه وسلم ما لا يتعلمه غيرها في الأزمان المتطاولة[66]، نقل عنها الاستقلال بالفتوى وكثرة ما يعرض عليها من المسائل، ولها مناقب يصعب حصرها ذكر ابن سعد بعضا منها[67]
وقد اشتهرت رضي الله عنها بفتاوى استقلت بها وآراء فقهية انفردت بها؛ ومنها قولها بجواز سفر المرأة من دون محرم مطلقا إذا أمنت على نفسها، ولها رأي في رد بعض الأخبار للتعارض مع الكتاب العزيز؛ ولا تزر وازرة وزر أخرى؛ وبها نزعت رضي الله عنها في الرد على من قال: إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه، ونكتة ذلك المعنى إنما هي أن التعذيب إنما يقع إذا كان البكاء من سنة الميت وتسببه، كما كانت العرب تفعل.[68]، مخالفة بذلك رواية ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إِنَّ المْيَتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ}.[69]، ولها استدراكات على فتاوى كبار الصحابة؛ جمعها العلامة الزركشي[70]، وتفردت برأي في مسألة الزينة الظاهرة المستثناة من عموم الدليل، وغير ذلك كثير، يضيق المقام عن حصره.
ومن أمثلة القدوات العالمات خديجة بنت الإمام عبد السلام سحنون بن سعيد التنوخي( صاحب المدونة) في الفقه المالكي، حامل لواء مذهب مالك بالمغرب، نشأت في بيت علم وفضل، اشتهر والدها ب”الإمام سحنون”، أخذت عن أبيها العلم والفقه والأخلاق والورع والزهد، والخشوع وغزارة الدمعة والتواضع، كانت عاقلة عالمة كرست حياتها للتعليم والتعلم والإفتاء في أمور نساء زمانها ولم تتزوج حتى ماتت بكرا في حدود 270ه.[71]
ومن النماذج المضيئة في بلادنا العالمة فاطمة بنت عبد الفتاح؛
وهي من أشهر العالمات الخطاطات(ت1300ه) في عصرها، وتعد شاعرة حسب بعض الوثائق؛ مدرسة ومؤلفة، من أجمل نساء الشناقطة خطا، درست على والدها أهم معارفها وأخذت التصوف السني على قطب زمانه[72] العلامة الشيخ سيديا، لها عدة مؤلفات في التوحيد والتوسل والسيرة النبوية، ومن بين الكتب التي نسخت كتاب الأخضري لصاحبه عبد الرحمن الأخضري، وقد كان متداولا في أوساط الشباب والناشئين، لما له من أهمية في تبسيط العبادات.[73]
ولا تنتهي الترجمة للعالمات دون ذكر عالمة المغرب؛ الأستاذة الدكتورة سعاد رحائم عضو المجلس العلمي المحلي بالجديدة؛
العالمة المغربية سعاد رحائم حاصلة على دكتوراه الدولة من جامعة شعيب الدوكالي بالجديدة سنة 2001، حيث تقوم بتدريس مواد الدراسات الإسلامية والفكر الإسلامي، وعضو لجنة العالمات بالمجلس العلمي الأعلى، ألفت مجموعة من الكتب العلمية القيمة ولها مشاريع علمية أخرى قيد الطبع تهم دراسات في التاريخ والعبادات في الفقه المالكي، بالإضافة إلى العديد من المقالات والمنشورات العلمية، والمشاركة في الكثير من الملتقيات العلمية المحلية والدولية.[74]
ولها مساهمة قيمة في تغيير النظرة النمطية عن المرأة؛ جمعت لب الإشكال في كتاب يجمع بين التفصيل والإجمال، حمل عنوانا غاية في البلاغة والجمال:” المرأة في سياق الخطاب الشرعي(المنطوق والمفهوم)”.
خاتمة:
وجماع ما سبق: أن حضور مكانة المرأة في الخطاب الشرعي مبينة؛ بحيث تمثل عناية الشريعة بها، وأما النظرة المجتمعية المتوجهة إليها، فقد مرت بمراحل عديدة تميزت بالصعود تارة مع بدايات دعوة الإسلام، وبزوغ نور فجره الحامل للعدل والإنصاف، وما جاءت به النصوص الشرعية من تأكيد على دور المرأة في نشر الخير والعلم، معضدة ذلك بتواجدها في جميع أحداث السيرة والتاريخ الإسلاميين، وتارة يهبط حضورها نتيجة لعوامل تتعلق بأساليب تفكير المجتمع، واستحضار عقليات لا تعطيها حق المشاركة في صناعة الوعي بأبعاده التنويرية التي جاء بها نبي الرحمة عليه أفضل الصلاة والسلام، ولكن لعله خير أن تظهر بعض التأويلات الفقهية الرائدة تحاول الصعود بدور المرأة في بناء الأسرة والمجتمع، وتؤسس لإطار علمي يحقق الأهداف المرجوة، ويقدم للمرأة المسلمة نماذج قادرة على الإسهام الفاعل في إعادة التميز الحضاري إلى العصر الذهبي.
والله من وراء القصد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.