الراصد: لسنوات، كانت وما زالت الجزائر هي البلد الإقليمي الأقرب لتقديم مقاربات تتعلق بالوضع بجارتها مالي، والتي كان أحدثها الأزمة مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس"، إذ اتخذت موقفا وصفه مراقبون بـ"التوافقي المتزن" الذي يجنب مالي مزيدا من الاضطرابات.
وتنتظر الجزائر رد دولة مالي و"إيكواس" على مبادرتها للوساطة بين الطرفين، بعد أن سجلت موقفا رافضا للإضرار بالسلطات الانتقالية في باماكو.
واعتمد مجلس السلم والأمن للاتحاد الإفريقي منتصف يناير الماضي، مبادرة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، القاضية بمرافقة جمهورية مالي وإيكواس للقيام بحوار "هادئ وواقعي".
واندلعت أزمة غير مسبوقة بين باماكو وإيكواس، على خلفية تخلي قادة الانقلاب في مالي عن وعدهم بتسليم الحكم لسلطة مدنية منتخبة في فبراير الجاري، وفرضت المجموعة عقوبات اقتصادية وسياسية قاسية على مالي، حظيت بدعم فرنسي كامل.
ودعت الجزائر الجانبين إلى ضبط النفس والحوار من أجل التوصل إلى خطة تفضي للخروج من الأزمة، كما أعلنت الجارة الأخرى موريتانيا دعمها لسلطات باماكو.
وكان وزير خارجية مالي عبد الله ديوب، أثنى كثيرا على الدور الجزائري في آخر زيارة له إلى الجزائر في 6 يناير الماضي، وقال عقب استقباله من قبل الرئيس تبون، إنه جاء "لتقاسم الرسائل والتوصيات والتنسيق حول المسار الذي تقوم به بلادي والذي ترافقه الجزائر".
** الموقف الجزائري
وكانت الجزائر رفضت بشدة عقوبات إيكواس على مالي، معتبرة أنها "تحمل مخاطر جسيمة، لا سيما بعد الإجراءات المضادة لمالي".
وترفض الجزائر في الوقت ذاته، الفترة الزمنية التي تقترحها السلطات الانتقالية المالية، لإعادة الحكم إلى المدنيين، والمقدرة بـ 5 سنوات (إلى غاية 2026).
وقرر قادة الانقلاب في مالي تمديد الفترة الانتقالية كل هذه المدة، بناء على مخرجات مؤتمر إعادة التأسيس الذي شاركت فيه فعاليات المجتمع وقوى سياسية بين 27 و31 ديسمبر 2021.
وجاء موقف الجزائر المعلن في بيان صادر عن رئاسة الجمهورية (بدل الخارجية) في 11 يناير الماضي، مؤكدا الاهتمام الكبير بالتطورات الحاصلة بالمنطقة التي تفصلها عنها حدودا برية تصل إلى 1359 كلم.
وقالت الجزائر إنها تتحدث من موقعها "كرئيس للوساطة الدولية في أزمة شمال مالي التي تعمل على تنفيذ اتفاق السلم والمصالحة في مالي المنبثق عن مسار الجزائر والموقع سنة 2015، وأيضا باعتبارها بلدا جارا يتقاسم مع مالي حدودا برية وتاريخا طويلا".
والاتفاق تم بين حكومة باماكو والحركات المسلحة المتمردة في الشمال بوساطة دولية قادتها الجزائر بعد مفاوضات دامت أشهر بين عامي 2014 و2015 وتضمن عدة بنود حول وقف القتال والتعاون في إدارة مناطق شمال مالي.
وترى الرئاسة الجزائرية، أن فترة انتقالية لمدة تتراوح بين 12 و16 شهرا "تكون معقولة ومبررة"، ودعت إلى "ضرورة التزام السلطات الانتقالية المالية بجعل 2022 سنة إقامة نظام دستوري مالي جامع وتوافقي".
وتمت بلورة هذا الموقف، في شكل مبادرة رفعت إلى مجلس السلم والأمن للاتحاد الإفريقي، الذي اعتمدها نهاية اجتماع عقد في 14 يناير وقرر بموجبه "تعليق" عقوبات إيكواس على مستوى الهيئة إلى غاية تبيان الجهود التي ستبذلها الجزائر، وفق نص البيان.
وعلى هامش القمة الـ 35 المنعقدة بأديس أبابا، في 6 و5 من الشهر الجاري، قال وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، إن بلاده تنتظر "رد إيكواس ومالي".
وقال لعمامرة في مقابلة مع قناة "فرانس 24" وإذاعة فرنسا الدولية (حكوميتان): "منذ أن قدمت الجزائر مقترحاتها، ننتظر الحكومة في مالي والهيئات الإدارية في إيكواس أن تطلعنا على المشاركة في حوار أخوي تتعهد الجزائر بتنظيمه".
وتنطلق الجزائر في هذه المقاربة من مبدأ تغليب الحلول الإفريقية لمشاكل القارة، تحت مظلة الاتحاد الإفريقي مثلما أوضح لعمامرة، ملمحًا إلى عدم المراهنة على أي دور بناء لفرنسا التي تقود حملة معادية ضد قادة الانقلاب العسكري.
** فهم الموقف
من الواضح أن الموقف الجزائري، المعلن والمعتمد لدى الاتحاد الإفريقي، كمبادرة وساطة، لا يريد إلحاق أضرار اقتصادية أو سياسية لمالي.
ومنذ أن أطاح العقيد عاصمي غويتا، بالرئيس الراحل إبراهيم أبو بكر كيتا في 19 أغسطس 2020، اعتبرت الجزائر ما وقع "تغييرا غير دستوري" دون أن تسميه بشكل رسمي "انقلابا".
وكان وزير الخارجية الجزائري السابق صبري بوقادوم، أول مسؤول أجنبي رفيع يصل باماكو بعد 10 أيام من تنفيذ الانقلاب.
وكشف مصادر دبلوماسية جزائرية للأناضول، أن الجزائر ألحت على الانقلابيين تحقيق أمرين أساسيين، هما "عدم المساس باتفاق السلم والمصالحة مع حركات شمال البلاد والالتزام ببنوده، وألا تتجاوز الفترة الانتقالية 24 شهرا منذ تاريخ الانقلاب".
ولا زالت الجزائر متمسكة بفترة قصيرة للعودة إلى النظام الدستوري، وتحذر من أن طول المدة قد يؤدي إلى اضطرابات سياسية واقتصادية وخيمة.
وبعدما رفضت طلب المجموعة الاقتصادية لدول إفريقيا بالانخراط في عقوبات على مالي، سارت الجزائر باتجاه كسر الحصار المفروض عليها، إذ أرسلت في 24 يناير مساعدات إنسانية على عدة مراحل.
وشحنت طائرات عسكرية بحمولة 108 أطنان من المواد الغذائية و400 ألف جرعة من اللقاح المضاد لفيروس كوفيد-19، بحسب بيان لوزارة الدفاع الجزائرية.
ويقول الصحفي المالي يوسف دياوارا، إن "الشارع في مالي يرحب كثيرا بالموقف الجزائري القائم على عنصري التضامن والمرافقة".
ويضيف دياوارا، بأن الرؤية الجزائرية تقوم على "عرض المساعدة على جميع الأطراف بما يفضي إلى تجنيب المنطقة دوامة التوترات وتفاقم الأزمة وصيانة المصالح العليا للشعب المالي".
** حماية للأمن
الدعم والمرافقة التي تقدمها الجزائر لمالي في الفترة الحالية، تبين أنها تولي الأهمية للقصوى للجوانب الجوهرية مقارنة بالبناء المؤسساتي أو الديمقراطي.
فالوضع الأمني والاقتصادي الهش في مالي سينعكس سلبا على الجزائر، وأي تشديد للعقوبات على باماكو من شأنه أن يقوي الجماعات الإرهابية شمالي مالي، ويزيد من الهجرة غير النظامية نحوها، لذلك تنظر الجزائر بحذر إلى أي عقوبات غير مدروسة.
ويشكل تأمين اتفاق السلم بين شمال وجنوب مالي ومكافحة الإرهاب، مسألة استراتيجية مقارنة بإعادة البناء المؤسساتي والديمقراطي.
وفي هذا الصدد، يقول المختص بشؤون الساحل الإفريقي، عبد القادر دريدي، إن "الموقف الجزائري يتسم بكثير من الاتزان والموضوعية ونابع من مبدأ أساسي هو الحفاظ على الأمن كحاجة ضرورية للتنمية".
وأوضح دريدي أن مقاربة الجزائر مستمدة من وعيها بمختلف الخلفيات السياسية والأمنية وإدراكها للخيوط التي تحرك الوضع في المنطقة، والتي اتضح في كل مرة أنها تدفع نحو الصدامية والمواجهة "دون تقديم مبادرات فعلية لتطبيب الوضع تماما".