الراصد : تواجه فرنسا منذ عدة أشهر فقداناً لمواقع كثيرة في منطقة نفوذها التقليدية في إفريقيا، وبخاصة في منطقة الساحل، حيث كان الرفض الشعبي لوجود فرنسا العسكري والأمني في القارة، وقود الخطابات السياسية التي اعتمدها الضباط الأفارقة الشباب الذين نفذوا انقلابات في مالي وفي غينيا كوناكري وقبل يومين في بوركينافاسو.
وتواجه مجموعة دول الساحل الخمس التي تضم موريتانيا ومالي والتشاد ووبوركينافاسو والتي رعت فرنسا تأسيسها لضمان وجودها غير المباشر في غرب إفريقيا عند اللزوم، اهتزازاً كبيراً قد يؤدي لانهيارها أو تجميدها بعد أن أعلنت السلطات الانتقالية في مالي ذات الأهمية الاستراتيجية عن استغنائها الكامل عن فرنسا وعن توجهها نحو التحالف مع روسيا.
وانضافت الإخفاقات الواضحة المسجلة في محاربة الجهاديين على مدى عشر سنوات بوسائل ضخمة، لانكشاف ما يعتبره المتأفرقون الشباب، “الطابع الاستعماري الجديد القديم لفرنسا”، ليشكل مثاراً للشعور المناهض للفرنسيين، المنتشر منذ بعض الوقت في إفريقيا وبخاصة منطقة الساحل.
ويؤكد خبراء هذا الشأن أنما أشعل كره فرنسا الملاحظ لدى النخب السياسية الإفريقية الشابة، هو حماية فرنسا العمياء لمصالحها الاستراتيجية، ووقوفها مع الأنظمة الصديقة لها بشكل يتناقض مع رغبة السكان ويتعارض مع إرساء الحياة الديموقراطية كما وقع في التشاد عندما أيدت فرنسا علناً تولي ابن الرئيس التشادي الراحل مقاليد الحكم عكساً لما ينص عليه الدستور التشادي.
وينضاف لهذا الفشل الفرنسي والأوروبي والدولي المركب في دحر الجهاديين الذين اعتادوا ذبح ونهب السكان المدنيين، مما أثار السكان وجعلهم يرفضون تدخلاً لا يوفر لهم أبسط حماية.
ومما زاد الأمر خطورة أن النظام العسكري المالي يتبنى توجهاً مناهضاً لإرادة فرنسا ورئيسها إيمانويل ماكرون ولخططها في باماكو، يقوم على وقف التمرد المسلح في مالي لا من خلال الحرب، بل من خلال التفاوض مع الجماعات المسلحة ومن بينها جماعة نصرة الإسلام والمسلمين العدوّ الرئيسي لباريس في المنطقة التي تروّج حالياً أنها لما تعتبره هزيمة ألحقتها بفرنسا وأجبرتها على الانسحاب من مالي ودول الساحل الإفريقي.
واتسع الموقف الرافض للوجود العسكري الأجنبي في مالي ليشمل مضايقة الحكومة الانتقالية في مالي لقوات “تاكوبا” الأوروبية، حيث طالب المجلس العسكري الحاكم في مالي مملكة الدنمارك، أمس، بسحب فوري لقواتها المشاركة في عملية “تاكوبا”، لأن “انتشارها في البلاد، جاء دون موافقة السلطات”، وفقاً لتعبير المجلس.
ويرى الإعلامي أنطوان اغلاسر مؤلف كتابي “الفخ الإفريقي المنصوب لماكرون”، و”عندما يصبح الأفارقة سادة اللعبة”، أن “فرنسا تسير عكس التاريخ، فبينما تشهد القارة الإفريقية عولمة سريعة تعطي فرنسا الانطباع بأنها منشدة في سياساتها الإفريقية لنظام “افرانسافريك” الاستعماري القديم، وهو أمر يرفضه الشباب الإفريقي”.
وأضاف: “هذا ما دفع الرئيس ماكرون إلى تنظيم اللقاء الخاص بالمجتمع المدني الإفريقي في مونبلييه في غياب رؤساء دول القارة في محاولة منه لتنظيف الصورة الفرنسية الملوثة في أذهان النخب الإفريقية الشابة”.
وأضاف: “فرنسا تدفع ثمن غموضها، حيث إن الموقف الرسمي الذي تظهره فرنسا هو أنها لا تريد التدخل في الشأن الداخلي الإفريقي وأن مهمتها في إفريقيا مقتصرة على مكافحة الإرهاب، لكن عندما يتعلق الأمر بالشأن المالي نجد أن فرنسا في مقدمة المعنيين به”. وزاد: “إن الأوضاع في الساحل الإفريقي لا تتجه لما فيه مصلحة فرنسا، فقد أصبحت السلطات المالية تضايق، بشكل واضح، الوجود العسكري الفرنسي في الساحل والدليل هو أن سلطات باماكو احتجت قبل أسبوع على مرور طائرة نقل عسكرية فرنسية قادمة من ساحل العاج لشمال مالي ضمن عملية برخان عبر الأجواء المالية، وتضمن هذا الاحتجاج نبرة تهديد، وينضاف لهذا كله، الشعور المضاد لفرنسا الذي يعم المستعمرات الفرنسية السابقة والذي يلاحظ أنه شعور قوي جداً في منطقة الساحل”.
قد أدت سياسة الحكومة الفرنسية منذ فترة ساركوزي إلى فقدانها للمكانة التى كانت تتمتع بها في إفريقيا عموماً وفى منطقة الساحل والصحراء خصوصاً، حيث كانت أغلب دول الساحل تنتظم فى تيار يتحكم فيه الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي ومع سقوط نظامه انفرط عقد ذلك التيار وتفرقت دوله أيادي سبأ، وانتشر السلاح فى المنطقة ، أدى ذلك إلى انفجار الوضع فى مالي وبوركينافاسو وزادت الهجمات ضد جيش النيجر.
ويرى الخبير مختار آبكه، رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية في منطقة الساحل، أن “عوامل عدة تضافرت لتفقد فرنسا مكانتها منها انعدام الخبرة لدى الرئيس الفرنسي الشاب ماكرون، وعدم وجود أنظمة حاكمة تقليدية في المنطقة يمكن التحكم فيها، وظهور بعد العسكريين الشباب الذين تقلدوا مناصب عليا في الجيوش، وهو ما أدى لشبه تمرد على باريس، واتضح ذلك بادياً للعيان فى زيارة قام بها ماكرون للمنطقة عام 2019”.
وقال: “فشلت العمليات العسكرية الفرنسية فى الساحل مثل “سرفال” و”برخان”، ثم جاء إعلان الرئيس ماكرون عن إعادة انتشار القوات الفرنسية فى مالي وسحب عدد كبير من قواعد فرنسا من تمبكتو وغاوه وتساليت وترك ثلاث قواعد فقط قريبة من الحدود مع النيجر، كل هذا جاء بالتزامن مع الانقلاب الثاني للعسكريين الماليين ضد الرئيس المدني باه انضو الذي أغضب الفرنسيين”؛ “لكن رد فعل قادة الانقلاب فى باماكو، يضيف الخبير، كان قوياً، حيث طالبوا بتعديل الاتفاقيات العسكرية التي تربط باماكو بباريس، وأخيراً جلبوا روسيا للمنطقة بحكم تكوينهم فى كلياتها العسكرية مما ولد حنقاً لدى الحكومة الفرنسية تمثل فى تحريك مجموعة “إيكواس” ضد مالي وفرض حصار عليها”.
“وانضاف لهذا، يقول الخبير مختار أبكه، أن الروس، سواء فى الشركة الأمنية الخاصة “فاغنر” أو فى الجيش الروسي الرسمي، لم يهتموا لتصرفات باريس، بل مدوا جسور التواصل مع السلطات المالية ودعموها بالسلاح والطائرات”.
وقال: “بحكم وجود روسيا فى دولة إفريقيا الوسطى لدعم رئيسها، وفي الشمال الليبي لدعم اللواء حفتر، وبوجود موطئ قدم لها فى مالي تكون روسيا قريبة من بسط سيطرتها على أهم المناطق التي يوجد بها النفط واليورانيوم والأحجار الكريمة وبذا تتجه موسكو لسحب البساط من تحت أقدام فرنسا، التي بدأت تفقد مكانتها في منطقة الساحل”.
القدس العربي