الراصد: شاحبة حزينة، تحمل بين ذراعيها رضيعًا عمره أربعة أشهر فقط، جلست يتمطط الصمت الأعجم على شفاهها؛ قبل أن تغالبه بالبوح لـ”رأي اليوم” “توقفت حياتي”.
أمينة، فتاة في ربيعها الـ17، تعرضت للاغتصاب وهي في السادسة عشرة من عمرها، واضطرت إلى مغادرة قريتها داخل موريتانيا، بعد أن تبرأ منها الجميع؛ ليستحيل ربيع العمر خريفًا، يجلد الضحية بسياط نظرة المجتمع، وتبعات الاعتداء.
تحكي حكايتها الموجعة، وهي جالسة على كرسي بلاستيكي، ممدة الرجلين، حزينة النظرات، وتتساءل “ماهو ذنبي؟”، بينما تتساقط دمعة على خدها.
مئات الضحايا يوميًا
تمشي النساء ببطء، في شوارع العاصمة الموريتانية، نواكشوط المتربة، يتشحن ملاحفهن، يختبئن بها من أعين المتطفلين، يحرسن تحتها ألف قصة وقصة، في بلد حيث أن تكون المرأة قوية، فذلك ليس خيارًا، بل مطلب ملح.
وليس من السهل أن يكون المرء امرأة في جمهورية موريتانيا الإسلامية؛ إذ لا يؤدي الفقر وعدم المساواة العرقية؛ إلا إلى تفاقم اللامساواة الهيكلية، التي تضع النساء والفتيات في حالة من الضعف الشديد.
وتعتبر العذرية قبل الزواج من أثمن كنوز المرأة الموريتانية، الأمر الذي يؤدي إلى وصم المرأة التي لا تحافظ عليها قبل الزواج، إلى درجة لومها هي نفسها؛ في حالة تعرضها للاغتصاب.
في موريتانيا، يتم اغتصاب مئات الفتيات كل يوم؛ لكن ما بعد الاعتداء هو جحيم إضافي، يعشنه في هذه الدولة الإفريقية، بسبب مجتمع لا يرحم ضحايا العنف الجنسي في موريتانيا.
بالنسبة لهن، يستمر الجحيم بعد الاعتداء؛ يظل المعتدون بلا عقاب، بينما يتم تمييزهن وإلقاء اللوم عليهن وطردهن من المدرسة والعائلة أحيانا، تقول الضحية أمينة، “أود أن أعود إلى المدرسة وألعب كما لو لم يحدث شيء”.
وإدراكًا منها لخطورة وضع هؤلاء الضحايا، تقوم المنظمات غير الحكومية، الدولية، بإنشاء وحدات ومراكز متخصصة لخدمتهن، مثل هذا المركز الذي يؤوي الفتاة أمينة مع طفلها الصغير.
نشطاء هذه المنظمات، يكررون لهن جميعًا، مرارًا وتكرارًا؛ أنهن غير مسؤولات عن أي شيء، ويحلم هولاء المتطوعون؛ بيوم يمكن لهؤلاء الفتيات أن يدرسن ويعملن ويصبحن نساء مستقلات.
وكانت الضحايا اللواتي وافقن على الكلام مع “رأي اليوم” من اللواتي لجأن إلى أماكن تمولها منظمة “أنقذوا الأطفال” (Save The Children)؛ فليس من السهل التحدث علانية في بلد تمر فيه الاعتداءات دون عقاب، ويعتبر فيه الإجهاض غير قانوني، كما يتم تصنيف الضحايا على أنهن مذنبات.
وتعيش الفتاة الأولى، أمينة، البالغة من العمر 17 عامًا، في مركز “الوفاء”، في أحد الأحياء الشعبية في نواكشوط؛ لجأت إليه بعد أن اعتدوا عليها في عام 2020، عندما كانت تبلغ من العمر 16 عامًا.
تتذكر يوم الاعتداء، الذي “كان يوم عيد ميلاد صديقة، حضرت حفلتها، وهناك قدم لي شاب شرابًا مدوخًا… ثم اغتصبني”.
وعندما اكتشفت أنها حامل، أرادت عائلتها تزويجها له؛ لكن المعتدي رفض، ومنذ ذلك الحين، تبرأ منها الجميع واضطرت إلى الانتقال إلى عاصمة البلاد؛ لمحاولة بدء حياة جديدة، تستطيع فيها مغادرة المنزل دون وصم تمييزي.
في هذا المركز الذي تديره الجمعية الموريتانية لصحة الأم والطفل (Amsme)، عولجت في العام الماضي، 350 فتاة، كلهن ضحايا العنف الجنسي.
من بينهن فتاة من مالي اغتصبها شرطي في مخيم “أمبرة” للاجئين. هناك تعطى حبوب منع الحمل للضحية قبل مرور 72 الساعة على الاعتداء، ويتلقون دروسًا لمحو الأمية، تكوين مهني للخياطة والحلاقة.
تقول مديرة المؤسسة، سهام حمادي، أن “معظم الضحايا في سن 12، 13 و14 سنة”،
سألتها “رأي اليوم”، هل هناك شخصية محددة للمعتدين؟، فأجابت بحسرة، “إنهم في كل مكان؛ في سيارات الأجرة، في المدارس، في المساجد، من الأهل وفي بيوت العائلة…”.
“تصل العديد من الفتيات بعد شهر من الاعتداء، وفي كثير من الحالات، تُستخدم الأموال من المنظمة البريطانية (أنقذوا الاطفال- Save The Children) لدفع تكاليف الولادة القيصرية؛ فأجسادهن ليست جاهزة بعد للولادة الطبيعية”، تقول القابلة، عيشتو مبارك.
جريمة بلا عقاب
التطبيع مع الاعتداءات الجنسية في موريتانيا؛ يصل إلى حدود تتجاوز الرعب، فهي جريمة بلا عقاب.
إحدى الفتيات، تبلغ من العمر 6 سنوات ضحية، كانت ضحية اغتصاب من أحد الجيران في أيلول/ سبتمبر الماضي.
تقول والدتها “لم تكن تريد الذهاب إلى المنزل، قالت فقط إنها تريد التبول ولم تستطع… ثم رأيت أن جهازها التناسلي مليء بالدماء”.
دخلت الفتاة الصغيرة في صدمة، وبالكاد تستطيع الكلام، والدتها هي التي أرادت أن تروي قصتها من مستشفى نواديبو.
وتُظهر مثل هذه الحالات أنه على الرغم من كل شيء، فإن صوت الضحايا يرتفع في أجزاء مختلفة من البلاد، كما يحدث في نواديبو، المدينة الموريتانية الاقتصادية، الواقعة في شمال البلاد.
وعززت منظمة “أنقذوا الأطفال” و”أطباء العالم” إنشاء وحدة متخصصة في رعاية ضحايا العنف الجنسي، في مستشفى المدينة.
وفي عام 2021 الجاري، وحده، عالجت هذه الوحدة 123 ضحية، من بينهم ثلاثة صبيان. وتوضح لـ”رأي اليوم”، المساعدة النفسية الاجتماعية راماتا كين، عبر تطبيق التراسل الفوري “واتساب”، أن “أعمار معظمهن تتراوح بين سن 12 و15 سنة”.
وتقول كين “إنهم يفضلن إخفاء ذلك، وعندما يصلن إلى هنا، يكون قد مر شهر على الاغتصاب؛ ولا يكاد يوجد أي دليل على أجسادهن يظهر الاعتداء… الأمر جد معقد!”.
“هل تعرفين ما الذي يمكن أن يساعدنا؟ بناء مركز تدريب حيث يمكنهن إحضار أطفالهن، حيث يمكنهن الدراسة والتدريب وتعلم الحرف… ونأمل أن ننجح” تضيف كين بنبرة أمل.
في نواديبو أيضًا، هناك مركز حماية ممول من قبل تديره المنظمة البريطانية غير الحكومية “أنقذوا الأطفال” والحكومة الموريتانية، يهتم بالأطفال في وضع هش.
ومن بينهم أطفال مهاجرون، قاصرون تم التخلي عنهم في المدينة؛ بعد هجرة آبائهم على متن قوارب، لكنها تؤوي أيضًا فتيات وقعن ضحايا العنف الجنسي.
تمكنت “رأي اليوم” من التحدث مع إحداهن، وتقول الضحية، التي أصيبت بانهيار عصبي بعد إصابتها في الرأس، “لقد تُركت وحدي في منزل أحد أقاربي، لقد ضربني على رأسي واغتصبني لساعات”.
هذه الفتاة فتاة تعرضت للاغتصاب في سن الرابعة عشرة، لا تريد اليوم سوى العودة إلى المدرسة فقط، “في أعماقنا، نبدو كالسجناء… أعيش محبوسةً في المنزل، كما هو الحال المساجين”.
هذه الفتاة التي عاشت في ما يشبه “الإقامة الجبرية” اغتصبت من قبل الشخص الذي كان من المفترض أن يكون خطيبها، أرادت إخفاء حملها حتى فضحتها بطنها، وبعد شهر من الولادة، كانت قساوة الحياة تنتظرها.
وتحكي الفتاة، واحدة من أقصى ما تعيشه ضحايا الاغتصاب في هذا البلد، إذ يقعن بين مطرقة الاعتداء وسندان أحكام المجتمع، “كان الجميع يتحدثون عني من خلف ظهري، الأن أنا أريد أن أعود للدراسة، وألعب مرة أخرى مع صديقاتي… كما لو أن هذا لم يحدث”.
وتجبر العائلات بناتها القاصرات والمُغتصبات؛ على ترك المدرسة بعد أن يصبحن أمهات قسرًا.
أرقام البنك الدولي لعام 2001، تؤكد أن 15 بالمئة من المراهقات الموريتانيات اللواتي تتراوح أعمارهن بين 15 و19 سنة هن أمهات أو حوامل.
ويسمح مركز الحماية، في نواذيبو؛ لضحايا العنف الجنسي بمواصلة الدراسة، وهذا حلم كبير للعديد من الضحايا.
وتتذكر ضحية أخرى، أنها تعرضت للاغتصاب في عام 2020، عندما كانت تبلغ من العمر 13 عامًا؛ حيث تناوب على اغتصبها خمسة رجال، تحت التهديد بالسلاح الأبيض؛ حتى فقدت الوعي.
“ليست لدي مشكلة في أن أقول إنني ضحية…أنا لا أستحق أن أعاني من وصمة العار، ويجب على المجتمع أن يعرف أنني لست الجاني”، تقول الفتاة التي أعربت عن رغبتها الكبرى بالعودة إلى المدرسة كما تحلم، حتى تصبح مصففة شعر “لا تعتمد على رجل”، حسب قولها بالحرف.
“راي اليوم”: السالكة الغزاري