الراصد: غير صحيح أن دين الكويت يشكل معضلة أمام الاقتراض دوليا، غير صحيح أن تسوية ديون الكويت تحسن من صورة البلد أمام المقترضين، غير صحيح أن دين الكويت يشكل بالنسبة لنا إهانة، غير منصف التأسف على قرار وقف سداده، وعلى عدم سداده في أوقات الرخاء، نحن بلد لم يمر يوما على فترات رخاء منذ استقلاله.
دين الكويت، أبان عن جوانب مظلمة من تاريخ هذه الأمة، أبان عن كذبة تأميم “ميفيرما” من أجل السيادة، أبان عن انتحارية تأسيس العملة، أبان عن كذب كثير وزيف وتزييف لواقع مأساوي عاشه البلد اقتصاديا في مراحل النشأة العصيبة.
ما فائدة تأميم “ميفيرما” مقابل اقتراض الديون من دولة لم يكن همها مساعدتنا، بل كان هدفها أخذ حصة من اقتصادنا، وجعل نفسها بديلا عن المستعمر.
لقد وهب المختار ولد داداه “ميفيرما” للكويت، وحين جاء العسكر، رفضوا ذلك، توقف الدين وتوقفت مشاريع الكويت في منتصف الثمانينات، وانكشفت اليوم فقط، الأسباب الحقيقية أمام رفضنا سداد دين الكويت.
انكشفت حقيقة أن الكويت أرادت لعلاقاتها الاقتصادية بنا أن تكون مبنية على تحديد مواقف سياسية من قضايا الأمة، تسير في صالح الكويت، وهو ما رفضه قادة البلد لاحقا.
تماما كما أرادت قطر أن نكون لعبة في يدها عندما أرادت أن نتخذ موقفا معينا لصالحها، جمدت على إثره مشاريعها واضطرت الرئيس السابق إلى قطع العلاقات معها، وهو ما عبر عنه الرئيس الحالي من خلال سؤال موجه له حول عودة العلاقات القطرية، في لقاءه بالصحافة، حينما كان وقتئذ يتذكر نصائح سلفه وصديقه، لقد طالب بالندية. رغم أنه رجع بعد ذلك في مقابلة فرانص24 وقال بكل سذاجة أنه هو وقطر قرروا إعادة العلاقات فأعادوها بكل بساطة.
غير صحيح أيضا أن إعادة جدولة دين بحجم دين الكويت، وإعفاء ربوحات وفوائد وهمية تراكمت على مر السنين، رسالة سلام وأخوة وصداقة، أصلا الدول ليست بينها الأخوة، بل المصالح والمصالح فقط.
غير صحيح بالمرة القول بأن إعادة برمجة دين الكويت، أمر محمود لاقتصادنا الهش، ولمستوى نمو بلدنا اليوم، فليس هناك أي إيجابية لتسوية هذا الدين بهذه السرعة وفي هذا الظرف الاقتصادي الدقيق.
الحقيقة التي غفل عنها المطبلون لنظام ولد الغزواني ممن لا هم لهم سوى مكاسبهم الشخصية، أن زيادة الدفعات السنوية (échéances annuelles) التي ستدفعها الدولة أمر غاية في الخطورة على اقتصاد البلد، وعلى قدرته على الاقتراض، وأمر غاية أيضا في السذاجة.
لقد كانت موريتانيا تدفع أزيد من 335 مليون دولار أمريكي قسط دينها الخارجي، حيث بلغت الأٌقساط 24% من ميزانية 2019، وها هي زادت الأقساط من خلال اتفاقها مع الكويت 7.5 مليون دولار، وهو ما يعني أن نسبة الأقساط من الميزانية ستزيد في العام 2024 إلى حدود 342 مليون دولار أمريكي.
من يتغافل عن قدرة الدولة على سداد مبلغ 342 مليون دولار سنويا فهو إما جاهل بثقل الأقساط، وإما منافق يريد أن يشيد بعمل مجهد ومكلف كان يجب تلافيه.
الكويت تصنف الدين المستحق لها على موريتانيا على أنه في خانة الميؤوس منه، وكانت تحاول جاهدة البحث عن طريقة لإقناع موريتانيا بالوصول إلى إتفاق، ولعابها يسيل للغاز، والنفط والمعادن والسمك والزراعة وغيرها من مجالات فرص الاستثمار الواعدة في هذا البلد، وتعلم علم اليقين أنه فاتها الكثير من الفرص في موريتانيا بسبب هذا الدين.
هم من يحتاج لتسوية الدين، أنتم من لم يفهم موقع موريتانيا ولم يفهم حاجة الكويت الماسة في أن تدخل إلى هنا، وتعيد نفس الكرة التي قامت بها في سبعينات القرن الماضي.
أنتم من لا يفهم أن دخول الكويت هنا مصلحة لها، وأن عودة المياه إلى مجاريها من مصلحتهم أكثر من أن يكون مصلحة لنا.
لم تفاوضوا من موقع قوة رغم أن هذه هي الحال، لم تفكروا بشكل جيد، لم تطلبوا فترة سماح أطول بسبب حجم الديون، وبسبب جائحة كورونا، وبسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها البلد.
لم تفكروا مليا في طريقة تجعل الكويت تتنازل عن جزء من دينها بدل تنازلها عن جزء من فوائد ربوية الأولى أن يطلب إعفاؤها كليا باسم الأخوة إن كانت موجودة وبما أن هذا هو منطقكم، وبإسم الفرص التي من المؤكد أنها موجودة، الأولى أن يعفى أقله 15% من الدين كي يبدأ سداد الباقي. الاولى أن نتفق على فترة سماح أقله 4 سنوات، أن نتفق على سداد أقله 30 سنة.
مع الأسف فوتم الفرصة و جئتم إلينا تحاولون إيهامنا أنكم ربحتم المفاوضات، أنتم أصلا لم تفاوضوا الكويت، بل سلمتم للكويت الفرصة لتحصل على حل يمكنها من العودة إلى سوق واعد وبلد خيراته لا تنفذ، وجعلتموها تضمن أيضا سداد دين مضى عليه من الزمن ما يجعل كل دولار منه مكسب، أنتم لم تفكروا في أن الكويت سددت لنفسها هذا الدين معتبرة إياه دينا ميؤوس منه (créance irrécouvrable) وجعلتموها تحوله في رمشة عين إلى دين متوقع السداد، مع أنه تم سداده بشكل تلقائي.
لم أفهم طريقتكم في التفكير.
الأولى أن تخبروا الكويت أن ظروف البلد صعبة، وأن مثل هذا المبلغ لكي يسدد يجب انتظار على الأقل 4 سنوات، وأنكم بحاجة إلى إعفاء جزء منه، وبحاجة إلى إعفاء الفوائد الجزافية كليا، وبحاجة إلى تقسيط عادل أقله 30 سنة.
الأولى أن تستخدموا طرقا كثيرة متاحة لكم لتقنعوا الكويت بأفضل مما فعلتم، الأولى أن تستمعوا لمن سبقكم، ومن له تجربة طويلة في التفاوض مع الدول، والأولى أن تعرفوا أن دين الكويت، معضلة للكويت أكثر منه لبلدكم.
هذه أمور وجب التنبيه عليها، مع أن الأمر طبيعي أن يحدث هكذا، فنظام ولد الغزواني مصاب بعقد نفسية مريرة، بسبب الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، تفقده الموضوعية والمصداقية في التعاطي مع شؤون البلد.
لكن على وزير الخارجية ألا ينسى رحلته التي بعثه فيها الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز إلى الكويت.
على وزير مالية ولد الغزواني الحالي، ألا ينسى أن وزيره الذي كان يرأسه تم ابتعاثه مع نفس وزير الخارجية للوقوف على حقيقة هذا الدين.
مشكلة نظام ولد الغزواني أنه حين يريد استغلال حدث ما إعلاميا يفشل في ذلك لأنه يتعامل مع الأحداث من منطق الثمانينات والتسعينات.
هذه المشكلة كلفت نظام ولد الغزواني ثمنا باهظا، حيث يتابع الشارع اليوم فيديو تقرير الموريتانية في عهد ولد عبد العزيز أكثر مما يتابع مؤتمر وزراء نظام الغزواني.
مع الأسف لم يكن إعلام النظام، ووزراءه موضوعيين في تقديم المراحل التي مر بها هذا الدين، لقد حولوا بوصلة الرأي العام عن “الحدث” إلى ما أنجز قبلهم في نفس الموضوع.
أنتم يا سادة لم تفكروا في خرجتكم هذه، وتخبطتم بشكل كبير، حين حاولتم أن تزفوا خبرا على أنه إنجاز بينما هو ليس بالإنجاز، وممهداته والخطوات التي تلت ذلك ليست من صنع نظامكم، ولقد تسرعتم كثيرا في التوقيع على هذا الاتفاق، وهو ما ظهر للراي العام أنكم أخطأتم فيه، وأنكم تسرعتم، لقد فعلتم ذلك من حيث لا تدرون.
نحن نعتبر أن نظامكم أخطأ في استغلال قضية ديون الكويت.
ففي الحقيقة أن أصل الدين لم يعفى منه فلس واحد، والحقيقة الأخرى المرة أن الأرباح والفوائد لم تعفى بشكل كامل،
إننا نقلل كثيرا من قيمة الخطوة المتسرعة جدا، فهذا المسار طويل، كان الأولى أن يسير بشكل بطيء وألا نتعجل الاتفاق، وأن نبحث عن طرق وأساليب ذكية لإقناع الكويت بالتنازل عن بعض أصل دينها، وقتئذ سيقال أنه هناك انجاز.
لقد حققت الكويت إنجاز لنفسها، لكننا لم نحقق شيئا، فكل المكاسب للكويت ولنا زيادة قسط الدين الذي سنبدأ دفعه بعد فترة السماح سنتين مباشرة ليزداد علينا العبء أكثر فأكثر.
في الأخير أذكر أن هذه ثاني مرة يتفاوض فيها نظام الغزواني ويأتي بنتائج باهتة، فقد حدث ذلك سالفا في مفاوضات النظام مع “كينروس” في منتصف العام الماضي.
الخبير القضائي/ محمد فاضل الهادي