الراصد: لم يتفاجأ الكثيرون داخليا وخارجيا بانقلاب ٥..٢، نظرا للأوضاع الصعبة (على أكثر من صعيد) التي كانت تمر بها البلاد، هذا الانقلاب الذي أوصل المرحوم اعلي ولد محمد فال إلى كرسي رئاسة الدولة؛ ولا يزال هناك جدل إلى اليوم حول العقل المدبر الحقيقي لهذا الانقلاب، إذ يجزم الكثيرون على أنه الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز (حفظه الله). وعلى إثر "ثورة القصر هذه"، عاشت البلاد مرحلة انتقالية اتسمت "بحوار الصم" بين، من جهة، جناح سياسي متماسك نسبيا كان هدفه الأول الإبقاء على النظام بعد أن تم التخلص من رأسه، و إجراء بعض "الرتوشات" المؤسسية، ومن جهة ثانية، جناح آخر (متنوع) كانت القطيعة مع هذا النظام تكاد تكون عنصر التلاقي الوحيد بين مكوناته... بعد أكثر من لقاء وأكثر من تردد، تقرر في النهاية إجراء انتخابات بلدية ونيابية أولا، واستحقاقات رئاسية بعد ذلك بقليل.
يمكن اعتبار الانتخابات الرئاسية سنة ٧..٢ -وقبلها البلديةوالنيابية ٦..٢- بداية لحقبة جديدة ( خامسة) في بلادنا، حيث استطاعت القوى الديمقراطية فرض معادلة سياسية استوجبت، لأول مرة في تاريخنا الانتخابي، اللجوء إلى شوط ثان لحسم استحقاق رئاسي. لقد طلب مني "التكتل" (٦..٢) الدفاع عن أول لائحة انتخابية له -على الإطلاق- في مقاطعة باسكنو النائية، فقبلت الترشح (التحدي) الذي تحول إلى كارثة انتخابية كما كان متوقعا (فقط ثلاثة مستشارين بلديين ونسبة من رقم واحد لصالحي في النيابيات!). لقد اعتبرت وقتها أن ضيق الوقت وعدم معرفة مسبقة بهذه الدائرة الانتخابية (رغم وجود حدود مشتركة بين منطقتي "كوش" و”تلمسي"!) وشح الوسائل المادية، شكلت أهم مبررات هذه الكبوة المؤلمة ؛ إلا أن عزائي في كل ما حدث كان الهدف التاكتيكي من وراء تغطية البلاد بترشحات بعضها مرتجل، هدف التحضير المحكم للاستحقاقات الرئاسية الموالية...
وعلى الرغم من مرارة هذه التجربة على الصعيد السياسي، إلا أنها علمتني الكثير من الدروس المفيدة، واحتفظت بذكريات جميلة بخصوصها ؛ منها "التنفيس المعنوي" الذي خصني به أحد ساسة البلاد الكبار، عندما وصف ترشحي في باسكنو ب-:
“ !Une candidature de témoignage“ أي "ترشح للشهادة!"... كما أذكر تلك الليلة الباردة في "تنواگتين" عاصمة بلدية "المگفه"، غير بعيد من حدود دولة مالي الشقيقة (!)، حين أخذت الكلام أمام جمهور معتبر، بعدالاستماع إلى نغمات سحرية للفنانة الكبيرة (حفظها الله) المعلومه بنت الميداح ("امعارضين! امعارضين!"...)، فارتأى أحد مضيفينا أن يحيينا على طريقته الخاصة، فرفع مدفع "كالاشنيكوف" خلفي مباشرة ودون علمي، وأطلق وابلا من العيارات النارية في سماء الليلة المظلمة ؛ لقد أصبت بفزع حياتي! إلا أنني حاولت أن أتماسك ما استطعت، خوفا من أن يُشاع في هذه المنطقة المعروفة بشجاعة أهلها الأسطورية أن "أهل التكتل ما هم ارجال حته"!... لقد لا حظت، بعد أن اتضحت ملابسات الحادث وانتظمت دقات القلب وتحررت التعاليق، أن "الشرف تم صونه!"...
لم يعاقبني "التكتل" على هذا "الإخفاق الانتخابي"، بل تم تعييني أحد المدراء المركزيين للحملة الرئاسية (٧..٢) للمرشح أحمد ولد داداه (حفظه الله) ؛ وبوسعي أن أقول هنا إنه، ورغم الدعم الرسمي المعلن للمرحوم سيدي ولد الشيخ عبدالله، فقد نجحت النخبة المتعلمة الموريتانية في تمرير خطاب واضح بضرورة دمقرطة الحكم في البلاد وإصلاحه وترشيده... بعد هذه الانتخابات مباشرة، شرفني الرئيس أحمد ولد داداه بتعييني ضمن لجنة رباعية للتفكير حول إعادة هيكلة الحزب وتنشيطه، إلا أن مشاغل مهنية ضاغطة حالت دون مواصلة مشاركتي في أعمال هذه اللجنة.
لم يعمر -مع الأسف- أول حكم ديمقراطي موريتاني طويلا، لسبب بسيط هو أن "مخططيه" الأوائل لم يناقشوا "ما-بعد-النجاح" الرئاسي في التفاصيل وبالجدية الكافية، كما ساهم، يومها، "شركاء جدد" متمرسون في فن المناورات التفخيخية (كانوا قد قدموا لتوهم من صفوف المعارضة) في زعزعة الوضع السياسي ... وعلى الرغم من أنني كنت معارضا لهذا النظام، إلا أن المرحوم سيدي ولد الشيخ عبدالله فاجأني بعدله عندما أمر -عكسا لما نصحه به جل فريقه الحكومي ومستشاروه ولِما كنت أتوقعه شخصيا- باحترام نتائج أول (وآخر!) مسابقة حسب المعايير العالمية لرئاسة جامعة نواكشوط، فشغلت هذا المنصب وأنا ناشط في صفوف المعارضة. وبمساعدة فريق جامعي مقتدر وعلى الرغم من تحديات اعتماد نظام “ل-م-د" وتخفيض "تعجيزي" للميزانية من مليار وأربع مئة مليون أوقية إلى خمس مئة وثلاثة وعشرين ملونا فقط، تم إدخال إصلاحات جوهرية على مؤسسة جامعة نواكشوط، بعد تنظيم ثمان ورشات تشاورية متخصصة، أذكر على سبيل المثال لا الحصر : انتخاب العمداء ومختلف المجالس طبقا للأعراف الجامعية، إيقاف الولوج الفوضوي "للأستاذية" و اعتماد لوائح (استحقاقية) تأهيلية للمتعاونين...
(يتواصل إن شاء الله)