الراصد: دُونَ تَعَمٌّقٍ: ….إذا حاولنا تحليل التطور التاريخي للفلسفة الجنائية فإننا سنجد أن المجتمعات القديمة رأت أن بعض الأفعال التي يمكن أن تمس أو تهدد كيانها شرٌّ لا بُد أن يقابل بشرٍّ مثله فكانت العقوبة أو الجزاء….
و مع تطور هذه المجتمعات من بدائية … عائلية… عشائرية … قبلية …دينية…إلى أن وجدت الدولةُ بمفهومها السياسي ، أصبح الحق في العقاب، والحق في توقيعه على من يعتدي على أمن المجتمع، حِكر ا على هذه الدولة.
ومن هنا بدأ تحليل السلوك الإجرامي يخضع لتحليلات قانونية موضوعية تقنِّن كل عمل إجرامي مع تحديد” السعر” الواجب أداؤه للمجتمع، وذلك في شكل عقوبات محددةٍ سلفا، لتتجه فيما بعد إلى النظر للجريمة بكونها ظاهرة طبيعية “أبدية” ملازمة لكل مجتمع بشري، ترتبط في جزئها الأكبر بالعوامل الاقتصادية، و الاجتماعية، والثقافية، يقابلها الجزاء، وإنْ بصورة غير متكافئة؛ وعليه يكون من الواجب معاملة الجانح معاملة إنسانية تهدف إلى محاولة الحفاظ على أواصر العلاقة الاجتماعية القائمة بين المحكوم عليه، والمجتمع عن طريق محاولة الإصلاح، وإعادة التأهيل مع بقاء العقوبة ليس فقط لأنها تقدم خدمة للمجتمع؛ لاستحالة وجود ما يعوضها كما يقول الفقيه “G. Tarde” ، بل هي الردع، لو طبقت بطريقة فعالة.
إن هذا الحراك الفكري أفرز نظاما للعقوبات الجنائية يرتكز أساسا على العقوبة السالبة للحرية ( السَّجن) كعقوبة مركزية ” peine centrale ” ، سواء انطلقنا من:مبدإ التكفير عن الذنب الذي يسميه إيمَانْوَيل كانت بـ”الجزاء” وعنه يدافع إِيمَيلْ دُورْكْهَايْم قائلا: “إن الألم الذي يعيشه المتهم هو الذي سيعالج الشر الذي تسبب فيه، لأنه نوع من التكفير عن الذنب..”، أو اعتمدنا على مبدإ الإبعاد عن الجريمة بالنظر إلى مستقبل الفرد كما نجد عند سيزار بكاريا منظِّر الفسلفة الوقائية، أو نظرنا الى مبدإ الحد من العدوان بمنع المجرم من القيام بعدوان آخر، عن طريق علاجه وإعادة تأهيله.
وبعد كل هذا نجد الفكر الجنائي الحديث يتوصل إلى مسلَّمتين مهمتين:
الأولى: أن العقوبة [السَّجنية] ليست نوعا من العلاج المتكامل كما كان ينظر إليها عموما من طرف علماء الإجرام التقليديين، بل لا تملك إلا سلطة محدودة لمحاربة الإجرام؛
والثانية: أن السجن يقتل في الإنسان جميع الخصال التي تجعله أكثر تأقلما مع الحياة في المجتمع.
لقد بُني على هاتين المسلمتين قاعدةٌ يقينية هي أن العقوبة السجنية ذات ساق عرجاء تحاول عبثا ملاحقة الجريمة.
وهو ما أثبتته كافة التجارب التي مرت بها السجون والأنظمة التي تم تجريبها لتسيير الفضاء السِّجْني كــــ:
النظام الجماعي. الذي يتم من خلاله الجمع بين المحكوم عليهم في عنابر، ويتمُّ إطعامهم جماعيا، وإن كان هذا النظام يقلل من تكلفة وأعباء التكفل بالسجناء ويساعد على التوافق النفسي والاجتماعي للسجناء، إلا أنه يساعد على خلق وتطوير الثقافة الإجرامية داخل السجن ، وافراز الزعيم الروحي لدى السجناء الذي يحاول كل سجين الاقتداء به.
النظام الانفرادي. الذي يتم من خلاله توزيع المسجونين انفراديا ليلا ونهارا لتقليل انتشار ثقافة الإجرام والتكفل الفردي وترسيخ الشعور بالندم لدى السجين، إلا أن التكلفة الباهظة له، وغياب التفاعل الاجتماعي يؤديان إلى موت الروح الاجتماعية المساعدة في عملية الإصلاح والتأهيل.
النظام المختلط. الذي جمع بين النظامين السابقين ويمكِّن من اختلاط المحكوم عليهم مع بعضهم البعض نهارا وأثناء تناول الطعام والعمل والتكوين لكن بدون كلام وعزلهم كل على حده ليلا، إلا أنه بالنظر إلى صعوبة مراقبة حالة الصمت هذه فضلا عن ما توَّلِّد هذه الحالة من الكبت الذي يسفر لا محالة عن التمرد الدائم داخل هذا النوع السجون.
النظام التدريجي. الذي من خلاله ينتقل المسجون تدريجيا من الحياة المأساوية إلى الحياة الحرة بإتباع سياسة صارمة للإصلاح والتأهيل بواسطة الانتقال من: مرحلة العزل الفردي حتى تتحسن سلوكه، إلى مرحلة الحبس الجماعي والاندماج في الوسط الاجتماعي السِّجني بحيث يُسمح له بالاندماج والاختلاط والعمل الجماعي نهارا مع العزل ليلا، تمهيدا إلى الإفراج المشروط بالسماح للسجين بالعمل خارج أسوار السجن في بيئة شبه مفتوحة، إلا أن هذا النظام يجمع كل مساوئ الأنظمة السابقة؛ فشل هو الآخر لتعلقه بسياسة التأهيل التي تحول دونها التكلفة، والاكتظاظ والاختلاط والكبت النفسي، وصعوبة الرعاية اللاحقة، ومراقبة التدابير البديلة.
و على الرغم من أن المجمع الدولي وضع إطارا مثاليا لمعاملة المجتمع السجني من خلال اعتماد بعض القواعد النموذجية – كـ:
القواعد الدنيا لمعاملة السجناء التي تمخض عنها المؤتمر الأول للجريمة سنة 1955 وأقرها المجلس الاقتصادي سنة 1957.
قواعد طوكيو الخاصة بالتدابير الاحترازية لسنة 1990.
قواعد بيجين الخاصة بإدارة شؤون فضاء الأحداث لسنة 1985.
قواعد بانكوك الخاصة بمعاملة السجينات والتدابير غير الاحتجازية لسنة 2010.
مبادئ الرياض التوجيهية حول رقابة جنوح الأحداث لسنة 1990.
قواعد هافانا لحماية الأحداث المتنازعين مع القانون لسنة 1990.
إعلان أورشا حول الممارسات الجيدة في مجال السجون.
إعلان كامبالا حول ظروف الاعتقال في إفريقيا.
إعلان وغادوغو حول تسريع الإصلاحات في المجال الجنائي والسجون في إفريقيا
إلا أن السجون تشكل اليوم فضاء مؤرقا للمجتمع ينم عن تفاقم أزمة السجون الحالية.
لقد عكست غالبية التشريعات الوطنية روح تلك المواثيق الدولية الآنفة، وأحكمت تطبيقها وكرست لها قوانين خاصة تسير الفضاء السجني ومنها بلدنا الذي صادق على كافة المواثيق الحقوقية الدولية، المشكلة للإطار الحقوقي للسجون اعتمادا على الترتيبات الدستورية والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها موريتانيا والتي أراد المشرع أن تعكسها القوانين التنظيمية، ومنها المرسوم رقم: 098\78 المعدل للمرسوم رقم: 152\70 المتضمن التنظيم الإداري ورقابة المؤسسات السجنية، والمرسوم رقم: 153\70 المحدد للنظام الداخلي لها، والمقرر رقم: 1524 بتاريخ: 09\09\2003 المتعلق بالنظام الداخلي الخاص بمراكز إصلاح الأطفال المنحرفين.
ورغم أن تمثلها لتلك المقتضيات الحقوقية النموذجية ما زال بعيدا عما نصبُو إليه اليوم؛ لأسباب من بينها:
ضعف الإطار التشريعي والمؤسسي الذي يخضع له السجن وطنيا، والتشبُّث بآلية الإشراف الإداري المحكم على السجون؛
عدم تفعيل الإشراف القضائي من خلال مؤسسة قاضي تطبيق العقوبة المنصوص عليه في المواد: 637/639 من قانون المسطرة الجنائية،
إلا أننا لن نعتمد التطبيق الوطني كنموذج أمثل للتدليل على هذا الفشل نظرا إلى فشل أغلب التطبيقات الدولية المعاصرة التي يجسدها بوضوح واقع السجون المزري.
ما يجعلنا نستخلص مسلمة تقودنا إلى فشل العقوبة السجنية، وإلا يكن ذلك فوجاهة القول بأنها تعيش في الوقت الحالي أزمة مُدويَّة.
وهو ما جعل العالم اليوم يتجه إلى إلغاء العقوبة السالبة للحرية القصيرة تمهيدا إلى إلغائها نهائيا باستبدالها ببدائل تستجيب للنداءات الأممية المتصاعدة التي صدحتْ بها التوصيات الصادرة عن المؤتمرين السادس والسابع للأمم المتحدة للوقاية من الجريمة المنعقدين في كاراكاس وميلانو 1980\1985 المتضمنة ضرورة الانتقال من نظام لا توجد فيه إلا العقوبة السالبة للحرية إلى نظام توجد فيه بدائل أخرى لهذه العقوبة، وأكثر هذه البدائل شيوعا وإعمالا اليوم :
وقف التنفيذ البسيط Le sursis simple ،
وقف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبارLe sursis avec la mise à l’épreuve ،
العقوبة المالية،
العمل للمصلحة العامة TIG،
البقاء بالبيت؛
الوضع تحت المراقبة الالكترونية Le placement sous surveillance électronique ؛
الوضع تحت الاختبار La mise à L’ épreuve؛
تأجيل النطق بالعقوبةLa dispense de peine et de l’ajournement ؛
تأجيل النطق بالعقوبة مع الوضع تحت الاختبار Ajournement avec mise à l’épreuve؛
الإنذار؛
التشهير؛
والمراقبة القضائية، والإدارية ؛
والإقامة الإجبارية؛
والتدريب الإجباري؛
والحبس الجزئي..إلخ
لقد كانت المنظومة العقابية الإسلامية رائدة وسبَّاقة إلى هذه الخلاصة، والاستخلاص الذي توصل إليه الفكر الجنائي الوضعي أخيرا.
ذلك أن هذه المنظومة تنطلق من تصور مُحكم للعقوبة، فالعقوبة في الشريعة لا يصح أن تزيد عن حاجة الجماعة، كما لا يصح أن تقل عن هذه الحاجة وهو ضابط يحكم العقوبة التعزيرية بالأخص لخلوِّها من نصٍّ شرعي ثابت كما هو الحال في الحدود والقصاص والديات وتأسيسها على مصلحة الأمة
ولذا لم تكن العقوبة السجنية عقوبة مركزية في هذه المنظومة ، بل دخلتها من زاوية التعازير الموكولة للأمة وفق ما تقتضيه مصلحتها.
فالسجن في عرف فقهاء الشريعةلا يعدو: “تعْوِيق الشَّخْصِ ومنعه من التَّصَرُّفِ بنفسه، والْخروج إلى أَشغاله ومُهمَّاتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالاجتماعيّة”، وهذه الدِّلالة تبين مدلوله الذي هو تعويق الإنسان عن التصرف في نفسه بواسطة حبس أو إقامة يسميها ابن تيمية التَّرْسِيمْ (الإقامة الجبرية)، أو ملازمة كتتبع الغريم للغارم حتى يؤدي ما عليه من دين بحكم من قاض، لكن ليس من لوازمهما آنذاك الْجَعْل فِي بُنْيَانٍ خَاص مُعَدٍّ لذلك.
ورغم الخلاف الذي دار حول هذه الأنواع من “التعويقات” وجودا وانعداما في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فان الإجماع منعقد بين الفقهاء والمؤرخين على أن السِّجْن بكسر السين الذي يعني لغة مَكَان الحَبْسِ، لم يوجد في عصره الطاهر؛ لذا قال ابن حزم في المُحَلَّى “وأما السِّجن فلا يختلف اثنان في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له قطُّ سِجْنٌ”، وفيما بعْدُ وابتداء من [زمن عمر بن الخطاب، وقيل معاوية بن أبى سفيان كما ذكره المَقْرِيزِى في الخِطَطِ]، أَفْرَدَ الْحُكَّامُ الْمُسْلِمُونَ أَبْنِيَةً خَاصَّةً لِلْحَبْسِ سموها سُجونا، وَعَدُّوا ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَة، وقد بقي ابن فرحون في التَّبْصِرة مصرًّا على أن هذا الحبس ليس هو السجن في مكان ضيق وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه حيث شاء، بل أورد نقلة رائقة عن الإمام محمد بن فرج الملقب بابن الطَّلاَّع المالكي الأندلسي حول اختلاف العلماء في الآثار المروية حول نمط هذا الحبْس.
ومن بعد ذلك بسط الفقهاء البحث حول دواعي الحبس ومنهم القَرَافِي في الفرق 236 من فروقه حين بيَّن ما يُشرع من الحبس وما لا يشرع وعدَّ من بين دواعيه الثمانية: حبس الجاني لغيبة المجني عليه حفظا لمحل القصاص، وحبس الجاني تعزيرا وردعا عن معاصي الله.
وقد زاد المتأخرون عليها حبس الاختبار لمن ينسب إليه فعل السرقة والفساد وهو الحبس الاحتياطي اليوم، ومعلوم أن هذه الأوجه كلها من باب التعزير، والتعزيز فقها يسقط بمجرد التوبة لقول القَرَافِيِّ نفسه: “إن التعزير يسقط بالتوبة وما علمت في ذلك خلافا”.
ولئن أختلف الفقهاء في مشروعية الدواعي الآنفة إلا أنهم لم يختلفوا أبدا في أن سجن المُدَدِ كانت قصيرة أو طويلة (الحكم بسنوات محددة) المنتشر اليوم في العالم الاسلامي، والمبثوث في القوانين الجنائية المعاصرة، لا يجد أصلا شرعيا ولا مستساغا ولا يستند إلى دليل إلا من باب التوسع غير المبرَّر في التعازير ومعلوم أن التعزيز متنوع فقها، وموكول للإمام لقول خليل: “وعزَّر الإمام بمعصية الله أو لحق آدمي حبسا، و لوما، وبالإقامة، ونزع العمامة، وضرب بالسوط، أو غيره…” وفي هذا دلالة على اختيار المناسب الصالح للزمان والمكان ولو بدون مثال سابق في السنة أو عمل الصحابة رضي الله عنهم، وهذا صحيح من حيث التقعيد، وتوصل إليه الفقهاء اجتهادا وتخريجا، من جميل تخريج علماء هذا القطر ما دبجه العلامة مَحَنْضْ بَابَهْ ولد اعبيد الدَّيْمَاني وهو أحد أبرز علماء القرن [13هـ] في فتواه حول العقوبة بالمال كبديل عن السجن يقول العلامة محنض بابه ولد عبيد الديماني:” الحمد لله والصلاة والسلام على محمد واله وأصحابه. وبعد فان العقوبة بالسجن والضرب ازجر واردع لأهل الظلم من العقوبة بالمال فان لم يكن إلا هي فإنما تؤخذ من الظالم وحده بلا إعانة قريب له ولا بعيد لان إعانته تغريه على ظلم من شاء أن يظلمه” .
إن غزارة البدائل التعزيرية الشرعية التي تحول دون اعتماد و شرعنة هذه العقوبة السجنية المحدَّدة المدَّة، تغني عن جعلها عقوبة مركزية في منظومتنا الجنائية الوطنية ذات الخلفية الإسلامية الواضحة، وهو ما نحن في غنى عنه اليوم إذا ما نظرنا إلى الفشل المدوي لهذه العقوبة الذي تقرُّ به الدول ذات التاريخ العريق في إيجاد وتطبيق سياسة الإصلاح والتأهيل داخل السجون، وتطبيق المعايير الدولية بكل صرامة، ويحتم اللجوء الى مراجعة سريعة وعاجلة لمنظومتنا الجنائية من أجل تقنين عقوبات بديلة ، مع ضرورة التركيز في الوقت الحالي على إعادة التأهيل والإصلاح داخل المؤسسة السجنية الوطنية، حتى لا يتحول السجن إلى موت مدني مقنَّن.
وما شكٍّ أن التركيز على إعمال القواعد النموذجية المتعلقة بفصل وتصنيف السجناء، والتكوين، والعمل داخل هذه المؤسسة هي أمور يمكن أن تخفف من وطأة الفاجعة حتى لا يفوت الأوان.