تجلس فاتو محمود على مقعدها الخشبي، تهيئ فطائرها المعدة على عجل، لبيعها في حي "مسجد المغرب" الشعبي، في العاصمة الموريتانية نواكشوط، تُغلّف هذه الفطائر بأوراق تعود إلى أرشيف الإدارة الموريتانية، وتحديداً وزارة التنمية الريفية.
فاتو محمود بائعة فطائر تستعمل الوثائق الإدارية في تغليف بضاعتها.
ليست فاتو وحدها من تستعمل وثائق إدارية قديمة في مجال عملها، فمعظم الباعة المتجولين وأصحاب المطاعم الشعبية يحتاجون يومياً في عملهم إلى هذه الأوراق، في ظل منع الدولة الموريتانية من استخدام الأكياس البلاستيكية.
"أشتري هذه الأوراق من سوق لحموم، في وسط العاصمة. ويكلفني الكيلوغرام الواحد منها 20 أوقية جديدة (حوالي نصف دولار أميركي)"، تقول محمود، التي تشير إلى أنها لا تعرف مصدر هذه الأوراق، إلا "أنني تعودت شراءها من هذه السوق منذ ثلاث سنوات".
الأرشيف الذي ضاع
يقول محمد ولد جبريل (اسم مستعار)، الموظف في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، "تتعدد أنواع الوثائق الإدارية التي يتخلص منها القائمون على الأرشيف الإداري. هناك مذكرات عمل داخلية ولوائح تنظيمية وقرارات إدارية داخلية خاصة بتنظيم المرفق العام، الذي تعود إليه هذه الوثائق".
وتعتبر إدارة الضرائب الموريتانية والخزينة العامة وصندوق الضمان الاجتماعي وصندوق التأمين الصحي من أكثر الإدارات التي تنتشر وثائقها في سوق الوثائق الإدارية في العاصمة.
وعلى الرغم من خلو هذه الوثائق من طابع السرية، فإنها تُعطي انطباعاً عن الإهمال الإداري للمتخصصين في التوثيق والأرشفة، ويعتبر الشيخ إبراهيم محمد الأمين، أستاذ التوثيق في كلية الآداب بجامعة نواكشوط، أن "أمة بلا أرشيف هي أمة بلا تاريخ"، ويضيف "يوجد الكثير من الإهمال والتلاعب في موضوع الوثائق العامة في موريتانيا، بسبب غياب الأرشيفيين المتخصصين".
ويسرد العيد ابن مسعود، وهو بواب في إدارة الضرائب الموريتانية، كيف أنه اعتاد تصريف الفائض عن مكاتب الأرشيف في إحدى الإدارات في نواكشوط، حين تمتلئ المكاتب بالوثائق، ويقول ابن مسعود "يطلب مني المدير إخراج الوثائق، فأقوم باستئجار سيارة لنقلها إلى سوق مسجد المغرب أو سوق لحموم، حيث يشتريها تجار الوثائق بالجملة". ويشير الأمين إلى أن إهمال الوثائق الإدارية بلغ "حد ضياع وثيقة الاستقلال، على الرغم مما تمثله من رمزية وأهمية تاريخية للأمة الموريتانية".
وثيقة الاستقلال... ضاعت
فقد ضاعت الوثيقة قبل عقد من الزمن، وفق الباحث في التاريخ محمد ولد سيدي، الذي يقول "في إطار بحثي قبل سنوات، طلبت من إدارة الأرشيف الوطني تزويدي بوثيقة الاستقلال لتصويرها وإعادتها، لكنهم اعتذروا مرات متكررة، لتخبرني لاحقاً إحدى العاملات في الإدارة أن الوثيقة ضاعت بعدما أخذها باحث من الأرشيف الوطني لغرض البحث، ولم تعد إلى خزائن الأرشيف".
وأثارت حادثة اختفاء وثيقة الاستقلال امتعاض العديد من المثقفين الموريتانيين والأكاديميين المتخصصين في التاريخ الموريتاني المعاصر، ويقول موظف متقاعد من الأرشيف الوطني، فضل عدم ذكر اسمه، إن "وثيقة الاستقلال ضاعت فعلاً قبل عقد تقريباً، بفعل عدم صرامة القائمين على الأرشيف، إلا أن الوضع تغير الآن". ويضيف ولد سيدي "ما يتوفر الآن في الأسواق من وثائق هو النسخ الكربونية غير الموقعة من الإدارة، التي لا تحمل أي قيمة إدارية، بينما يسترزق منها بعض البوابين".
تسريب الوثائق
ويرى عبد القادر ولد سيداتي، الباحث في الإدارة الموريتانية، أن "الأرشيف الخاص بالإدارة الموريتانية ينقصه الكثير من إعادة الحفظ وضبط الأرشفة بالطرائق العلمية الحديثة، لكن من الملاحظ في الفترة الماضية أن تسريب الوثائق الإدارية تراجع إلى درجة كبيرة".
ويُقسّم الأمين المراحل التي تمر بها الوثيقة، "فالأرشيف الجاري عمره خمس سنوات، والأرشيف الوسيط يبدأ من خمس سنوات إلى عقد، وتحفظ فيه الوثائق التي توقف العمل بها"، أما الأرشيف النهائي، الذي يضم الوثائق التي اكتسبت طابعاً تاريخياً، فيُحفظ في الأرشيف الوطني داخل مبنى الرئاسة الموريتانية.
أرشيف للبيع
يتحدث ولد جبريل بكثير من المرارة عن ضياع الوثائق الإدارية الموريتانية، ويقول "حين فاضت مكاتب المؤسسة بأرشيفنا الإداري، قرر المدير استئجار منزل متاخم للمؤسسة وعهد إلى مصلحة الأرشيف تخزين المعاملات فيه. وبعد أشهر امتلأ المنزل. فنحن مؤسسة خدمية (الضمان)، ويتعدى إنتاجنا اليومي الألفي ورقة، فاضطر المدير إلى استئجار منزل آخر. وبعد فترة طلب من البوابين التخلص من وثائق المنزل الأول. فباعها البوابون بالأطنان إلى تجار الورق في سوق لحموم".
470 دولاراً للطن الواحد
يبلغ سعر طن من الأوراق الإدارية الموريتانية في هذه السوق 16 ألف أوقية جديدة (حوالي 470 دولاراً أميركياً)، وفق فاتو محمود، وتحول بيع الوثائق في السنوات الماضية إلى مهنة لقدامى بوابي الإدارة الموريتانية، الذين تحولوا إلى أكبر مزود لهذه المادة، التي يحتاج أصحاب المطاعم إليها في عملهم اليومي، في سوق متعطشة لوسائل التغليف المرتفعة الثمن في موريتانيا، وفق ولد جبريل.
يضيف ولد جبريل "تنص الهيكلة الوزارية في موريتانيا على اعتماد مصلحة للأرشيف والتوثيق. وكثيراً ما تكون مُسمى وظيفياً للأشخاص غير المرغوب فيهم. فهي في الغالب مكاتب رطبة تُكدس فيها الوثائق طوال العام. وحين تفيض بأطنان الأوراق تبدأ عملية نقل الوثائق"، ويشير إلى أن مديري المؤسسات العامة هم من يتخذون قرار التخلص من هذه الوثائق، و"ينفذه رؤساء مصالح الأرشيف، في حين ينفذ عملية الإخراج البوابون المتلهفون إلى دخل عرضي يُنعش محافظهم الخاوية".
قانون الأرشيف
ينظم الأرشيف في موريتانيا وفق مواد المرسوم الرقم 283/94، الصادر في 15 أكتوبر (تشرين الأول) 1994.
ووفق محمد المامي ملاي أعل، المحامي المعتمد في المحاكم الموريتانية، "تنص النظم عادة على حفظ نسخ من الوثائق الرسمية في الأرشيف، بالإضافة إلى النسخ الأخرى التي تحال إلى المعنيين، لكن، للأسف أحياناً يلاحظ وجود بعض هذه الوثائق في الأسواق بسبب عدم إتلاف المسودات والنسخ غير المستعملة، لكن الأمر الذي قد يبدو بسيطاً لا يخلو من تبعات قانونية، خصوصاً عندما تكون هذه الوثائق ذات طابع سري، أو تتعلق بها حقوق ستكون عرضة للضياع في حالة التلاعب بهذه الوثائق أو تزوير محتوياتها، فضلاً عن مساس الأمر بهيبة الدولة. وتكون المسألة أكثر خطورة إذا تعلقت بالقرارات والأحكام القضائية، لأن العبث بها قد يعرض الفاعل للمساءلة بجنحة التقليل من أهمية القرارات القضائية".
مرسوم... الأرشيف
وينص المرسوم المنظم لعمل الأرشيف الوطني الموريتاني على أن مدير الأرشيف الوطني هو بمنزلة مستشار في الوزارات كافة، أي أنه معني بمراقبة الوثائق الموجودة داخل الوزارات وإضافتها إلى إدارة الوثائق الوطنية كلما اقتضت الحاجة. ولا يسمح القانون الموريتاني بإخراج الوثائق إلا لأغراض البحث العلمي، ولا ينص صراحة على مدة زمنية للإفراج عنها، كما لا توجد مادة تنص صراحة على كيفية اتلاف الوثائق ولا طريقة التخلص من الوثائق الإدارية.
مشكلات أمام القضاء
تُلقي قضايا ضياع الوثائق الإدارية بظلالها على حالات التقاضي العديدة المطروحة أمام القضاء الموريتاني، وتكثر هذه الحالات في مجال العقارات تحديداً، ووفق الأمين "تتسبب الوثائق الضائعة من أرشيف الادارة الموريتانية، خصوصاً وزارة الاسكان، المعنية بقضايا العقارات، بنشوب العديد من النزاعات بين المواطنين، الذين يجدون صعوبة في إثبات ملكيتهم للأراضي التي منحتها لهم الدولة، إذ كثيراً ما تضيع أصول هذه الأراضي كلما تقادم تاريخ إصدارها".
وعن مدى إسهام إهمال حفظ الوثائق الإدارية المتعلقة بالعقارات في إذكاء النزاعات بين المواطنين أمام القضاء، يقول ملاي أعل "بالتأكيد، لأنه يسهل عمليات التزوير، والاستفادة من معطيات الوثائق الرسمية المهملة".
الأرشيفي المتخصص
"لا بد من وجود أرشيفي متخصص في كل مرفق عام في موريتانيا"، بهذه الكلمات يختصر الأمين حل مشكلة ضياع الأرشيف الموريتاني، ويضيف "الأرشيفي المتخصص هو الوحيد الذي يمكنه أن يُميز بين الوثيقة الأصلية والوثيقة الزائفة، بسبب امتلاك الأدوات الفنية اللازمة". ويستطرد "من خلال كتابة الوثيقة ونوع الحبر الذي كتبت به، يستطيع الأرشيفي التعرف إلى اصالة الوثيقة وخلوها من التزوير، كما أن نوع كتابة الوثيقة يُحدد هل هذه الكتابة كانت معتمدة في التاريخ الذي صدرت فيه الوثيقة، وحتى أنه يمكنه الكشف على التوقيع الذي ختمت به الوثيقة ونوع الدعامة، ولا أحد غير الأرشيفي يمكنه التعرف إلى هذه التفاصيل".
وكانت الحكومة الموريتانية سعت من خلال إنشاء الوكالة الوطنية لسجل السكان والوثائق المؤمنة إلى ضبط هذه الحالة المدنية، التي كانت وثائقها تشهد إهمالاً منقطع النظير قبل تأسيس هذه الوكالة.