
الراصد : قالت الرابطة الوطنية لمستثمري الصيدليات إن "المنظومة التشريعية شهدت خلال فترات متعاقبة، صدور نصوص قانونية فُرضت وجرى تطبيقها بصورة قسرية وإجبارية" طبقا لنص البيان التالي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام علي حبيبنا ورسولنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
قراءة في التشريع والواقع
حين يتحوّل التنظيم إلى إكراه
من قانون المسافة إلى نزع الاستثمار قسرًا:
مساءلة تشريعية أمام الرأي العام
لقد شهدت المنظومة التشريعية، خلال فترات متعاقبة، صدور نصوص قانونية فُرضت وجرى تطبيقها بصورة قسرية وإجبارية، في سياقات يغلب عليها أحد مسارين لا ثالث لهما:
قصدٌ كيديٌّ واعٍ يبتغي تحقيق مصالح ضيقة تحت غطاء التشريع، أو جهلٌ مهنيٌّ مؤذٍ ناتج عن ضعف الفهم، وتعقيد الملفات، وسوء التقدير.
والنتيجة، في الحالتين، واحدة: إرباك القطاع، كبح عجلة التطور البنّاء، زعزعة الاستقرار، وضرب الثقة في القانون باعتباره أداة تنظيم وإصلاح، لا أداة تصفية أو عبث. وهو مسار بالغ الخطورة، يتعيّن على الدولة أن تتنبه له بوعي ومسؤولية، وألا تقبل باستغلال بعض مسؤوليها، وإن بحسن نية، بعض الشعارات من قبيل “هيبة القانون”، لأن هيبة القانون لا تُصان بالإكراه، بل تُهدر حين يُستخدم القانون أداة للهدم بدل البناء، فيقود — لا محالة — إلى مسارات مسدودة تهدد الدولة والمجتمع معًا.
التمييز الضروري: مسؤولية قانونية وأخلاقية
إن التمييز بين هذين المسارين لا يدخل في باب الجدل السياسي ولا في توصيف لغوي عابر، بل هو تمييز قانوني وأخلاقي جوهري يترتب عليه اختلاف جذري في طبيعة المسؤولية، وفي آليات المساءلة والمحاسبة.
فالتشريع الكيدي الواعي يُعدّ فعلًا إجراميًا مكتمل الأركان، يقوم على انحراف الغاية، وسوء استعمال السلطة، واستغفال صانعي القرار، والعبث بمصالح الوطن عبر توظيف الدهاء في استغلال حسن النية المفترضة لدى المسؤولين. وهو مسار يستوجب التتبع والتحقيق والمساءلة الصارمة، صونًا للدولة وهيبتها الحقيقية.
أما التشريع الناتج عن الجهل وسوء التقدير، فهو فشل جسيم في الكفاءة وتحمل المسؤولية، لا يقل خطرًا في نتائجه، ويستوجب بدوره محاسبة إدارية ومؤسسية واضحة، حمايةً للمرفق العام، وصيانةً للثقة في الدولة ومؤسساتها.
وانطلاقًا من ذلك، فإن مسؤولية الدولة لا تقتصر على معالجة الآثار بعد وقوع الأضرار، بل تفرض — بصفتها ضرورة سيادية — إرساء آلية مستقلة ودائمة للرصد والتقييم والمساءلة، تضم حكماء مجرَّبين، متقاعدين أو غير مرتبطين بوظائف رسمية، مشهودًا لهم بالكفاءة والنزاهة والاستقلال، لا صلة لهم باللوبيات أو المصالح الضيقة. على ان تضم هذه الآلية ايضا قانونيين، وخبراء، ومستثمرين، وممثلين عن مختلف القطاعات الوزارية، لا يجمعهم إلا الاحتكام إلى المصلحة العامة، ويُقصى منها كل من تحكمه المصالح الضيقة أو الهيمنة النقابية أو الجهوية.
كيف تُمرَّر القوانين المشبوهة؟
تُظهر التجربة العملية أن أغلب القوانين غير الناضجة تُمرَّر في ظروف متشابهة، غالبًا ما تكون لحظات انتقالية حسّاسة، تقودها جهة واحدة من داخل القطاع، تربطها مصالح مشتركة، وتستثمر لحظة تعيين وزير جديد لم يُتح له بعد الاطلاع العميق على الملفات المتراكمة، ولا تُمنح له الفرصة الزمنية والمؤسسية الكافية للاستماع المتوازن إلى جميع الشركاء.
فيُقدَّم له ملف مُعلَّب، وتُسوَّق رواية واحدة باعتبارها الحقيقة الكاملة، ويُصوَّر له طرف بعينه — هو الطرف المستهدف — بوصفه “الخطر”، حتى يقتنع، عن حسن نية، بأن استهداف هذه الجهة هو “المصلحة العليا”، فيُدفع بعيدًا عن الاستماع للرأي الآخر، وفي غياب أي تحليل موضوعي أو تقييم علمي للأثر التشريعي والاقتصادي والاجتماعي.
قانون المسافة: مثال صارخ على خلل المنهج
يُعدّ ما عُرف بـقانون المسافة بين الصيدليات مثالًا نموذجيًا على هذا النمط من التشريع. فقد سُوِّق له باعتباره الحل السحري لمشاكل قطاع الدواء، بذريعة “اللحاق بدول الجوار” و”التشبه بها”، وكأن الإبداع التشريعي حكر على غيرنا، وكأن واقعنا لا يستحق أن تُستنبط له حلول من داخله.
وهنا يبرز السؤال الجوهري الذي لم يُطرح بجدية:
ألا يحق لنا أن نبتدع حلولًا من واقعنا، تنفعنا أولًا، وربما تُفيد غيرنا؟
ثم السؤال الأعمق:
هل تتطابق، أو حتى تتقارب، خصوصياتنا الديموغرافية والجغرافية والعمرانية والاقتصادية مع دول الجوار؟
والجواب الموضوعي، وفق أي معيار علمي، هو: لا.
فنحن نختلف جذريًا في عدد السكان وتوزيعهم، والكثافة السكانية داخل المدن والأحياء، والبنية العمرانية، وأنماط الولوج إلى الخدمات الصحية، وحجم الطلب الفعلي على الدواء.
ومع ذلك، جرى استنساخ رقم جامد (200 متر مثلًا)، فُرض على جميع المدن والأحياء، دون أي ربط علمي بهذه المعطيات، ودون ملامسة حقيقية لواقعنا، ودون دراسة تُبيّن أثره الفعلي على وصول المواطن إلى الدواء. ولو جرى اعتماد هذه المؤشرات أساسًا للتنظيم — عبر توزيع الصيدليات وفق الكثافة السكانية والحاجة الفعلية — لكان التنظيم أقرب إلى العدل والمنطق.
أما النتيجة العملية، فلم تكن تنظيمًا، بل:
•أعباء مالية جسيمة تحمّلها المستثمرون نتيجة التحويل القسري وتباعد الصيدليات،
• حرمان المواطنين من خدمات دوائية كانت قريبة وسهلة المنال،
• زيادة المشقة على المسنين والمرضى والفئات الهشة،
• وارتفاع كلفة الوصول إلى الدواء على المواطن.
• ولو كان الهدف فعلًا هو التنظيم، لكان المنهج السليم هو:
• إحصاء عدد السكان في كل مدينة،
• قياس الكثافة السكانية في كل حي،
• تقسيم المجال العمراني وفق هذه المعطيات،
• ثم ربط عدد الصيدليات بالحاجة الفعلية للسكان.
عندها فقط يمكن الحديث عن تنظيم عقلاني، قائم على معايير واضحة، قابلة للتفسير والدفاع عنها قانونيًا.
من المسافة إلى الإقصاء: نزع الاستثمار قسرًا
غير أن قانون المسافة لم يكن سوى حلقة في مسار أوسع، سرعان ما قاد إلى طرح أخطر: إخراج المستثمر قسرًا من الصيدليات، وفرض ملكية الصيدليات حصرًا على الصيادلة.
وهنا يفرض الواجب طرح الأسئلة بوضوح أمام الرأي العام:
هل الخلل في وجود المستثمر أم في ضعف الرقابة؟
•هل المشكلة في التمويل أم في سوء التنظيم؟
وهل يُعقل معالجة اختلالات قطاع صحي بإقصاء من أسهم في بنائه لعقود؟
لقد اضطلع المستثمرون الوطنيون بدور محوري، في ظروف صعبة وضعف في البنية الصحية، في إنشاء شبكة دوائية غطّت المدن والأحياء، وضمنت توفر الدواء في أحلك الظروف. واليوم، بدل تثمين هذا الدور وتنظيمه وتصحيحه، يُطرح إقصاؤهم قسرًا، دون تعويض عادل، ودون مرحلة انتقالية، ودون بديل واقعي يضمن استمرارية الخدمة.
أما فرض الملكية الحصرية على الصيدلاني، فيُقدَّم كحل مهني وأخلاقي، بينما هو في الواقع خلط خطير للأدوار. فالصيدلاني دوره علمي وصحي في المقام الأول، لضمان جودة الدواء وسلامة صرفه. إن تحميله أعباء الاستثمار والديون والتسيير الإداري لا يعزّز دوره العلمي، بل يُضعفه، ويحوّل الصيدلية إلى عبء مالي ضاغط بدل أن تكون خدمة صحية مستقرة.
الخلاصة: أي إصلاح نريد؟
إن التشريع الرشيد لا يُقاس بحسن النوايا ولا بالشعارات، بل:
•بسلامة المنهج،
•ووضوح الغاية،
•وموضوعية المعايير،
•واحترام الواقع،
• وصيانة التوازن بين التنظيم والاستثمار، وبين الجودة والاستقرار.
وكل قانون يُفرض قسرًا خارج هذه الضوابط، هو تشريع مرشّح للفشل، مهما كانت الذرائع، ومهما رُفع من شعارات، بما في ذلك شعار:
“يجب أن يُطبَّق لأنه أصبح قانونًا”،
حين يُعلم أن تمريره تم بتوجيه الأغلبية البرلمانية للتصويت عليه، رغم قناعة كثير من نواب الأغلبية بعكسه، وخضوعهم للالتزام الحزبي، في واقع يستغله المتلاعبون بالقانون وهم على علم تام بحقيقته.
خاتمة سياسية
إن هذا الرأي ليس موجّهًا ضد التنظيم، ولا ضد الصيدلاني، ولا ضد الدولة، بل هو نداء مسؤول لحماية الدولة من التشريع المنحرف، وحماية القانون من التوظيف، وحماية المواطن من دفع كلفة إصلاحات مفروضة خارج الواقع.
فالدولة القوية لا تُقاس بكثرة القوانين، بل بقدرتها على مراجعة اختياراتها حين يتبيّن الخلل، وبشجاعتها في تصويب المسار قبل تفاقم الأضرار. وهيبة القانون لا تُصان بالإكراه، بل تُصان بالعدل، وبالإنصاف، وبالاستماع الحقيقي لكل الشركاء
لسنا ضد التنظيم،
بل ضد التنظيم الأعمى.
لسنا ضد الصيدلاني،
بل ضد تحميله ما لا طاقة له به.
ولسنا ضد الإصلاح،
بل ضد الإصلاح الذي يُفرض قسرًا ويُقدَّم فاتورته للمواطن.
الرابطة الوطنية لمستثمري الصيدليات
Nouakchott-TVZ K extension 580
