المهرجانات الرسمية: منابر للتنمية والإحياء أم مناسبات للتبذير والإطراء؟- موقع الفكر

أحد, 21/12/2025 - 19:57

الراصد : جرت العادة السياسية عندنا في هذه البلاد، أن نبالغ في تبديد المال الموجّه لتنظيم المحافل واللقاءات الثقافية والسياسية التي تقترن غالبا بحضور الرئيس، دونما نظرٍ في قياس الأثر المالي الصعب الذي تستأثر به هذه الفعاليات من غير جدوى مدروسة للمبالغة في التبذير والعبث بأوجه الصرف.

ولسنا في وارد تخصيص مهرجان بعينه أو تظاهرة بذاتها حول هذه الظاهرة القاتلة للتخطيط المالي ولمعايير الإنفاق العمومي والمكرّسة للبذخ والفساد وصناعة صورة نمطية عكسية لهذه التظاهرات، بقدر ما نريد أن ننبه لخطورة وعواقب هذا المشهد البائد الذي هو أشبه شيء بتراجعِ خطابِ الاهتمام  بالحكامة السياسية والاقتصادية، وبتسويق وبدلا من ذلك تشجيع النفاق السياسي وإذكاء الاحتفالات الشكلية الواهمة في مبناها ومخرجاتها التنموية بطريقة أو بأخرى، ربما عن غير قصد مباشر.

أيضا ينعكس هذا المسعى في بروز ظواهر التزلف والتمجيد الكاذب على حساب ترسيخ المواطنة والانصراف لمداخل الإنماء.

ماذا يفيد إطراءٌ لقائد لم تؤيده شواهد البناء والإصلاح؟ والعكس بالعكس، نَعم للشعر مُثُلٌ قِيمِيّة ورُؤى إصلاحية في المجتمع، وهو منهج لمعرفة وفهم معاني الفتوة.     

ورَحِم اللهُ خليفة المسلمين العادل عمر بن عبد العزيز، فقد اجتمع جرير بن عطية وعمر بن أبي ربيعة وجميل بن معمر والأخطل عند بابه أيّاما لا يُؤذَنُ لهم، فاستعانوا برجاء بن حيوة فلم يسعى لهم، ثم بعديِّ بن أرطاة، فأعلمه بهم، وتشفّع لهم، فسأل عنهم واحدا واحدا..، فردّهم لديانة أو فجور أو صفاقة إلا جريرا  أذِن له، وقال: أما أنه الذي يقول:
طرقتك صائدة القلوب فليس ذا     حين الزيارة فارجعي بسلام.

فإن كان لا بد فهو، فدخل جرير وهو يقول:
إن الذي بعث النبي محمدا     جعل الخلافة للإمام العادل
وسع الخلائق عدله ووفاؤه     حتى ارعوى فأقام ميل المائل
إني لأرجو منك خيرا عاجلا     والنفس مولعة بحب العاجل

فلما مثل بين يديه قال: ويحك يا جرير، اتق الله ولا تقل إلا حقا، فأنشأ:

أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت     أم قد كفاني بما بلغت من خبري؟

إلى أن يقول: إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا     من الخليفة ما نرجو من المطر.

إلى أن يقول: الخير ما دمت حيا لا يفارقنا     بوركت يا عمر الخيران من عمر.

فقال: يا جرير، ما أرى لك فيما ها هنا حقا، قال: بلى يا أمير المؤمنين أنا ابن سبيل ومنقطع . فقال له الخليفة عمر: ويحك يا جرير لقد ولينا هذا الأمر وما نملك إلا ثلاثمائة( 300) درهم ، فمائة أخذها عبد الله ، ومائة أخذتها أم عبيد الله ، يا غلام أعطه المائة الباقية ، فأخذها وقال: والله لهي أحب من كل ما اكتسبته.

فلما خرج من عنده، سأله الشعراء: ما وراءك؟ قال: ما يسركم ، خرجت من عند أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء ويعطي الشعراء ، وإني عنه لراض ، وأنشأ يقول:

رأيت رقى الشيطان لا يستفزه     وقد كان شيطاني من الجن راقيا.

ومن هذه القصة المضيئة من تاريخ الحكم الإسلامي الراشد، يجدر بنا الاستلهام في التعاطي مع هذه الظواهر، فالخليفة عمر أقرّ بممتلكاته البالغة ثلاثمائة (300 ) درهم فقط، ووزّع ثروته على أساس معياري مُنصِف؛ يراعي أولوياته في حياته الخاصة وفي علاقاته الخارجية ضمن مسؤوليته السياسية.

وفي هذا إرشادٌ وتوجيهٌ لنا جميعا، ضدّ السرف  والمبالغة بكل أبعادها، في هذه المناسبات قطعا للطريق على كل الممارسات التي عفا عليها الزمن، وحتى لا تنقلِب نقمةً على الساكنة المحلية المستهدفة بدل أن تُحِيل لنعمة..، الساكنة لا تنتظر أناشيد وأغاني وتبادل خطب غير مفهومة، ولا تفهم المناكفات على المنصات وأبعادها عند ناظري ومنتظري الريع، إنها تريد شيئا يبقى معها ولها، بعد مغادرة الجحفل الجرار لذي قدم بين يدي حضور الرئيس وسيمتضي صهوة جياده مع مغادرة رئيس الجمهورية لوادان.. دون أن تكون لهم أدنى مرودية على الوادان.. لا من العلم ولا من التنمية.

فما أحوجنا لساسة لا يستفزُّهم مالا يبقى عبر الأجيال ينفع في حياة الإنسان وعطائه!