الراصد: المسابقات في هذا المصر متواتر فيها حصول الحيف والتلاعب بمجرياتها، حتى تلك التي قد يحسبها الناس مزكاة لتعلقها بمنظمات دولية مثلا، أو تعلقها بخبرات فنية لا مجال لخرق قيودها الصارمة، وتلك المنظمة من مكاتب محترفة ذات سمعة لا سلطة لديها على القرار النهائي. فكل ما يصل هذه البقعة "يزوي زي اطيورها" على درجات تختلف لكنها تتحد في قاسم التدخلات والوساطة.
سأسرد تجربتين شخصيتين من قصص ذلك الشأن، مما كنت عليه شاهدا لمشاركتي فيه، ولعلي "شاهد عصر" بحكم أني في عقدي الخامس ومر علي ثلاثة اجيال تجاوزا لي وأنا في منزلتي شبه الثابتة بين الكوس والنكرة الإدارية وظيفيا، باستثناء عمل خارج البلد نلته بمسار اختبار وتدريب مستقل تماما. شاهد عصر على المسابقات وأجواء البحث عن الوظيفة -خارج مجْيَفة السياسة والشللية- وما بلغت رتبة في وظيفة رسمية قط ولا قطاع خاص، فيسعني الحديث عن المسابقات التي كانت المنفذ الوحيد لأمثالي من دهماء المغضوب عليهم المعارضين دوما، الرافضين دوما للوساطة في المنافسة.
قبل سبع سنوات، بعد انتهاء عقد عمل في دولة خليجية، علمت عبر النت بمسابقة تجريها ممثلية منظمة دولية معروفة، ففرحت لذلك ظنا مني أن الأجانب بهم بعض "الحنبلية" في الالتزام والاستقامة في التنظيم وأنهم "أناجشة" عدل لا يظلم عندهم مشارك. كانت المراحل الأولى كلها مشجعة منها ولوج عبر الشبكة وتقديم ثم انتظار اختيار فرز أول shortlisting، ثم التواصل مع الذين تجاوزوا فرز الملفات والخلفيات، ثم التدقيق في تفاصيل السيّر التي تقرب من موضوع المسابقة وتؤهل له، وهكذا .. واستمر الفرز حتى بقينا أربعة عددا فحسب.
حدد لنا يوم الاختبار الذي كان هو الآخر منبئا عن جو تنظيمي محكم به مقابلة مباشرة واختبار يجرى على الكومبيوتر به اسئلة في المجال (وكان من فئة آخر مجال عملت به أربع سنوات في عقدي السابق خارج البلد، فاستبشرت حتى شردت بي من ذهني أقاصي خواطر الأمل بما سأفعل في مقبل عملي وكيف سأستخدم مزاياه المالية لسد خلتي تلك الأيام، ... حتى كدت اكون الأعرابي بائع الدهن حين غفا في قيلولته).
أجرينا المقابلة المباشرة فرادى أمام اللجنة وتضمنت حديثا عن المجال وجسا ذكيا لنبض اللغات الاجنبية (الفرنسية والانجليزية)، وكنت صاحب ميزة العربية في المشاركين (ولها وزن في عمل المنظمة خاصة في نطاقنا)، وبعض النواحي التنظيمية، وأتممت الاختبار المكمل للمقابلة، على الآلة وثبت إجاباته بمعية مشرف، وكان الجو وديا على ما أذكر.
خرجت بانطباع مريح لدرايتي بما قمت به، وانتظرت لاحقا، عبر الايميل كما هو مفترض، فالهيئة ملزمة في جميع الاحوال بإبلاغ النهائيين النتيجة والقرار، أيا كانت المعطيات، وكنت بكل موضوعية متقبلا مبدئيا للقرار مهما بلغت درجة التفاؤل لدي بناء على عملي، لكن ثغرات لاحقة اكدت لي ما يرفع تلك الثقة في الهيئة. مرت الأيام ثم تجاوزت الاسابيع المثنى وطال الأمد. خلال ذلك الانتظار، حدث ان لقيت أحد المقربين الأعزاء من شباب الأسرة خريج الولايات المتحدة وله مسار حافل بعضه مع المنظمات الدولية محليا بصفته خبيرا، فأتى بنا الحديث عرَضا على موضوعي ذاك، فتبسم قائلا: ذوك -وفق ما أكد لي زملاء خبروهم - اخلعن إيلا عاد امعدلين امعاك الامتحان أفراد من ذلك المكون الذي يغلب في فريقها المحلي .... ف-هارد لك، لأن الفريق يفضل "تجانسه" دوما! ذلك أن محدثي ذكر لي -وهو منظم اختبارات مهنية وخبير HR وتطوير لمكتب خبرة- ذكر لي أن بعض تلك الهيئات أحيانا تتحايل باعتماد معايير المنظمة الأم لأنها ملزمة لهم، لكن حين يضيق التنافس، فلهم مجال تقديم الحظوة لشللهم او محيطهم العرقي او القبلي، للتلاعب ببعض المجريات غير الحاسمة تماما اصلا لتغليبها في قرار الاختيار تحت ما لهم من سلطة تقدير وتوصية بعد ان يتم الاختبار كله "وفق المعايير". وبالفعل، حين استحضرت الموجودين يومها لاحظت أني كنت خارق التجانس تقريبا في المحيط.
لم يكن ذلك جديدا علي إذ أعلم من مرحلة سابقة في قطاع وزاري هنا أن اكتتاب بعض الخبراء يُتلاعب فيه بأناقة ومحسوبية ذكية بأن يبحث عن عامل ترجيح بعد سابق الاطلاع على السير الذاتية المتقدمة، وعلى الوظيفة، حتى يقوى طرف "مدعوم" فيعاد تصميم الثوب على قده في تفصيل معين غير معلن او مقحم بذكاء يبرع القائمون على الملفات في تكييفه. من ذلك احيانا أن ينظر إلى سيرة المحظي فيصمم اعلان الوظيفة على نحو يناسبها تماما،؛ فثمة لوبيات وشلل زمالات وتحيزات قبلية وعرقية احيانا.
بعد أيام، قررت الاتصال بمكتب المنظمة، بالسيدة التي كانت تحدثني في مراحل أولى، وهي ذات فرنسية مولييرية جيدة بلكنة افرانسيلية و تفخم راء القوم المغنغنة وتشبع المدود حيث ينبغي. اتصلت، وأتى الرد متلعثما متضمنا تصريف أفعال في الماضي المنتهي بلغة الفرنجة في la voie passive بناء للمجهول، بأن قد أنهي الموضوع وأرسل التقرير! شيء يذكّر بحوار مرسي الزناتي مع احمد بشأن "التورتة جات"، في "مدرسة المشاغبين"!
العجيب في المسألة، وهو أمر أثار شكي كثيرا، أن الناحية الإجرائية تفي بحق النهائيين في إبلاغهم بمكتوب رسمي على الإيميل بفحوى القرار، ضمن وقت محدد قريب عهد بالحسم، لأنه تترتب على علمهم قرارات خاصة بهم في مسارات أخرى؛ وهذا تفصيل يراعى أصلا من فطنة الأجانب وموضوعيتهم، وأغلب مكاتب الاكتتاب عبر العالم تعتمده، وقد يتضمن بعدا للتظلم والاستفسار، لكن اختزل ذلك كله محليا وذاب الملف في المجرى، وانتهت تلك التجربة بمرارة وصدمة لأني قست على ذلك وقارنت كيف سيكون الأمر لو كانت قطاعا محليا! لم يكن زعما للافضلية المطلقة، كلا، بل تذمرا من الطريقة والتعامل، وعدم راحة للقرار وحقيقة المسألة.
.. مسؤول المشروع نفسه يترافع ليزهدني في الوظيفة في هيئته:
فالتجارب مع المسابقات والاكتتابات المحلية موبوءة، كما تعلمون، ولأني اطلت على القارئ الفيسبوكي الممسك دوما قرن بقرة عند البئر، سأذكر باقتضاب إحداها لا تخلو من الطرافة المؤلمة. علمت عبر موقع beta عن اكتتاب لوظيفة في مشروع، قد لا تناسبني تماما (ما الهيه بيها حتته متطلبات مستوى وراتبا)، لكن كما يقال "لمقير اعمَ". تقدمت بملف، ثم أتيت يوم المقابلة. كان المسؤول الرئيسي إداريا شابا متهندما يلبس بلغة الموضة جلبابا مكستِمًا، ويتحدث فرنسية "تانغانا" ويبذل جهدا كرهبانية النصارى ما كتب عليه ومارعى نحوه حق رعايته، وبالحضور استاذ جامعي يرمقه بامتعاض (لعله حضر بصفته خبيرا في الجلسة، ولا سلطة قرار لديه لتوجيه المجريات). ودون أن اطيل التفاصيل كما وعدت، استوقفني توجيهه السؤال إلي فجأة وقد تفحص السيرة: أنت ذي الوظيفة أكبر منها سي-في-هك، اشلك بيها، هي أفطن عادية؟ قال شيئا على ذلك النحو (حتى اكون دقيقا دون حرفية تامة في النقل). قال ذلك بابتسامة مقحمة على خريطة تقاسيم وجهه، كأنه يقول بلسان الحال: اشلك بتشقبن واحن عندن حد .. لم ار يوما رب عمل مهني يستتفه وظيفة اتى ليقابل مشاركا في اختبارها!
حاولت التجمل باللباقة والرد بما معناه عن ول آدم ما يكبر عن غايةُ! حصلت بعض المجريات غير الحاسمة حتى تسرد هنا، ورفعت الجلسة، وخرجت ولم أعد، ف"الجواب باين من عنوان": لكن امتعضت من تلك الطريقة في التعامل وقلة المهنية.
أما ما حصل معي وبعض المشاركين عام 2012 في مسابقة عمومية أخرى، فسيركٌ إداري مكتمل العناصر، ولو حصل في بلد آخر، لاستوجب دعوى قانونية وتحمل مسؤولية من الطرف المنظم وإلزامه بتعويض واعتذار موثق.
القصص عديدة، وبعضها غريب ..
تحياتي، من هامش كرسي المداومة في مكتب الكواسة الوطنيين السامين (ك.و.س)، ؤعين مشرومة نحو جهة الخليج ومثلث اللاتين الأوروبي الغربي، وأخرى على الإيميل، هربا من هذه البقعة وطمعا فيما عند الله
لكصر الجنوبي - خط عرض شارع سيتيرنات
نهاركم سعيد،
#إلذاك