الراصد : هناك ستة أنواع من النظم السياسية: الجيدة عندما تفسد تتحول إلى الملكية المستنيرة فالملكية الاستبدادية،
والأرستقراطية إلى الأوليغارشية فالديمقراطية الفوضوية (حكم الغوغاء) / ميكيافيللي / كتاب المطارحات
تعرف الأرستقراطية aristocracy – المركبة من كلمتين يونانيتين aristos وتعني الفاضل أو الجيّد و kratos وتعني القوة أو السلطة – على أنها تفيد في المدلول الأصلي حكم أفضل المواطنين لجميع الشعب. فالأرستقراطية بهذا المنطق هي إِذن “حكم الأفضلية،” وبهذا المعنى استخدمها
أفلاطون في “الجمهورية” وأرسطو في “السياسة” وكان كلاهما يعتقد أن الحكومة الأرستقراطية أفضل أنواع الحكومات وأكثرها عدلاً، ولكنهما أبديا ارتياباً في قدرتها على الديمومة. في الكتاب الثامن من الجمهورية يقول أفلاطون: “إِذا انحرفت الأرستقراطية وتحول أبناؤها إِلى إِيثار الثروة على الشرف تحولت إِلى الأوليغارشيا oligarchy) حكم القلة) التي لبابها جَعْلُ الثروة أساس الجدارة وهو إِثم فظيع”. وأما العشائرية فتعتبر مرحلة متقدمة من مراحل تطور المجتمع البشري في التاريخ وتمتد جذورها إلى آلاف السنين. وهي بذلك مرحلة انتقالية من مجتمع الصيد والمشاعة البدائية في العصور الحجرية، إلى مرحلة تكوين الشعوب والدول ما جعلها تعد مرحلة متقدمة على ما قبلها علما بأنها سبقت تكوين الشعب والأمة والدولة التي تبعث فيها الحياة ولكنها متخلفة بالنسبة لما بعدها. والعشائرية تنشط في فترات ضعف الدولة ومراحل الانحطاط الحضاري والانهيار الفكري لتجعل قوتها تتناسب عكسياً مع قوة الدولة. ومنذ أن أوجد الله بقدرته ومشيئته وأمره الأرض وما عليها فخلق الإنسان وجعله مستخلفا ومؤتمنا فيها ولتصبح الأسرة اللبنة الأولى في بناء المجتمع الإنساني ولتكبر الأسرة فتشكل العائلة ثم العشيرة. ولأن الإنسان مدني بالطبع فقد كانت العشيرة أول وأقدم مجتمع منظم ظهر في التاريخ في حقبة ما قبل الدولة، وهي التي شكلت المجتمع البدائي تحت ضغط الحاجات المعيشية الملحة مشكلة أولى الصور في التكافل الاجتماعي والاقتصادي والأمني حيث كان النمط الرعوي هو السائد. وقد رافق ذلك بالضرورة الترحال في البحث المستمر عن الكلأ والماء ما كان يؤدى حتما إلى نشوب النزاعات والحروب والغزوات بين هذه العشائر وترسخ قاعدة “انصر أخاك ظالما أو مظلوما بالمعنى الحرفي” حيث كانت القوة والكثرة تحددان مكانة العشائر وتقيسان قدر المقام فيما بينها. وتطورت الأمور والحاجات الملحة إلى حد السعي بكل الوسائل إلى الحفاظ على الذات العشائرية والمصالح الكبرى فنشأت التحالفات العشائرية. وفي تاريخنا الذي هو جزء من التاريخ العربي أمثلة على الحروب العشائرية كحروب “داحس والغبراء” و”حرب البسوس”، من مثل حرب “شر ببه” وغيرها مما كانت المصالح والسيطرة على الغير من أسبابها الرئيسية. و بالطبع فقد تسبب الولاء للعشيرة في عدم التمكن من الانتقال إلى مرحله الولاء الجمعي و تشكل الدولة الجامعة المانعة كما كان الحال في المغرب المجاور و لا حقا السنغال المحاذي بعدما تشكل وعي عام بضرورة قيام الدولة بمقتضيات العصر التي وفدت مع المستعمر الفرنسي. يقول عبد الخالق حسين “إن العرب قبل الإسلام كانوا قبائل معظمها متنقلة وفي حروب دائمة فيما بينها على موارد الصحراء الشحيحة و إن الإسلام الحنيف هو الذي وحَّدَ هذه القبائل وصهرها في شعب وأسس لهم دولة، فحول طاقات القبائل القتالية فيما بينها إلى حروب وفتوحات خارجية بدافع الفوز بالدارين، الغنائم في الدنيا والجنة في الآخرة. ولا يعني هذا أن العشائرية والقبلية قد انتهت في عهد الدولة الإسلامية، لأن عملية التخلي عن هذه المكونات الاجتماعية يستغرق وقتاً طويلاً، ولأن وسائل وعلاقات الإنتاج في الدولة الإسلامية لم تتغير كثيراً عما كانت عليه قبل الإسلام”. ويقول كارل ماركس ” إن تطور المجتمعات البشرية يحصل خارج وعي الإنسان، وإن قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج واصطراعهما هي القوى المحركة للتاريخ والتحولات الاجتماعية”.
صحيح أننا في هذه المنكب لا نطيق “النقد” بل لا نتقبله، وصحيح بالمقابل أن “عيوبنا” بقدر “أخطائنا” في كل محطات مسار قيام هذه الدولة التي فرضت أقدار الاستعمار وعوامل التعرية من الأسس المنطقية والتاريخية والاجتماعية من قبل مقدمه قيامها على هذه المساحة الشاسعة من الأراضي الوعرة والفيافي الفاصلة بين ضفتي الحياة الممكنة في الفضاء العربي المغاربي وفي أطراف الغرب إفريقي الخصب؛ عيوب تفقأ العيون وأخطاء تقض مضاجع أصحاب أقل قدر من حياء المدنية وسمو التحضر، أخطاء في المعاملات تغالط، من حيث ما لا يكون محتسبا، أحكام الدين من خلال استسهال التأويل “المرحلي الغرضي” وفي استحالة الاعتراف بهذه الأخطاء، تستمر المخاطرة بالعقيدة من خلال احتراف البعض لي أعناق النصوص في المخالفات التي تغلب عليها صبغة بعض “الاعتبارات” الاجتماعية السابقة على دخول الإسلام، والعادات والتقاليد بقيت تقوم في مجملها مقام “العرف” الثابت العصي.
وتبرر الأفعال والأقوال بما يخالف مدلول النصوص القرآنية ومتن السنة. فالحنث بالأيمان يجد في التحايل مخرجا ويتخذ الظلم في التأويلات المبتذلة مبررا ويحتمي مرتكبو جرم النهب الفاضح للمال العام، ويجد أهل العلامات البارزة للقوة والريادة والنفوذ والسيادة وراء مبررات أصحاب الحجة وفصل الخطاب من حواشيهم وأتباعهم لتأكيد ضرورة قوتهم في الحكم وجوهرية وجرأة قرارهم لفرض الاستقرار وتماسك الدولة.. “إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ”. وفي سياقات ضعف الدول بفعل ديمومة الأنظمة الاقطاعية التراتبية، فإن القَبيلة تُصفى من نبلها لتصبح شلة والعشيرة عصابة، والأسر الارستقراطية حرابا ونصالا في وجه كل ملمح سلطة أو قيادة ناضجة، والإثنية نعرات، والشريحة بوقا بفوهتين تنفخان إلى الأعلى في السياق الشامل وإلى الأسفل في السياق التمردي على القوالب العصية على التحول.. حقيقة أخرى ماثلة بكل وقاحة التعَمد وتحدي الحداثة ورفض إشراق التنوير.
ولإن القبيلة لم تعد كما كان حالها على نواقصها:
-وحدة صف،
-وشورى متبعة،
-وسد متراص الأطراف،
-ومساحة للقيم،
-ومفتخر للجميع،
فإنها تقلصت إلى حد ضاقت معه العشائرية وانحسر الزخم في بضع أسر ارستقراطية منتقاة ضمن خضم التشرذم وانفراط العقد، بعيدا عن دائرة المشورة والتفاهم وفي غياب الأخذ بالمعايير الموضوعية من دون العامة حضور العامة، ثبت لها الجاه واستتب النفوذ واجتمع المال وأذعنت الحواشي.. أسر حفظت للقبيلة بقاء غير سوي على أرض الواقع لأن الشرخ المعنوي والمادي بينها وبين العمق أضحى سحيقا والتواصل والاحتكاك قليلا إلا فيما يكون عند حلول المواسم الاستحقاقية السياسية وغيرها مما يشتم فيه النفع المادي العرضي. وهي الأسر التي شكلت منذ فترة قصيرة طبقة بورجوازية، تحت سقف الارستقراطية الفجة، وتتميز بأنها تدير اليوم القيمة السوقية والإنتاج، تلعب دورا محوريا وتمتلك شأنا كبيرا في إدارة البلاد. وهي الحقيقة التي عبرت عنها ذات مرة إحدى المواطنات من إحدى أقاصي ولاية البلد أمام عدسة إحدى القنوات التلفزيونية الوطنية على هامش زيارة رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز عندما كانت تعدد جملة المشاكل التي تعانيها جهتها ومنها:
- ندرة ماء الشرب،
- ضعف التغطية الصحية،
- سوء الوضعية التعليمية،
- مضاعفات العزلة بسبب ضعف شبكة الطرق وسوء حالتها لتختم مؤكدة بصوت جهوري وبصراحة غير معهودة وجرأة نادرة وقناعة مطلقة أن السبب في هذه الوضعية المزرية هم أفراد طبقة “الوجهاء” وعدم أهلية أي منهم للتعبير بإخلاص وتجرد من المطامع الأنانية عن وضع الجهة وأهلها وعدم القدرة على جلب المنافع إليها وصد الأزمات عنها أو بحث الحلول لها؛ تعبير لا يحتاج إلى إسهاب في التفسير، فلقد أظهرت الهوة السحيقة بين القاعدة العامة من المنتمين إلى المجموعات القبلية وبين من يزعمون حمل لواء الصدارة والتمثيل على هرمها. وبالطبع فقد زادت هذه الوضعية الجديدة من هشاشة المواطن الذي لم يعد يعرف أين يرمي بـأعبائه الكثيرة، وقواه العقلية المسلوبة والبدنية الخائرة كلها داخل كيان أوهن من بيت العنكبوت. ولولا عناية الله وحفظه بالإسلام كيان البلد من مزالق كل الظواهر التي ما تنفك نخبه الرجعية، الضائعة بين “غياب العطاء” والنكوص بمواثيق وقيم وأخلاق الثقافة والاستسلام لوهم “التميز” و” الفرادة” ودثار “النرجسية”، تغلق كل سبل وفجاج الصمود أمام موانع البقاء في عصر لا مكان فيه للضعفاء.