الراصد : عندما تسابق الأمين و المأمون أبناء الخليفة العباسي هارون الرشيد ذات يوم؛ لمّا أنهى معلمهما درسه، و نهض لينصرف، فركضا إلى نعليه، و تزاحما، و تشاجرا عليهما أيهما يحملهما، و يقدمهما للمعلم، إكراما له، و تقديرا لمكانته؛ ثم اتفقا على أن يحمل كل واحد منهما فردة من نعال المعلم ليقدمها له؛ أظهرا بذلك أدبا تاما، و صنعة حسنة، و هما أميران، و أبناء خليفة المسلمين؛ أيام عز الدولة الإسلامية، و هو الذي كان يقول للسحابة عند ما تمر من فوقه: أمطري حيث شئت فإن خراجك سيعود إلينا، الخليفة هارون الرشيد لم يفته المشهد؛ فلقد كان يرقبه دون شعور المعلم، أو حتى الأميران، وطبعا أعجبه ما رأى من ولديه، و أكبر صنيعهما، و في اليوم الموالي سأل الخليفة هارون الرشيد معلم ولديه: من أعز الناس؟ أجاب المعلم: أنت يا أمير المؤمنين، أعزك الله، و من أعز منك؟، قال الرشيد: بل أعز الناس من يتسابق ولدا أمير المؤمنين، و وليا عهده لتقديم الحذاء له و إلباسه إياه، و طبعا أصابت المعلم الرهبة، و ظن أن الخليفة غاضب منه، و أنه سيعاقبه على ما حصل، و لكن الخليفة أقبل على إكرامه و أثنى عليه، و ذلك تقديرا منه لفضل العلم، و مكانة المعلم الناصح الأمين.
و من أجمل ما قيل في هذا الموقف ذلك الكلام الطيب الذي ختم به الرشيد كلامه و هو يخاطب هذا المعلم فقال له: (لقد سرني ما قاما به، إن المرء لا يكبر عن ثلاث صفات : تواضعه لسلطانه، و لوالديه، و لمعلمه).
لمّا كان المجتمع الإسلامي مجتمع قيم و أخلاق كانت هذه صفات أرفع بيت فيه، و هو البيت الذي يؤوي أكثر الشخصيات عزا و مهابة، و كان معلم الناس الخير يحظى بكريم العناية و فائق التقدير، ترسما لكلام المصطفى صلى الله عليه وسلم: ( إن الله وملائكته و أهل السَّموات و الأرض حتى النملة في جحرها و حتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير) الترمذي- صححه الألباني (صحيح الجامع).
كان معلم الناس الخير يحظى بالتبجيل والإكرام، عرفانا منهم أنه الشمعة المضيئة التي تنير طريقهم في الليالي الداجيات، و أنه هو جسر العبور الآمن و قنطرة الاجتياز المُطَمْئِنَة، فنالوا بذلك فضل علمه، و تعلقوا بمعالِ الأمور، و هجروا سفسافها، فضمهم سمط الثريا، و تعلقوا بها فنالوا منالها.
أما في يومنا هذا فقد تقهقرت تلك المحامد و الأفضال، فذاع ضرب المعلمين، و تسيَّد المهرج، و بهت غير المخنث، و صار عقد الجمان محصورا في تمجيد فلان أو علاّن من طرف هؤلاء المهرجين و المخنثين؛ في صورة مقززة تعكس مستوى التشبع المادي المترف؛ قرين الفسق، عند من يتعاطون مع هذه الظواهر، و حقيقة الأمر أنه ينبئ بانحدار أخلاقي غير مسبوق، فباكورة الحديث اليوم في أغلب المجالس؛ تسليعٌ للقيم ،و تلاشٍ للأخلاق، و استجداء للنفع المادي على حساب بقية الفضيلة!.
تصوروا معي أن يُضرب معلم، أو يهان من طرف إنسان واعٍ!، من طرف شخص سويٍ؛ ذي مكانة، أو له مهابة، مرتب في أي سلطة، أو خلاف ذلك، إنه مشهدٌ مخزٍ و مذل، ومهين للفاعل قبل المفعول.. علينا أن نتلافى شيئا من أنفسنا؛ فالأمم دون الأخلاق سراب، وبالدوس عليها يكون تشييدها خراب.
إن الحالة التي وصلنا إليها من انحسار الأخلاق وارتكاس الفضيلة؛ تشي بعدمية مكنون من تصدر عنهم هذه الأفعال وعبثية هممهم..
ولقد صدق أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
و عطفا على ما تقدم؛ عطفا لا يقتضي المغايرة، بل يؤكد التشريك و يظهر الاقتران؛ ما أصبح يتضوع من نتانة البذاءات القادمة من قبة البرلمان، غرفة التشريع!، و عجيب أمر أصحاب التشريع اليوم؛ من ضاربٍ للملعم؛ و هو صانع العقول، و مهذب الأدمغة؛ إلى ناشرٍ للسفاهة و فحش القول، و خلاعة اللسان، و قبح البيان، فإذا كان بالإمكان أن يسلم موظف في الحكومة اليوم أو أي إنسان في هذه البلاد له علاقة بالهم العام؛ إلا من خرقات في التسيير إن وجدت، يسلم الوزير الأول الذي كان محل النقد الجارح للحياء هذا، الخادش للذوق السليم، و بعيدا عن السياسية؛ و بعيدا عن الاعتبارات اللونية المقيتة، و الحسابات الطينية الفانية، فإنه يمكن القول أن الرجل بدل وصفه بساقط الكلام الذي صدر من (نائبة)، بل الأكيد؛ إذا قيل فيه أنه صِدقًا ينسق عمله الحكومي بطبيعة هادئة؛ عناوينها البارزة: صفر مشكلة مع الوزراء؛ صفر عداوة؛ و الظاهر أن ذلك مرده عدم التدخل في صلاحيات الآخرين، و عدم الشطط في استخدام السلطة، و التخلي عن الحقد، و التحلي بالألفة، و إضفاء السكينة على المشهد العام، و ما شهدنا إلا بما يشهد به كل من ينظر إلى مجريات الأمور برؤية حيادية.
و ختاما أحسن عنترة بن شداد حين قال:
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ولا ينال العلا من طبعه الغضب